الخميس، 26 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/28م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول  (ح 10)  نماذج من تزكية النفس

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول

(ح 10)

نماذج من تزكية النفس

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:

 

أيها المؤمنون:

 

مستمعينا الكرام مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير:

 

السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا: "وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ العَاشِرَةِ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "نماذج من تزكية النفس".

 

يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "وهـذه الميول وحدها أي الدوافع مربوطة بالمفـاهيم عن الحياة هي التي تكوّن نفسية الإنسان. فالنفسية هي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضـوية. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي تربط فيها دوافع الإشـباع بالمفـاهيم. فهي مزيج من الارتباط الحتمي الذي يجري طبيعيًا في داخل الإنسان بين دوافعه والمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء مربوطة بمفاهيمه عن الحياة". 

 

ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: إن أرقى نموذج في تزكية النفس، وتطهيرها، وحثها على الفضائل هو نموذج الرسول القائد والقدوة، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه. أخرج ابن ماجه في صحيحه عن أبي مسعود عقبة بن عمرو: أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فَكَلَّمَهُ، فجَعلَ ترعدُ فرائصُهُ، فقالَ لَهُ: «هوِّن عليكَ، فإنِّي لستُ بملِكٍ، إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ». لقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أحْسنَ الناسِ خُلقًا، ومتَّصِفًا بمكارِمِ الأخلاقِ كلِّها، ومنها التَّواضُعُ والرِّفقُ بالنَّاسِ، والتَّبسُّطُ مع أصحابِه دون تَضييعٍ للهَيبةِ والوَقارِ.

 

وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو مَسعودٍ رَضي اللهُ عنه: "أَتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فكَلَّمه، فجَعَل تَرْعُدُ فَرائصُه"، أي: تَفْزَعُ وتَرتجِفُ، وهذا كِنايةٌ عن شدَّةِ خوْفِه، و"الفَريصَةُ": اللَّحْمَةُ الَّتي بين الجنبِ والكَتِفِ، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُطَمْئِنًا: "هَوِّنْ علَيك"، أي: خَفِّفْ عليك الأمرَ ولا تخَفْ؛ "فإنِّي لَسْتُ بمَلِكٍ"، أي: لستُ على صِفَةِ الملوكِ الجبابرَةِ الَّذين يَخافُهم النَّاسُ ويخشَوْنَ بطْشَهم وأذاهم، "إنَّما أنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ"؛ وهو اللَّحمُ المملَّحُ المجفَّفُ في الشَّمسِ، وكانوا يَفعَلون ذلك ليَحفَظوا اللُّحومَ، ووَجْهُ التَّواضُعِ في قولِه: "أنا ابنُ امرأةٍ"؛ لأنَّ هذا حَقيقةُ الأمرِ، وهي أنَّ كلَّ إنسانٍ مَولودٌ مِنَ امْرأَةٍ؛ فهو ابنُها، ولكنْ مِن شأنِ المتكبِّرين أحيانًا أنَّهم يأنَفون مِن أنْ يتذَكَّروا هذه الحَقيقةَ؛ فكان ذِكْرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لذلكَ تهدئةً وتَأْنيسًا لِلرَّجُلِ، مَع إظْهارِ التَّواضعِ وعَدمِ التجَبُّرِ على النَّاسِ.

 

وفي قولِه: "تأكُلُ القَديدَ"، أنَّهم لم يَكُنْ عندهم درَجةُ الرَّفاهيةِ الَّتي تكونُ في أبناءِ المُلوكِ؛ فربَّما أكلوا اللَّحمَ المخزَّنَ مِن ذَبائحِهم وليس الطَّازَجَ. وهذا الكلامُ مِن تواضُعِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع النَّاسِ، ورِفقِه بهِم كما أمَره اللهُ تعالى فقال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر 88)، وقال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (الشعراء 215).

 

لقد وضع الإسلام أحكامًا خاصة تبين الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز، والحاجات العضوية، ثم دعا المسلم إلى تزكية نفسه وتطهيرها، وحملها على الالتزام بهذه الأحكام الشرعية، والقبول والتسليم بها طواعية عن رضا واختيار. ومن هذه الأحكام قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به" (رواه الإمام أحمد في ‏‏مسنده).

 

هذا الحديث مروي عن أبي بكر رضي الله عنه، وله روايتان: الرواية الأولى: «لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به». (رواه الإمام أحمد في ‏مسنده)، والرواية الثانية: «لا يدخل الجنة جسد غُذي بالحرام». (رواه الخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح).

 

والسحت هو الحرام، ومعنى الحديث: أن كل جسم ولحم تغذى بالحرام فإنه يكون يوم القيامة في النار عقوبة له، لأن الله سبحانه وتعالى حرم الخبائث والمكاسب المحرمة، وأمر بالأكل من الطيبات وما أباح الله سبحانه وتعالى لعباده، لأن المحرم يغذي تغذية خبيثة، وأما الطيب فإنه يغذي تغذية طيبة، وله آثار حميدة على جسم الإنسان وعلى تصرفاته وأخلاقه.

 

وأما الخبيث فإنه يغذي الجسم تغذية خبيثة، وينعكس ذلك على تصرفات الشخص وأعماله، فإنها تكون خبيثة بتأثير طعامه الخبيث، فدل هذا على ما للمطعم من أثر على الإنسان، وأنه يتأثر به خيرًا إذا كان مطعمًا طيبًا، ويتأثر به شرًّا إذا كان مطعمًا خبيثًا، قد قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا). (المؤمنون 51)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). (البقرة 172)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً) ( البقرة 168)، فأمر الناس عموماً بالأكل من الحلال الطيب، وأمر المؤمنين خصوصاً بالأكل من طيبات ما رزقهم الله عز وجل، وأن يشكروا الله على نعمته، هذا يدل على الاهتمام بالمطعم، وأن الإنسان يهتم بما يغذي به جسمه ويتجنب الحرام، وقد صح في الحديث أن أكل الحرام يمنع من قبول الدعاء، كما في حديث المسافر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: "يا رب، يا رب" ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي في الحرام فأنى يستجاب لذلك؟‏! وهذا أمر مهم جدًّا.

 

ومن النماذج في تزكية النفس، وتطهيرها، وحثها على الفضائل: ما أورده ابن إسحاق في السيرة النبوية في معرض حديثه عن غزوة مؤتة: فلما قتل جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخذ عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -  الراية، ثم تقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم قال:

 

أقسمــت يــا نفــس لتنزلنـــه ... لتنزلــــــــن أو لتكرهنــــــــه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... مالي أراك تكرهين الجنـــــة

قـد طال ما قـد كنت مطمئنة ... هــل أنـت إلا نطفـة في شنـه

 

وقال أيضا:

 

يا نفــس إلا تقتلـي تموتــي ... هـذا حمام الموت قد صليت

ومـا تمنيــت فقـد أعطيــت ...  إن تفعلـي فعلهمـا هديــــت

 

يريد صاحبيه: زيدًا وجعفرًا - رضي الله عنهما - اللذين ثبتا في ميدان المعركة، ونالا الشهادة قبله؛ ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا؟؟ ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.

 

ومن النماذج في تزكية النفس، وتطهيرها، وحثها على الفضائل ما حصل مع الصحابي الجليل أبي دجانة: هل سمعتم بأبي دجانة؟ اعتاد أبو دجانة أن يكون في صلاة الفجر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه ما كاد ينهي صلاته حتى يخرج من المسجد مسرعًا، فاستلفت ذلك نظر الرسول الكريم فاستوقفه يوما وسأله قائلا: «يا أبا دجانة، أليس لك عند الله حاجة؟». قال أبو دجانة: بلى يا رسول الله، ولا أستغني عنه طرفة عين، فقال النبي: «إذن لماذا لا تنتظر حتى تختم الصلاة معنا وتدعو الله بما تريد؟».

 

قال أبو دجانة: السبب في ذلك أن لي جار من اليهود له نخلة فروعها في صحن بيتي، فإذا ما هبت الريح ليلا أسقطت رطبها عندي، فتراني أخرج من المسجد مسرعا لأجمع ذلك الرطب وأرده إلى صاحبه قبل أن يستيقظ أطفالي، فيأكلوا منه وهم جياع. وأقسم لك يا رسول الله أنني رأيت أحد أولادي يمضغ تمرة من هذا الرطب فأدخلت أصبعي في حلقه وأخرجتها قبل أن يبتلعها، ولما بكى ولدي قلت له: أما تستحي من وقوفي أمام الله سارقا؟ ولما سمع أبو بكر ما قاله أبو دجانة، ذهب إلى اليهودي واشترى منه النخلة ووهبها لأبي دجانة وأولاده. وعندما علم اليهودي بحقيقة الأمر أسرع بجمع أولاده وأهله، وتوجه بهم إلى النبي معلنا دخولهم الإسلام، أبو دجانة خاف أن يأكل أوﻻده من نخلة يهودي وليس من نخلة مسلم فما بالكم بمن يأكل أموال ملايين من البشر المسلمين، وليس من أموال يهود. أسال الله الرحمة والمغفرة لي ولكم. فهل عرفتم الآن كيف انتصر الإسلام؟ هكذا كانوا، دعاة بمواقفهم النابعة من عميق إيمانهم، وبمعاملاتهم الراقية التي هي انعكاس لذلك الإيمان...

 

ومن النماذج في تزكية النفس، وتطهيرها، وحثها على الفضائل ما حصل مع الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين حدثته نفسه يومًا، وهو أمير المؤمنين أنه أصبح أميرًا للمؤمنين فمن ذا أفضل منه... ولكي يُعرِّف عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه قدرها - كما ظن - وقف يومًا بين المسلمين يعلن أنه لم يكن إلا راعي غنم، يرعى لخالات له من بني مخزوم.

 

يقول محمد بن عمر المخزومي عن أبيه: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس، وكبروا، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم قال: أيها الناس.. لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي وأي يوم!!

 

ثم نزل، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمَّأت نفسك - أي عبْـتَها وأنقصت من قدرها - فقال: ويحك يا ابن عوف!! إني خلوت فحدثتني نفسي، قال: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟! فأردت أن أعرفها نفسها وفي رواية: إني وجدت في نفسي شيئًا، فأردت أن أطأطئ منها.

 

ومن نماذج تزكية النفس، وتطهيرها، وحثها على الفضائل ما كانت تقوم به الزوجة الصالحة التي تعين زوجها على طاعة الله بما تملك من الرضا، دونما سخط، ولا ضجر، ففي كل صباح، وهو ذاهب إلى عمله في طلب الرزق تذكره بهذه الكلمات الطيبات: "اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا من حلال، وإياك أن تدخل علينا الحرام، فإننا نصبر على نار الجوع، ولا نصبر على نار جهنم".

 

أيها المؤمنون:

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

 

آخر تعديل علىالسبت, 01 نيسان/ابريل 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع