- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول
(ح 12)
إيجاد الشخصية المتميزة عند الإنسان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
أحبتنا الكرام:
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا: "وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الثانِيَةَ عشرة، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "إيجاد الشخصية المتميزة عند الإنسان".
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "فإن كانت هذه القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية هي نفس القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية، وجدت عند الإنسان شخصية متميزة بلون خاص. وإن كانت القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية غير القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية كانت عقلية الإنسان غير نفسيته، لأنه يكون حينئذ يقيس ميوله على قاعدة أو قواعد موجودة في الأعماق، فيربط دوافعه بمفاهيم غير المفاهيم التي تكوَّنت بها عقليته. فيصبح شخصية ليس لها مميِّز، مختلفة متباينة، أفكاره غير ميوله، لأنه يفهم الألفاظ والجمل ويدرك الوقائع على وجه يختلف عن ميله للأشياء. ومن هنا كان علاج الشخصية وتكوينها إنما يكون بإيجاد قاعدة واحدة لعقلية الإنسان ونفسيته معاً. أي أن تجعل القاعدة التي يقيس عليها المعلومات والواقع حين الربط هي نفس القاعدة التي يجري على أساسها الامتزاج بين الدوافع والمفاهيم. فتتكوَّن بذلك الشخصية على قاعدة واحدة ومقياس واحد فتكون شخصية متميزة".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: ثمة نوعان من شخصية الإنسان:
- هناك الشخصية المتميزة بلون خاص، أفكار صاحبها منسجمة، ومتفقة مع ميوله، يفهم الألفاظ، والجمل، ويدرك الواقع على وجه يتفق مع ميله.
- وهناك الشخصية المختلفة والمتباينة، أفكار صاحبها غير ميوله؛ لأنه يفهم الألفاظ والجمل، ويدرك الواقع على وجه يختلف عن ميله للأشياء.
والسؤال الأول في حلقتنا الذي يرد الآن هو: كيف نعمل على إيجاد الشخصية المتميزة عند الإنسان؟؟ وجوابه هو الآتي: عندما تكون القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية هي نفسها القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية وجدت عند الإنسان شخصية متميزة بلون خاص.
وإن كانت القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية غير القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية كانت عقلية الإنسان غير نفسيته، لأنه يكون حينئذ يقيس ميوله على قاعدة أو قواعد موجودة في الأعماق، فيربط دوافعه بمفاهيم غير المفاهيم التي تكوَّنت بها عقليته؛ فيصبح شخصية ليس لها مميِّز، مختلفة متباينة، أفكاره غير ميوله، لأنه يفهم الألفاظ والجمل ويدرك الوقائع على وجه يختلف عن ميله للأشياء.
والسؤال الثاني الوارد الآن هو: كيف يكون علاج هذه الشخصية المضطربة والمختلفة والمتباينة؟؟ وهلا أعطيتمونا مثالا من واقع حياتنا؟؟ وجوابه هو الآتي: علاج الشخصية وتكوينها إنما يكون بإيجاد قاعدة واحدة لعقلية الإنسان ونفسيته معاً. أي أن تجعل القاعدة التي يقيس عليها المعلومات والواقع حين الربط هي نفس القاعدة التي يجري على أساسها الامتزاج بين الدوافع والمفاهيم. فتتكوَّن بذلك الشخصية على قاعدة واحدة ومقياس واحد فتكون شخصية متميزة".
وإليكم هذا المثال: كثيرا ما يكتشف الناس أن أقوال بعض العلماء تتناقض مع أفعالهم، والأفعال الصادرة عن أهاليهم، إذ إن أعين الناس على العلماء؛ لأنهم في نظرهم محل التأسي والاقتداء، حيث كان أحد العلماء المعروفين عندنا في الأردن يدعو الناس إلى أن يلبسوا بناتهم اللباس الشرعي، فلما رأوا ابنته تلبس لباساً قصيراً يكشف ما فوق الركبة، راجعوه في ذلك، فقال لهم: يقصف الله عمرها!! لباسها يليق لها!! فسقط هذا العالم من أعين الناس!!
هذا مع العلم أن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). (الصف٣) ويقول: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). (البقرة ٤٤) وأبو الأسود الدؤلي يقول شعرًا:
يــــا أيهـــا الرجـــل المعلـــم غيـــــره ... هــــــلا لنفســــك كــــان ذا التعليــــــم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنـى ... كيمـــا يصـــح بــــه وأنــــت سقيـــــم
ابـــــدأ بنفســك فانههــا عــــن غيهــــا ... فــــإذا انتهـــت عنـــه فأنـــت حكيــــم
فهنــاك تعــــذر إن وعظــت ويقتـــدى ... بالقــــول منــــــك ويقبـــــل التعليـــــم
لا تنــــه عــــن خلـــق وتأتـــي مثلــــه ... عـــــار عليــــك إذا فعلــــت عظيــــم
وإليكم حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهى عن منكر وخالف قوله فعله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه».
وقوله ﷺ: «يؤتى بالرجل» هذا مفهوم لقب لا حجة فيه، أي: أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك، فالمرأة التي تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر ولا تمتثل، داخلة في هذا الوعيد.
يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، أي: تخرج، وأقتاب البطن المقصود بها: الأمعاء، وهي جمع قِتْب، فتخرج أمعاؤه، فيدور بأمعائه كما يدور الحمار في الرحى، والرحى هو الحجر الكبير الذي يطحن به الحب، ويربط بحمار، ويطرح هذا الحجر على حجر آخر أملس فيوضع الحب في نحو حوض أو ما أشبه ذلك، فيدور هذا الحجر الكبير الذي يجره الحمار حتى يطحن هذا الحب، كما يدور الحمار في الرحى، فيدور على أمعائه، وتكون هذه الأقتاب قد خرجت من البطن، والقِتب منها مما يتصل به، كأنه ذلك الحبل الذي ربط بالحمار، فيدور بالرحى بهذه الصورة البشعة، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟، وهذه النار التي يجتمع أهلها ربما تكون هي نار الموحدين، أي: من المسلمين، فهم يعرفون هذا الإنسان كان آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ويحثهم على طاعة الله تعالى، فكانوا يظنون أنه من الناجين لما يرون من حسن مقاله ودعوته إلى الخير، فلما رأوا حاله بهذه البشاعة سألوه وقالوا له: ما الذي أوردك هذه الموارد؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟، فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.
هذا الحديث يدل على وعيد من خالف قوله فعله، إذا تباينت الأقوال والأفعال، وصار الإنسان يتكلم بما لا يعمل فهو متوعَّد بهذا، ولكن الأعمال على مراتب، أما الواجبات فإنه لا يجوز للإنسان أن يتركها بحال من الأحوال، والمحرمات لا يجوز للإنسان أن يقارفها، وأما المندوبات فهي أنواع كثيرة جداً، ولا يستطيع الإنسان أن يفعل كل المندوبات، وكذلك قد لا يستطيع أن يترك جميع المكروهات، لكنه يأمر بطاعة الله تعالى مطلقاً من الواجبات والمندوبات، وينهى عن المنهيات، سواء كان ذلك من قبيل المنهي للتحريم، أو كان من قبيل المنهي للكراهة، ويكون النهي عن المكروهات من باب الاستحباب، فالمقصود أن مثل هذه الأمور بمجموعها لا يستطيع الإنسان أن يحيط بها، فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا المتوعَّد بهذا الوعيد هو الذي ترك الواجب أو فعل المحرم، وكان يأمر به أو ينهى عنه.
وهنا في هذا المقام تحضرني قصة إيجابية على النقيض من القصة الأولى. هذه القصة سمعتها في طفولتي من أحد العلماء الأتقياء - ولا أزكي على الله أحداً هذا أحسبه والله حسيبه - قال وهو يعظ الناس: إن الكلام الصادق الذي يصدر من قلب القائل، لا يجد له مكاناً يستقر فيه إلا قلب السامع، فهو من القلب إلى القلب، وأما الكلام غير الصادق يخرج من اللسان، ولا يتجاوز الآذان!! وقص علينا قصة العالم والخطيب الذي كان يعيش في زمن كثر فيه السادة والعبيد، فجاءه رجل فقال له: ليتك أيها الخطيب تحث الناس على إعتاق العبيد!! فوعده خيراً، وقال له: سأفعل ذلك إن شاء الله!! وجاءت الجمعة الأولى، فلم يتطرق الخطيب إلى موضوع العبيد. فجاء الرجل يذكر الخطيب بموضوع إعتاق العبيد، فوعده خيراً، وقال له مثلما قال في المرة الأولى!! وجاءت الجمعة الثانية، فكان الخطيب أبعد ما يكون عن موضوع العبيد، فجاء الرجل يعاتب الخطيب لبعده عن الموضوع، فوعده خيراً، وعلَّق ذلك بمشيئة الله تعالى. وجاءت الجمعة الثالثة؛ فتحدث الخطيب عن موضوع إعتاق العبيد، فأبكى جميع من في المسجد من السادة والعبيد، وأعتق كثير من السادة العبيد الذين كانوا عندهم!! وبعد الخطبة جاء الرجل؛ كي يشكر الخطيب، ويسأله عن سبب تأخره في الحديث عن موضوع إعتاق العبيد؛ فقال الشيخ: كان عندي عبد لديه مهارة في الكتابة، وهو ذو خط جميل، كنت أحتاجه كي يكتب لي بعض الخطب، ولما أنهى عمله قمت بإعتاقه في هذا اليوم قبل مجيئي لأداء الصلاة، وإلقائي خطبة الجمعة!!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.