الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية (الجزء الأول) (ح 5) مم تتكون المفاهيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية (الجزء الأول)

(ح 5)

مم تتكون المفاهيم

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:

 

أيها المؤمنون:

 

 

أحبتنا الكرام :

السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الخامسةِ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "مم تتكون المفاهيم".

 

يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "أما ما هي هذه المفاهيم وممَّ تتكون وما هي نتائجها؟ وما هي هذه الميول، وما الذي يحدثها، وما هو أثرها؟ فذلك يحتاج إلى بيان: المفـاهيم هي معـاني الأفكار لا معـاني الألفـاظ. فاللفظ كلام دل على معانٍ قد تكون موجودة في الواقع وقد لا تكون موجودة، فالشاعر حين يقول:

 

ومن الرجال إذا انبريت لِهَدْمِهِمْ ... هَـرَمٌ غليظُ مَناكِبِ الصُّفَّاح

 

فإذا رميتَ الحَقَّ في أجْلادِهِ .. ترك الصراع مُضَعْضَعَ الألواح

 

فإن هذا المعنى موجود في الواقع ومدرك حسّاً وإن كان إدراكه يحتاج إلى عمق واستنارة. ولكن الشاعر حين يقول:

 

قالـوا: أينظم فارسين بطعنة ... يـوم النـزال ولا يـراه جليلا

 

فأجبتهم: لو كان طول قناته ... ميلا إذن نظم الفوارس ميلا 

  

فهذا المعنى غير موجود مطلقاً، فلم ينظم الممدوح فارسين بطعنة، ولا سأل أحد هذا السؤال، ولا يمكن أن ينظم الفوارس ميلاً. فهذه المعاني للجمل تُشرح، وتُفسر ألفاظها. أما معنى الفكر فهو أنه إذا كان لهذا المعنى الذي تضمنه اللفظ واقع يقع عليه الحس، أو يتصوره الذهن كشيء محسوس ويصدقه، كان هذا المعنى مفهومًا عند من يحسه، أو يتصوره، ويصدقه، ولا يكون مفهومًا عند من لا يحسه، ولا يتصوره، وإن كان فهم هذا المعنى من الجملة التي قيلت له أو التي قرأها".

 

ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "المفاهيم هي معاني الأفكار لا معاني الألفاظ".

 

في اللغة العربية ثمة ألفاظ لها معان، وفيها ألفاظ لا معاني لها؛ فاللفظ المفيد يعد كلامًا إن كان له معنى، وإن لم يكن له معنى فلا يعد كلامًا، فمثلا: لفظ (زيد) له معنى يدل على شخص اسمه (زيد). لذلك فإن لفظ (زيد) يعد كلامًا. أما لفظ (ديز) مقلوب (زيد) قرئ من اليسار إلى اليمين. هذا اللفظ لا يعد كلاما عند النحاة؛ لأنه لا معنى له؛ من أجل ذلك  قال ابن مالك في ألفيته:

 

كلامنا لفـظ مفيـد كاستقـم ... اسم وفعل ثم حرف الكلم

 

وأيضًا المفاهيم جمع مفهوم، والمفهوم هو فكرة جرى تطبيقها واختبارها في الواقع، أو جرى تصورها في الذهن واقعًا قائمًا مطبقا مختبرًا في الواقع. ولتوضيح ذلك أورد الشيخ تقي الدين النبهاني لنا مثالين اثنين:

 

المثال الأول: نوع من الرجال الأشداء الغلاظ الأقوياء، لكنهم رغم شدتهم، وقوتهم، وغلظتهم؛ فإنهم حين يُدعَون لاتباع الحق سرعان ما يخضعون، ويستسلمون، ولا يخوضون معه أي صراع.

 

ومن الرجال إذا انبريت لِهَدْمِهِمْ ... هَـرَمٌ غليظُ مَناكِبِ الصُّفَّاح

 

فإذا رميتَ الحَقَّ في أجْلادِهِ .. ترك الصراع مُضَعْضَعَ الألواح

 

فإن هذا المعنى موجود في الواقع ومدرك حسّاً وإن كان إدراكه يحتاج إلى عمق واستنارة.  

 

المثال الثاني: رمح لا وجود له في الواقع، وإنما هم متخيل ومتصور في ذهن الشاعر، رمح طويل جدًا، يبلغ طوله مسافة ميل، في يد فارس قوي جدا له قوة خارقة تفوق قوة أقرانه، بحيث يستطيع هذا الفارس بضربة واحدة أن ينظم عددًا كبيرًا من الفوارس، يشكهم برمحه كما يشك الجزار اللحم في سيخ الشواء!! فإن هذا المعنى غير موجود مطلقًا، فلم ينظم الممدوح فارسين بطعنة، ولا سأل أحد هذا السؤال، ولا يمكن أن ينظم الفوارس ميلاً. فهذه المعاني للجمل تُشرح وتُفسر ألفاظها.  

 

قالـوا: أينظم فارسين بطعنة ... يـوم النـزال ولا يـراه جليلا

 

فأجبتهم: لو كان طول قناته ... ميلا إذن نظم الفوارس ميلا

 

فالأفكار إن بقيت مكتوبة في سطور الكتب، أو مستقرة في العقول والأذهان، فإنها تظل مجرد أفكار، ولا تتحول إلى مفاهيم، ولا يُدرَك معناها الحقيقي إلا بأحد أمرين:

 

أولا: إذا جرى تطبيق الفكرة في الواقع.

 

ثانيا: إذا أخذها المتلقي أخذا يقينيًا جازمًا كما لو كانت موجودة فعلا في الواقع. وبالمثال يتضح المثال لذلك سأضرب مثالًا واحدًا على كل نوع من هذين الأمرين من تحول الأفكار إلى مفاهيم:

 

المثال الأول: الفكرة التي جرى تطبيقها في الواقع: لو قمنا بوضع تمرة، وجمرة على طبق، وقلنا لطفل صغير يفهم الخطاب: هذه جمرة نار: تحرق، وتؤذي، وتؤلم. وهذه تمرة تؤكل: لذيذة، ومغذية، ومفيدة. فإن هذه المقولة تظل فكرة قائمة في ذهن الطفل ما لم يجربها بنفسه؛ فإذا قرب يده من الجمرة فلسعه حرها، فإن فكرة إحراق الجمرة قد تحولت عند هذا الطفل إلى مفهوم، فلم يعد يقرب يده إليها. وإذا أخذ التمرة، فوضعها في فمه، وذاق حلاوتها، فإن فكرة أكل التمرة قد تحولت إلى مفهوم، فربما يأكلها، ويطلب تمرة أخرى؛ لأنه وجد في فمه لذة وحلاوة طعمها!!

 

أما المثال الثاني وهو الفكرة التي يأخذها المتلقي أخذًا يقينيًا جازمًا؛ فمثاله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في دار الأرقم بن الأرقم يثقف أصحابه بأفكار الإسلام يعطيهم إياها على أنها مفاهيم، لا مجرد أفكار. بمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتلقونها تلقيًا فكريًا، ويأخذونها أخذًا يقينيًا جازمًا كأنها موجودة في الواقع فعلًا؛ لأن صدق الخبر من صدق المخبر، وصدق مبلغه، والمخبر هو الله تعالى القائل: (ومن أصدق من الله قيلا؟) والقائل: (ومن أصدق من الله حدثا؟) والمبلغ هو رسوله الصادق الأمين!! فكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما أخبر الصحابة رضي الله عنهم بخبر السماء قال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "صدقت". حتى استحق لقب "الصديق". فعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الصحابة عن الجنة ونعيمها، كان الواحد منهم يشعر، ويحس بهذا النعيم حتى لقد قال له أحدهم: "والله لكأني أجد ريحها يا رسول الله!!".

 

هكذا ينبغي علينا معاشر حملة الدعوة أن نتلقى أفكار الإسلام تلقيًا فكريًا على أنها مفاهيم قابلة للتطبيق لا مجرد أفكار نظرية!! والفكرة تبقى مجرد فكرة ومعلومة عند من يتلقاها حتى تصبح مؤثرة في سلوكه، ويترجمها في أعماله إلى واقع محسوس، فلا تكون الأفكار مفاهيم إلا إذا ارتبطت بالسلوك، ووجهته ووجهت الدوافع لإشباع الغرائز والحاجات العضوية، وأصبحت هي منطلق الإشباع، ودافعه، وموجهه. لذلك وجدنا عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين سئلت عن خلقه عليه السلام قالت: "كان خلقه القرآن". كما وصف المؤرخون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم: "كانوا قرآنا يدب على الأرض!!" إذا بنيت نفسية المؤمن على هذه المفاهيم فإنه يصبح يحب ما يحب الله ورسوله، ويبغض ما يبغض الله ورسوله. يحب ما أباحه الله وأحله لعباده، أو ما فرضه، وأوجبه، وأمرهم به. ويكره ما حرمه الله وأبغضه، أو نهاهم عنه. لذلك نجد المؤمن يتقزز من الحرام، ويشمئز منه، سواء أكان فعلًا، أم شيئًا، أم قولًا. وبذلك تكون هذه المفاهيم قد ارتقت بالإنسان وبنفسيته، وأصبحت قيمًا له، بها يقيم سلوكه وسلوك الآخرين؛ فيرى العيب والنقص، والكمال والجمال مرتبطا بها!! بقيت مسألة وهي: ما السبيل الناجعة في تلقي أفكار الإسلام على أنها مفاهيم كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة رضي الله عنهم؟؟ للإجابة نقول وبالله التوفيق: المفاهيم هي الأفكار المختبرة في الواقع، وثبتت صحتها وصلاحيتها، والتي لها واقع في الذهن، فالجنة عندنا نحن المؤمنين بها مفهوم لأن لها واقعًا في أذهاننا. والأحكام الشرعية مفاهيم؛ لأنها طبقت، وثبتت صلاحيتها، واطمأن الناس إليها، وإلى الآثار التي تنتج عن تطبيقها في الحياة، فهي ليست مجرد أفكار ومعلومات. والشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله وجزاه الله عنا خير الجزاء - فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، واطلع على أفكار السابقين من المسلمين، وحتى الغربيين والفلاسفة منهم بالذات، وانتفع مما فيها من أمور صحيحة، ومن يطلع على كتاب التفكير يجده مناقشًا لكل الأفكار الفلسفية، وعارفًا بها بعد أن خاض مخاضة الفلاسفة، وأدلى بدلوه بمنتهى الإبداع؛ فرد عليهم، وقدم للمسلمين والبشرية جمعاء المفاهيم الحقيقية الصحيحة، ونظرية المعرفة في الإسلام. وللعلم فإن مصطلح المفهوم كان قد اشتهر عند الفيلسوف "هيجل" فيما عرف بجدلية هيجل، وهي صحيحة إلى حد كبير. فقال: إن المعرفة تنشأ من خلال وجود تصورات في الذهن يقوم الإنسان باختبارها في الواقع، فإذا ما أثبتت صحتها أصبح التصور الجديد عنها مفهوما وهكذا. وطبعًا تأثر- كارل ماركس - بهذه الجدلية إلا أنه عكسها وقال: إن المعرفة تبدأ بانعكاس المادة على الدماغ، ثم يحصل التصور، وهكذا ... ونحن عادة نضرب مثالا على توضيح الفكرة والمفهوم، وللصغار في السن بالذات عندما يشرح أستاذ الرياضيات المعلومات للطلاب فإنها تكون في أذهانهم أفكارًا، فإن استخدموها، وطبقوها على حل المسائل، صارت لديهم مفاهيم، والطلاب يتفاوتون في قدراتهم على حل المسائل رغم أن المعلومات اللازمة أعطيت لهم جميعا، ومن المدرس نفسه. والناس بوصفهم بشرًا، وليسوا ملائكة فإنهم يتفاوتون في التزامهم وتمسكهم بمفاهيم الإسلام!!                      

 

أيها المؤمنون:

 

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

آخر تعديل علىالإثنين, 27 آذار/مارس 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع