- الموافق
- كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم
مناقب ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(ح14) قصة عمر بن الخطاب t مع سراقة بن مالك رضي الله عنه
الحَمْدُ للهِ مُنْزِلِ الكِتَابْ، وَمُجْرِي السَّحَابْ، وَهَازِمِ الأَحْزَابِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا محمد، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أُولِي الأَلْبَابْ، وَعَلَى وَزِيرَيهِ: أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقْ، مَنْ لِدَعْوَةِ الحَقِّ استَجَابْ، وَالفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابْ، الحَاكِمِ بِالعَدْلِ، وَالنَّاطِقِ بِالصَّوَابْ، ارزُقنَا الَّلهُمَّ خَلِيفَةً مِثْلَهُ، يَخَافُكَ وَيَتَّقِيكَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتَرْضَى عَنْهُ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابْ، وَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمرَتِهِمْ، بِرَحْمَتِكَ يَا كَرِيمُ يَا وَهَّابْ... آمِينَ.
أيها المؤمنون:
أحبتنا الكرام:
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"مَنَاقِبُ ثَانِي الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ t ". وَمَعَ الحَلْقَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "قِصَّةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ t مَعَ سُرَاقَةَ بنِ مَالِكٍ t ". نَقُولُ وَبِاللهِ التَّوفِيقُ:
رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ قَالَ: «أَخْبَرَنَا غَيرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، أَنَّهُ لَـمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ بِمَا أُصِيبَ بِالعِرَاقِ قَالَ لَهُ (صَاحِبُ بَيتِ الـمَالِ) أَنَا أُدْخِلُهُ بَيتَ الـمَالِ. قَالَ: لَا وَرَبِّ الكَعْبَةِ لَا يُؤْوَى تَحْتَ سَقْفِ بَيتٍ حَتَّى أُقَسِّمَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَوُضِعَ فِي الـمَسْجِدِ، وَوُضِعَتْ عَلَيهِ الأَنْطَاعُ، وَحَرَسَهُ رِجَالٌ مِنَ الـمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَ(الأَنْطَاعُ) مُفْرَدُهَا (نَطْعٌ) وَهُوَ بِسَاطٌ مِنْ جِلْدٍ يُفْرَشُ تَحْتَ الـمَحْكُومِ عَلَيهِ بِالقَتْلِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا مَعَهُ العَبَّاسُ بْنُ عَبدِ الـمُطَّلِبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوفٍ، آخِذًا بِيَدِ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ كَشَفُوا الأَنْطَاعَ عَنِ الأَمْوَالِ. فَرَأَى مَنْظَرًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، رَأَى الذَّهَبَ فِيهِ وَاليَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ وَاللُّؤْلُؤَ يَتَلَأْلَأُ فَبَكَى. فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ وَاللهِ مَا هُوَ بِيَومِ بُكَاءٍ، وَلَكِنَّهُ يَومُ شُـكْـٍر وَسُرُورِ. فَقَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا ذَهَبْتُ حَيثُ ذَهَبْتَ، وَلَكِنَّهُ مَا كَثُرَ هَذَا فِي قَـومٍ قَـطُّ إِلَّا وَقَعَ بَأْسُهُمْ بَينَهُمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى القِبْلَةِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّـمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ مُسْتَدْرَجًا، فَإِنِّي أَسْمَعُكَ تَقُولُ: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيثُ لَا يَعْلَمُونَ). (الأَعْرَافُ) ثُمَّ قَالَ: أَينَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمَ؟ فَأُتِيَ بِهِ أَشْعَرَ الذِّرَاعَينِ دَقِيقَهُمَا، فَأَعْطَاهُ سِوَارِيْ كِسْرَى، فَقَالَ: البِسْهُمَا، فَفَعَلَ. فَقَالَ: قُلِ اللهُ أَكْبَرُ. قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ. قُلِ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ وَأَلبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشَمَ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي مُدْلِجَ. وَجَعَلَ يُقَلِّبُ ذَلِكَ بِعَصًا فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَدَّى هَذَا لَأَمِينٌ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَنَا أُخْبِرُكَ، أَنْتَ أَمِينُ اللهِ، وَهُمْ يُؤَدُّونَ إِلَيكَ مَا أَدَّيتَ إِلَى اللهِ، فَإِذَا رَتَعْتَ رَتَعُوا. قَالَ: صَدَقْتَ، ثُمَّ فَرَّقَهُ».
كَثُرَ الكَلَامُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَبَلَدٍ، وَوَسِيلَةِ إِعْلَامٍ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ عَنِ الإِصْلَاحِ، وَمُحَارَبَةِ الفَسَادِ، وَالوُقُوفِ أَمَامَ الفَاسِدِينَ، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ فِي كَلَامٍ، وَلَا وُجُودَ لهَذَا الإِصْلَاحِ عَلَى أَرْضِ الوَاقِعِ، فَالفَسَادُ مُنْتَشِرٌفِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالفَاسِدُونَ مَوجُودُونَ فِي كُلِّ مَوقِعٍ، وَطَاقَاتُ، وَقُدُرَاتُ، وَأَمْوَالُ الأُمَّةِ مَسْرُوقَةٌ مَنْهُوبَةٌ، وَالشَّعْبُ المسْكِينُ فِي عَالَمِنَا العَرَبِيِّ لَا يَملِكُ شَيئًا.. وَتَذَكَّرْتُ فِي هَذَا الجَوِّ العَجِيبِ الصَّحَابَةَ، وَخَلِيفَتَهُمُ الرَّاشِدَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ t حَيثُ كَانَ هُوَ القُدْوَةَ العَمَلِيَّةَ لَهُمْ فِي الإِصْلَاحِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَمَا أَكْثَرَ الموَاقِفِ مِنْ حَيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الأَمْرِ.
كَان كِسْرَى الفُرْسِ مُتْرفًا، وَكَانَ يَملِكُ القَنَاطِيرَ المقَنْطَرَةَ مِنَ الذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَالأَثَاثِ، وَالمتَاعِ، وَلَمَّا انتَصَرَ المسْلِمُونَ عَلَيهِ هَرَبَ مِنْ عَاصِمَتِهِ "المدَائِنِ"، وَتَرَكَ كُلَّ ثَرْوَتِهِ وَرَاءَهُ، وَغَنِمَ المجَاهِدُونَ كُلَّ شَيءٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا غَنِمُوهُ سِوَارَ كِسْرَى، وَتَاجَهُ، وَكِسْوَتَهُ، وَبِسَاطَهُ، وَأَعْطَى القَائِدُ سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ t المجَاهِدِينَ نَصِيبَهُمْ، وَكَانَ كَثِيرًا، بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الغَنَائِمِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الخَلِيفَةِ فِي المدِينَةِ نَصِيبَ بَيتِ المالِ مِنَ الغَنَائِمِ، وَهُو الخُمْسُ، وَكَانَ كَبِيرًا يُقَدَّرُ بِالملَايِينِ .. وَأَمَرَ عُمَرُ بِوَضْعِ هَذِهِ الغَنَائِمَ فِي بَيتِ المالِ.. وَبَعْدَ مَا أَدَّوُا الصَّلَاةَ أَرَادَ عُمَرُ t أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الغَنَائِمِ، فَتَوَجَّهَ إِلَى مَقَرِّ بَيتِ المالِ، وَمَعَهُ مَجمُوعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ t ، وَنَظَرُوا إِلَى الغَنَائِمِ، وَكَثْرَتِهَا، وَنَفَاسَتِهَا، وَارتِفَاعِ ثَمَنِهَا.. فَأُعْجِبَ عُمَرُ t بِذَلِكَ، وَشَكَرَ اللهَ عَلَيهِ.. ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ t بِكَلِمَةٍ عَجِيبَةٍ، رَدَّ عَلَيهَا عَلِيٌّ t بِرَدٍّ أَعْجَبَ!!
إِنَّ كَلَامَ عُمَرَ t ، وَرَدَّ عَلِيٍّ t لَيَصْلُحَانِ أَسَاسًا لِخُطَّةِ الإِصْلَاحِ، وَمُحَارَبَةِ الفَسَادِ! قَالَ عُمَرُ t يَمْدَحُ رِجَالَهُ: "إِنَّ قَومًا أَدُّوا هَذَا لِبَيتِ المالِ لَأُمَنَاءُ!!"، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ t : "يَا أَمِيرَ المؤْمِنِينَ: لَقَدْ عَفَفْتَ؛ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَو رَتَعْتَ لَرَتَعُوا!!". أَيْ: كُنْتَ أَمِينًا قَبْلَهُمْ، فَاقْتَدَوا بِكَ فِي الأَمَانَةِ، فَصَارُوا أُمَنَاءَ! لَقَدْ عَفَفْتَ أَنْتَ عَنْ أَمْوَالِ الأُمَّةِ، وَلَم تَأْخُذْ شَيئًا مِنَ المالِ العَامِّ، فَعَفُّوا هُمْ مِثْلُكَ، وَلَم يَأْخُذُوا مِنْهُ دِرْهمًا، وَلَا دِينَارًا .. وَلَوْ رَتَعْتَ فِي المالِ العَامِّ لَرَتَعُوا، وَلَو سَرَقْتَ مِنهُ لَسَرَقُوا، وَلَو جَمَعْتَ مِنهُ الملَايينَ لجَمَعُوا مِنهُ مَا استَطَاعُوا، فَأنْتَ القُدْوَةُ لَهُمْ. لَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ t فِي قِمَّةِ الذَّكَاءِ، وَهُوَ يَضَعُ أُصبُعَهُ عَلَى أَسَاسِ الصَّلَاحِ، وَالفَسَادِ فِي الأُمَّةِ، يَجِبُ عَلَى كُلِّ جَادٍّ، وَصَادِقٍ فِي تَحقِيقِ الإِصْلَاحِ، وَمُحَارَبَةِ الفَسَادِ، فِي أَيِّ بَلَدٍ فِي هَذَا العَالَمِ أَنْ يَأْخُذَ مُعَادَلَةَ عَلِيٍّ t .. إِنَّ الأَسَاسَ فِي عَمَلِيَّةِ الإِصْلَاحِ، وَمُحَارَبَةِ الفَسَادِ هُوَ الزَّعِيمُ، الحَاكِمُ، المسْئُولُ، رَأْسُ النِّظَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَلِكًا، أَمْ رَئِيسَ جُمهُورِيَّةٍ، أَمْ رَئِيسَ مَجْلِسِ قِيَادَةِ الثَّوْرَةِ .. إِذَا "عَفَّ" هَذَا المسئُولُ الأَوَّلُ "عَفَّ" رِجَالُهُ، وَوُزَرَاؤُهُ سَيَفْعَلُونَ مِثْلَهُ .. فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ وَضْعَ بَلَدٍ فِي هَذَا العَالَمِ فَانْظُرْ إِلَى تَصَرُّفِ المسْئُولِ الأَوَّلِ فِيهِ!! وَرَضِيَ اللهُ عَنْكَ يَا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَدْ وَضَعْتَ المعَادَلَةَ الصَّادِقَةَ فِي الإِصْلَاحِ، وَمُحَارَبَةِ الفَسَادِ: إِذَا عَفَّ الحَاكِمُ عَفَّتِ الرَّعِيَّةُ، وَإِذَا رَتَعَ الحَاكِمُ رَتَعَتِ الرَّعِيَّةُ، وَاللهُ المسْتَعَانُ!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا،نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ: محمد أحمد النادي