- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح268) الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون الواردة في آيات سورة الفرقان
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ"وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةِ وَالسِّتِّينَ بَعدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون كما وردت في آيات سورة الفرقان". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ: التَّاسِعَةِ وَالثَّلاثِينَ، وَالأَربَعِينَ بَعدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِ القُرانِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الإِنسَانُ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الفُرقَانِ: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا].
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجًا وَدُستُورًا، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَامًا لِلْحَياَة، أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ:
أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ كِتَابَ:«نِظَامِ الإِسْلَامِ» هَذَا الكِتَابُ الَّذِي عَرَضْنَاهُ عَلَيكُمْ عَرْضًا مُفَصَّلًا، وَقَدْ أَوْشَكْنَا عَلَى الانتِهَاءِ مِنْ عَرضِهِ، بَيَّنَ فِيهِ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ الأَجِلَّاءُ لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا دِينَ الإِسلَامِ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ العَالَـمِينَ، ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ الكَامِلُ، والشَّامِلُ لِجَمِيعِ شُؤُونِ الحَيَاةِ، بِصُورَتِهِ النَّاصِعَةِ الوَاضِحَةِ، وَحَقِيقَتِهِ النَّقِيَّةِ الصَّافِيَةِ الـمُبَلْوَرَةِ.
وَفي خِتَامِ كِتَابِ «نِظَامِ الإِسْلَامِ» حَتَّى لَا تَلْتَبِسَ سَبِيلِ النَّهْضَةِ عَلَى السَّائِرِينَ، بَحَثَ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ مَوضُوعًا في غَايَةِ الأَهَمِّيَّةِ، أَلَا وَهُوَ «الأَخلَاقُ فِي الإِسلَامِ» وَلِكَيْ يَسْهُلَ تَنَاوُلَنَا لَهْ ارْتأَينَا تَجزِئَتَهُ لِعِدَّةِ أَجْزَاءَ، وَإِلَيكُمُ الجُزْءَ الخَامِسِ مِنهُ.
وَيُمكِنُ بَيَانُ وَإِبرَازُ مَا كَتَبَهُ الأُستَاذُ سَيِّد قُطْب - رَحِمَهُ اللهُ - «فِي ظِلَالِ القُرآنِ» حَولَ آيَاتِ سُورَةِ الفُرقَان مِنْ خِلَالِ النُّقَاطِ الآتِيَةِ:
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِ القُرآنِ الكَرِيمِ الأَخلَاقَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الـمُؤْمِنُونَ. فَفِي سُورَةِ الفُرقَانَ ذَكَرَ صِفَاتِ الـمُؤْمِنِينَ، وَسَمَّاهُمْ «عِبادُ الرَّحْمنِ» ذَلِكَ الاسمُ الـمُحَبَّبُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَيُشْرُفُون بالاِنتِسَابِ إِلَيهِ، وَيَشعُرونَ بِالطُمَأنِينَةِ وَهُمْ يُؤمِنُونَ بِهِ، فَهُمْ عِبَادُهُ، وَهُوَ خَالِقِهِمُ الـمُنْعِمُ الـمُتَفَضِّلُ عَلَيهِمْ بِنِعَمِهِ العَظِيمَةِ، وَآلَائِهِ الجَسِيمَةِ، وَفَوقَ ذَلِكَ فَهُوَ بـِهِمْ رَحِيم.
- يَبرُزُ «عِبادُ الرَّحْمنِ» بِصِفَاتِهِمُ الـمُمَيَّزَةِ، وُمُقَوِّمَاتِهِم الخَاصَّةِ، وَكَأَنَّـمَا هُمْ خُلَاصَةُ البَشَرِيَّةِ فِي نِهَايَةِ الـمَعركَةِ الطَّوِيلَةِ بَينَ الهُدَى وَالضَّلَالِ. بَينَ البَشَرِيَّةِ الجَاحِدَةِ الـمُشَاقَّةِ، وَالرُّسُلِ الَّذِينَ يَحمِلُونَ الهُدَى لِهَذِهِ البَشَرِيَّةِ. وَكَأَنَّمَا هُمُ الثَّمَرَةُ الجَنِيَّةُ لِذَلِكَ الجِهَادَ الشَّاقَّ الطَّوِيلَ، وَالعَزَاءَ الـمُرِيحَ لِحَمَلَةِ الهُدَى فِيمَا لَاقَوهُ مِنْ جُحُودٍ وَصَلَادَةٍ وَإِعْرَاضٍ!
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» يَعْرِفُونَ «الرَّحْمنُ»، وَيَستَحِقُّونَ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَيهِ، وَأَنْ يَكُونُوا عِبَادَهُ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» بِصِفَاتِـهِمُ الـمُمَيَّزَةِ، وَمُقَوِّمَاتِ نُفُوسِهِمْ، وَسُلُوكِهِمْ، وَحَيَاتِـهِمْ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» مُثُلًا حَيَّةً وَاقِعِيَّةً لِلجَمَاعَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا الإِسْلَامُ، وَلِلنُّفُوسِ الَّتِي يُنْشِئُهَا بِمَنْهَجِهِ التَّربَوِيِّ القَوِيمِ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» الَّذِينَ يَستَحِقُّونَ أَنْ يَعْبَأَ بِـهِمُ اللّهُ فِي الأَرْضِ، وَيُوَجِّهَ إِلَيهِمْ عِنَايَتَهُ فَالبَشَرُ كُلُّهُمْ أَهْوَنُ عَلَى اللّهِ مِنْ أَنْ يَعْبَأَ بِـهِمْ، لَولَا أَنَّ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ، وَلَولَا أَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيهِ بِالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ.
- السِّمَةُ الأُولَى مِنْ سِمَاتِ «عِبادِ الرَّحْمنِ» أَنـَّهُمْ يـَمْشُونَ عَلَى الأَرضِ مِشْيَةً سَهْلَةً هَيِّنَةً، لَيسَ فِيهَا تَكَلُّفٌ وَلَا تَصَنُّعٌ، وَلَيسَ فِيهَا خُيَلَاءُ، وَلَا تَصْعِيرُ خَدٍّ، وَلَا تَرَهُّلٌ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» وَهُمْ فِي جِدِّهِمْ وَوَقَارِهِمْ وَقَصْدِهِمْ إِلَى مَا يُشْغِلُ نُفُوسَهُمْ مِنَ اهتِمَامَاتٍ كَبِيرَةٍ، لَا يَتَلَفَّتُونَ إِلَى حَمَاقَةِ الحَمْقَى، وَسَفَهِ السُّفَهَاءِ، وَلَا يُشْغِلُونَ بَالَـهُمْ وَوَقْتَهُمْ وَجُهْدَهُمْ بِالاشتِبَاكِ مَعَ السُّفَهَاءِ، وَالحَمْقَى فِي جَدَلٍ أَو عِرَاكٍ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» يَتَرَفَّعُونَ عَنِ الـمُهَاتَرَةِ مَعَ الطَّائِشِينَ لَا عَنْ ضَعْفٍ، وَلَكِنْ عَنْ تَرَفُّعٍ، وَلَا عَنْ عَجْزٍ إِنَّـمَا عَنِ استِعْلَاءٍ، وَعَنْ صِيَانَةٍ لِلوَقْتِ وَالجُهْدِ أَنْ يُنفَقَا فِيمَا لَا يَلِيقُ بِالرَّجُلِ الكَرِيمِ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» يَنْشَغِلُونَ فِي نَهَارِهِمْ عَنِ الـمُهَاتَرَةِ مَعَ النَّاسِ بِـمَا هُوَ أَهَمُّ وَأَكْرَمُ وَأَرْفَعُ. فَأَمَّا لَيلُهُمْ، فَهُوَ التَّقْوَى وَمُرَاقَبَةُ اللّهِ، وَالشُّعُورُ بِجَلَالِهِ، وَالخَوفُ مِنْ عَذَابِهِ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» قَومٌ يَبِيتُونَ لِرَبِّـهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، يَتَوَجَّهُونَ لِرَبِّـهِمْ وَحْدَهُ، وَيَقُومُونَ لَهُ وَحْدَهُ، وَيَسجُدُونَ لَهُ وَحْدَهُ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» قَومٌ مَشْغُولُونَ عَنِ النَّومِ الـمُرِيحِ اللَّذِيذِ، بِمَا هُوَ أَرْوَحُ مِنهُ وَأَمْتَعُ، مَشغُولُونَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى رَبِّـهِمْ، وَتَعلِيقِ أَرْوَاحِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ بِهِ، يَنَامُ النَّاسُ وَهُمْ قَائِمُونَ سَاجِدُونَ، وَيَـخْلُدُ النَّاسُ إِلَى الأَرضِ، وَهُمْ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى عَرْشِ الرَّحمَنِ، ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» فِي قِيَامِهِمْ وَسُجُودِهِمْ وَتَطَلُّعِهِمْ وَتَعَلُّقِهِمْ تَمتَلِئُ قُلُوبُهُمْ بِالتَّقْوَى، واَلخَوفِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» مَا رَأَوْا جَهَنَّمَ، وَلَكِنَّهُمْ آمَنُوا بِوُجُودِهَا، وَتَـمَثَّلُوا صُورَتَهَا مِمَّا جَاءَهُمْ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللّهِ الكَرِيمِ. فَهَذَا الخَوفُ النَّبِيلُ إِنَّـمَا هُوَ ثَـمَرَةُ الإِيمَانِ العَمِيقِ، وَثَـمَرَةُ التَّصدِيقِ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» وَهُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي ضَرَاعَةٍ وَخُشُوعٍ لِيَصْرِفَ عَنهُمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ. لَا يُطَمْئِنُهُمْ أَنَّهُمْ يَبِيتُونَ لِرَبِّـهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، فَهُمْ لِـمَا يُخَالِـجُ قُلُوبَهُمْ مِنَ التَّقْوَى يَستَقِلُّونَ عَمَلَهُمْ وَعِبَادَتَـهُمْ، وَلَا يَرونَ فِيهَا ضَمَانًا، وَلَا أَمَانًا مِنَ النَّارِ، إِنْ لَـمْ يَتَدَارَكْهُمْ فَضْلُ اللّهِ وَسَمَاحَتُهُ وَعَفْوُهُ وَرَحْمَتُهُ، فَيَصْرِفَ عَنْهُمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ. وَالتَّعبِيرُ القُرآنِيُّ يُوحِي كَأَنَّـمَا جَهَنَّمَ مُتَعَرِّضَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، مُتَصَدِّيَةٌ لِكُلِّ بَشَرٍ، فَاتِحَةٌ فَاهَا، تَـهِمُّ أَنْ تَلْتَهِمَ، بَاسِطَةٌ أَيدِيهَا تَـهِمُّ أَنْ تَقْبِضَ عَلَى القَرِيبِ وَالبَعِيدِ!
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبـِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، يَخَافُونـَهَا وَيَـخْشَونَـهَا، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى رَبِّـهِمْ أَنْ يَصْرِفَ عَنهُمْ عَذَابَـهَا، وَأَنْ يُنَجِّيَهُمْ مِنْ تَعَرُّضِهَا وَتَصَدِّيهَا! وَيَرتَعِشُ تَعْبِيرُهُمْ، وَهُمْ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ خَوفًا وَفَزَعًا: (إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا) أَيْ مُلَازِمًا لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يُفَارِقُهُ، وَلَا يُقِيلُهُ، فَهَذَا مَا يَجعَلُهُ مُرَوِّعًا مُـخِيفًا شَنِيعًا: (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا) وَهَلْ أَسْوَأُ مِنْ جَهَنَّمَ مَكَانًا يَستَقِرُّ فِيهِ الإِنْسَانُ وَيُقِيمُ. وَأَيْنَ الاستِقْرَارُ وَهِيَ النَّارُ؟ وَأَينَ الـمُقَامُ وَهُوَ التَّقَلُّبُ عَلَى اللَّظَى لَيلَ نَـهَارَ!
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» وَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ نَمُوذَجُ القَصْدِ وَالاعتِدَالِ وَالتَّوَازُنِ: (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا) وَهَذِهِ سِمَةُ الإِسْلَامِ الَّتِي يُحَقِّقُهَا فِي حَيَاةِ الأَفرَادِ وَالجَمَاعَاتِ، وَيَتَّجِهُ إِلَيهَا فِي التَّربِيَةِ وَالتَّشرِيعِ، يُقِيمُ بِنَاءَهُ كُلَّهُ عَلَى التَّوَازُنِ وَالاعتِدَالِ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَتَوحِيدُ اللّهِ أَسَاسُ هَذِهِ العَقِيدَةِ، وَمَفْرِقُ الطَّرِيقِ بَينَ الوُضُوحِ وَالاستِقَامَةِ وَالبَسَاطَةِ فِي الاعتِقَادِ، واَلغُمُوضِ وَالالتِوَاءِ وَالتَّعقِيدِ، الَّذِي لَا يَقُومُ عَلَى أَسَاسِهِ نِظَامٌ صَالِـحٌ لِلحَيَاةِ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» يَتَحَرَّجُونَ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ - إِلَّا بِالحَقِّ - مَفْرِقُ الطَّرِيقِ بَينَ الحَيَاةِ الاجتِمَاعِيَّةِ الآمِنَةِ الـمُطْمَئَنَّةِ الَّتِي تُـحْتَرَمُ فِيهَا الحَيَاةُ الإِنسَانِيَّةُ وَيُقَامُ لَـهَا وَزْنٌ، وَحَيَاةِ الغَابَاتِ وَالكُهُوفِ الَّتِي لَا يَأْمَنُ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَطْمَئِنُ إِلَى عَمَلٍ أَوْ بِنَاءٍ.
- هَا هُمْ أُولَاءِ «عِبادُ الرَّحْمنِ» يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الزِّنَا هُوَ مَفْرِقُ الطَّرِيقِ بَينَ الحَيَاةِ النَّظِيفَةِ الَّتِي يَشْعُرُ فِيهَا الإِنسَانُ بِارتِفَاعِهِ عَنِ الحِسِّ الحَيوَانِيِّ الغَلِيظِ، وَيُحِسُّ بِأَنَّ لِالتِقَائِهِ بِالجِنْسِ الآخَرِ هَدَفًا أَسْمَى مِنْ إِرْوَاءِ سُعَارِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ، وَالحَيَاةِ الهَابِطَةِ الغَلِيظَةِ الَّتِي لَا هَمَّ لِلذُّكْرَانِ وَالإِنَاثِ فِيهَا إِلَّا إِرْضَاءُ ذَلِكَ السُّعَارِ.
- مِنْ أَجْلِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ مَفْرِقُ الطَّرِيقِ بَينَ الحَيَاةِ اللَّائِقَةِ بِالإِنسَانِ الكَرِيمِ عَلَى اللّهِ وَالحَيَاةِ الرَّخِيصَةِ الغَلِيظَةِ الهَابِطَةِ إِلَى دَرْكِ الحَيوَانِ .. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَهَا اللّهُ فِي سِمَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ، أَرْفَعِ الخَلْقِ عِندَ اللّهِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللّهِ. وَعَقَّبَ عَلَيهَا بِالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا) أَيْ عَذَابًا، وَفَسَّرَ هَذَا العَذَابَ بِمَا بَعْدَهُ (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا) .. فَلَيسَ هُوَ العَذَابَ الـمُضَاعَفَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ الـمَهَانَةُ كَذَلِكَ، وَهِيَ أَشَدُّ وَأَنْكَى. أَعَاذَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ ذَلِكَ العَذَابِ، وَتِلْكَ الـمَهَانَةِ!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.