- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول
(ح 14)
بالعقيدة الإسلامية تتكون الشخصية الإسلامية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
أحبّتنا الكرام:
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الرَّابِعَةَ عشرة، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "بالعقيدة الإسلامية تتكون الشخصية الإسلامية".
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "وعلى هذا نجد أن الإسلام يكوّن الشخصية الإسلامية بالعقيدة الإسلامية، فبها تتكوَّن عقليته وبها نفسها تتكوَّن نفسيته. ومن هذا يتبين أن العقلية الإسلامية هي التي تفكر على أساس الإسلام، أي تجعل الإسلام وحده المقياس العام للأفكار عن الحياة، وليس هي فقط العقلية العالمة أو المفكرة. بل مجـرد جعل الإنسان الإسلام مقياساً لجميع الأفكار عملياً وواقعياً يجعل عنده عقلية إسلامية.
وأما النفسية الإسلامية فهي التي تجعل ميولها كلها على أساس الإسلام أي تجعل الإسلام وحدهُ المقياس العام للإشباعات جميعها، وليست هي فقط المتبتلة أو المتشددة، بل مجرد جعل الإنسان الإسلام مقياساً لجميع الإشباعات عملياً وواقعياً يجعل عنده نفسية إسلامية. فيكون حينئذ بهذه العقلية وهذه النفسية شخصية إسلامية، بغض النظر عن كونه عالماً أو جاهلاً، قائماً بأداء الفروض والمندوبات وبترك المحرمات والمكروهات، أو قائماً بذلك وبما هو أكثر من ذلك من الطاعات المستحبة والبعد عن الشبهات. فكل منها شخصية إسلامية. لأن كل من يفكر على أساس الإسلام ويجعل هواه تبعاً للإسلام يكون شخصية إسلامية".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: لا بد لكل بناء من أساس قوي ومتين، وقاعدة صلبة يقوم عليها، وإلا كان البناء معرضاً للتصدع والانهيار - لا قدر الله - قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). (التوبة ١٠٩)
لذلك فإننا نجد أن الإسلام يكوّن الشخصية الإسلامية بالعقيدة الإسلامية، فبها تتكوَّن عقليته وبها نفسها تتكوَّن نفسيته، فيصبح المسلم شخصية إسلامية، له عقلية إسلامية، ونفسية إسلامية. وهنا يبرز سؤالان:
السؤال الأول: ذو شقين وهو: ماذا نعني بقولنا: العقلية الإسلامية؟ وقولنا: النفسية الإسلامية؟ والسؤال الثاني: ذو شقين أيضاً وهو: ما المقصود بقولنا: الشخصية الإسلامية؟ وهل هي واحدة عند جميع الأشخاص، أم تتفاوت من شخص لآخر؟
وجواب الشق الأول من السؤال الأول هو الآتي: إن العقلية الإسلامية هي التي تفكر على أساس الإسلام، أي تجعل الإسلام وحده المقياس العام للأفكار عن الحياة، وليس هي فقط العقلية العالمة أو المفكرة. بل مجـرد جعل الإنسان الإسلام مقياساً لجميع الأفكار عملياً وواقعياً يجعل عنده عقلية إسلامية.
وأما الشق الثاني من السؤال الأول؛ فجوابه هو الآتي: النفسية الإسلامية هي التي تجعل ميولها كلها على أساس الإسلام أي تجعل الإسلام وحدهُ المقياس العام للإشباعات جميعها، وليست هي فقط المتبتلة أو المتشددة، بل مجرد جعل الإنسان الإسلام مقياسًا لجميع الإشباعات عملياً وواقعياً يجعل عنده نفسية إسلامية.
وأما السؤال الثاني؛ فجواب الشق الأول منه أن الشخصية الإسلامية هي التي يكون لصاحبها عقلية تفكر على أساس الإسلام، وتجعله وحده المقياس العام لجميع الأفكار، وله نفسية تجعل ميوله كلها على أساس الإسلام، بغض النظر عن كونه عالماً أو جاهلا.
أما الشق الثاني من السؤال الثاني فجوابه أن الشخصية الإسلامية تتفاوت من شخص لآخر على النحو الآتي:
- بعض ذوي الشخصيات الإسلامية يكون قائماً بأداء الفروض، والمندوبات، وبترك المحرمات، والمكروهات.
- وبعضهم من ذوي الشخصيات الإسلامية الراقية يكون قائمًا بذلك، وبما هو أكثر من ذلك من الطاعات المستحبة، والبعد عن الشبهات.
فكل من تلك الشخصيات شخصية إسلامية؛ لأن كل من يفكر على أساس الإسلام ويجعل هواه تبعاً للإسلام يكون شخصية إسلامية.
وفيما يأتي نعرض عليكم نموذجين من الشخصيات الإسلامية ذوي العقليات الإسلامية، الذين يفكرون على أساس الإسلام، ويجعلون الإسلام وحده هو المقياس العام للأفكار عن الحياة، وذوي النفسيات الإسلامية الذين يجعلون ميولهم كلها على أساس الإسلام.
النموذج الأول: من السلف الصالح، ويمثله العالم الجليل محمـد بن سيرين - رحمه الله -.
النموذج الثاني: من الخلف الصالح، ويمثله أحد شباب حزب التحرير ممن لا يزالون يعيشون بيننا - حفظه الله -.
النموذج الأول: إن التابعي محمد بن سيرين - رحمه الله - كان قد قسم حياته أقساماً ثلاثة: فجعل قسماً للعلم: يأخذه ويعطيه، وقسماً للعبادة يصفو فيه إلى ربه، وقسماً للتجارة: يكسب فيه المال الذي يسد به الحاجات، ويقضي به الحقوق، ويعود به على المحتاجين.
أراد الله تعالى أن يبتلي صدق ابن سيرين وصبره فابتلاه بمحنة. وهذه المحنة كانت عجيبة، وكان هو سببها، وهي أنه اشترى زيتا بأربعين ألف درهم مؤجله، فلما فتح أحد زقاق الزيت - وهو إناء من جلد - وجد فيه فأراً ميتاً متفسخاً، فقال في نفسه: "إن الزيت كله كان في المعصرة في مكان واحد، وإن النجاسة ليست خاصة بهذا الزق دون سواه، وإنني إن رددته للبائع بالعيب، فربما باعه للناس؛ فأضرَّ بهم". ثم أراقه كله، ووقع من ذلك في وقت كان يشكو فيه ابن سيرين من خسارة كبيرة حلت به، فركبه الدين، وطالبه صاحب الزيت بماله، فلم يستطع سداده، فرفع أمره إلى الوالي، فأمر القاضي بحبسه حتى يسدد ما عليه.
فلما صار في السجن، وطال مكثه فيه، أشفق عليه السجان لما علم من أمر دينه، وما رأى من شدة ورعه، وطول عبادته!! وقال له: "أيها الشيخ، إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، وبت معهم، فإذا أصبحت فعد إليَّ، واستمر على ذلك حتى يطلق سراحك!!". فقال له الإمام ابن سيرين: "لا والله لا أفعل". فقال السجان: "ولم يا شيخ، هداك الله؟؟!! فقال له: "حتى لا أعاونك على خيانة السلطان!!". ومكث في السجن. وقد وردت هذه القصة في الكتب الثلاثة الآتية: حلية الأولياء، وسِيَر أعلامِ النبلاء، وصور من حياة التابعين.
وكانت لابن سيرين المواقف الشهيرة من النصيحة للولاة والحكام والصدق الكامل. ومن ذلك أن عمر بن هبيرة الفزاري العالم الجليل والوزير لبني أمية الذي كان واليا على العراق آنذاك دعا محمد بن سيرين لزيارته ومعه ابن أخيه ولما قدما عليه رحّب بهما الوالي وأكرمهما ثم بدأ يسأل ابن سيرين عن كثير من أمور الدنيا والدين لأنه عالم من علماء الدين، ورجل مال من كبار التجار ثم قال: كيف تركت أهل مصرك يا أبا بكر وكان عمر بن هبيرة في الكوفة وابن سيرين في البصرة..؟
فقال: تركتهم والظلم فيهم فاشٍ وأنت عنهم لاه. فوكزه ابن أخيه حتى لا يتكلم فقال له ابن سيرين إنك لم تسأل وإنما أنا الذي أسأل وإنها لشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه. هذا هو العمل الحق إذا سئل أحدهم عن مسألة من قبل مسئول فلا يتكلم إلا بالحق لأنها شهادة وسوف يسأل عنها عند الله تعالى. ولما انفض المجلس ودعه ابن هبيرة بمثل ما استقبله به وأرسل له بكيس فيه ثلاثة آلاف درهم فرفض أن يأخذها فقال له ابن أخيه لماذا ترفض هبة أمير المؤمنين. فقال ابن سيرين لماذا أعطاني لقد أعطاني لأنه ظن فيّ الخير فإن كنت من أهل الخير فلا يجوز لي أن آخذه لأن هذا المال من أموال العامة وليست للخاصة وإن كنت من غير أهل الخير فلا يجوز لي أن آخذه لأنني على خلاف ظنه.
ومن المواقف الغريبة في ورعة أن رجلا اشترى منه شيئا وادعى أنه أعطاه درهمين فقال ابن سيرين: ما أعطيتني شيئا فقال الرجل بلى لقد أعطيتك فقال ابن سيرين ما أعطيتني قال الرجل: أتحلف أنك لم تعطني فقال والله العظيم إنك لم تعطني شيئا. فاستغرب الناس والتجار من حلفه لأجل درهمين وقالوا يا أبا بكر أتحلف من أجل درهمين وأنت بالأمس تركت أربعين ألف درهم من أجل شبهة. فقال نعم أحلف على درهمين؛ لأنني إذا لم أحلف أخذها وإذا أخذها فسيأخذ حراما وأنا لا أريده أن يأكل حراما. انظروا كيف كان حريصا على غيره، وليس على نفسه فحسب.
النموذج الثاني: أراد الله تعالى أن يبتلي صدق أحد شبابنا، وصبره، فابتلاه بمحنة. وهذه المحنة كانت عجيبة، وكان هو سببها مثلما كان محمد بن سيرين، وهي أن هذا الشاب كان تاجراً غيناً يمتلك متجراً كبيراً، ومصنعاً للأحذية في العاصمة عمان، وأراد هذا الشاب أن ينمي تجارته، ويزيد من ثروته بالحلال، وبالطرق الشرعية، ففكر في شراء باخرة ضخمة تحمل كمية كبيرة من جلود الحيوانات؛ وذلك كي يستخدمها في صناعة الأحذية. وفعلا سافر هذا الشاب إلى بلاد الأعاجم في الهند، وعقد مع التجار هناك صفقة تجارية اشترى فيها حمولة باخرة ضخمة من الجلود، دفع ثمنها هناك، ثم عاد إلى بلاده، وبقي ينتظر وصول الباخرة.
ولما وصلت الباخرة، وأفرغت حمولتها، وحضر التجار، ومعهم بعض الخبراء بجلود الحيوانات، وبعد المعاينة والتدقيق تبين لهم أن هذه الجلود كلها من جلود الخنازير. وهي من الحيوانات المحرمة في الإسلام. وقد سأل الحزب عن الحكم الشرعي في الانتفاع بجلود الحيوانات المحرمة، فجاءه الجواب أنه يحرم الانتفاع بها؛ فما كان منه إلا أن قام بإتلافها جميعها، وخسر المبلغ الكبير من المال الذي كان قد دفعه ثمنا لها!!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.