الإثنين، 23 محرّم 1446هـ| 2024/07/29م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول (ح 39) عجز العالم عن الإيجاد من عدم، دليل يقيني على أنه ليس أزليًا

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول

(ح 39)

عجز العالم عن الإيجاد من عدم، دليل يقيني على أنه ليس أزليًا

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:

 

أيها المؤمنون:

 

 

أحبّتنا الكرام :

 

السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ التاسعة والثلاثين، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "عجز العالم عن الإيجاد من عدم، دليل يقيني على أنه ليس أزليًا".

 

يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "أما بالنسبة للأشياء التي توجد فواضح في أنها وجدت من أشياء مدركة محسوسة، وواضح أيضاً في أنها في وجودها خضعت لنسبة معينة فُرضت عليها فرضاً. وأما بالنسبة للأشياء التي وجدت فواضح في عجزها عن الإيجاد من عدم وواضح في أنها خاضعة جبراً عنها إلى ترتيب معين فرض عليها فرضاً، وهو ليس آتياً منها، وإلا لكانت قادرة على تركه وعلى عدم الخضوع له، فهو آت من غيرها. فعجز الأشياء المدركة المحسوسة في العالم أي عجز العالم عن الإيجاد من عدم، وخضوعه لترتيب معين آتٍ من غيره دليل يقيني على أن العالم ليس أزلياً ولا قديماً بل هو مخلوق للأزلي القديم. أما الذين يقولون إن الخلق هو التقدير والتكييف وينكرون وجود الخالق من عدم فإن قولهم هذا معناه أن الأشياء المدركة المحسوسة والترتيب المعين المفروض عليها هما اللذان يخلقان، لأن التقدير والتكييف لا يمكن أن يتأتى إلا بوجود شيء مدرك محسوس وبوجود ترتيب معين آت من غير هذا الشيء. وهذا يجعل الخلق آتياً من هذين الأمرين - الأشياء المدركة المحسوسة والترتيب المعيَّن - فيكونان هما الخالقين. هذا هو ما يعنيه القول بأن الخلق هو التقدير والتكييف، وهذا باطل قطعاً. لأن الترتيب المعين لم يأت من الأشياء ولا من نفسه بل قد فرضه على الأشياء المدركة المحسوسة غيرها مما هو ليس مُدركاً ولا محسوساً، وبذلك يتبين أنه لا يمكن أن يكون التكييف والتقدير خلقاً، لأنه يستحيل به وحده أن يتم الإيجاد، بل لا بد من وجود شيء غير مدرك ولا محـسـوس يفرض ترتيباً معيناً للأشـياء المدركة المحـسـوسـة حتى يتأتى الإيجاد. وبهذا يظهر أن التكييف والتقدير ليس بخلق، ولا يمكن أن يتم به وحده إيجاد مطلقاً".

 

ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: اللهم اغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.

 

يَا مَن لَهُ عَنَتِ الوُجُوهُ بِأسْرِهَا ... رَغَبــًا وَكُـلُّ الكَائِنَــاتِ تُوَحِّــدُ

 

أنتَ الإلـهُ الواحِـدُ الحَـقُّ الذي ... كــلُّ القلــوبِ لَـهُ تُقِرُّ وَتَشْــهَدُ

 

وصلى الله وسلم وبارك على عين الرحمة وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، سيدنا محـمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

 

الخلق هو الإيجاد من العدم، ولا يقوى على الخلق إلا الله الخالق سبحانه وتعالى؛ أما المخلوق فيظل عاجزًا لا يقوى على تدبير شؤون نفسه بنفسه، يدبر بعضها، ويحتاج إلى غيره في تدبير ما تبقى منها. وقد ذكرنا فيما مضى صفات الخالق، وصفات المخلوق المناقضة لها تماما فقلنا: "إن المخلوق عاجز، وناقص، ومحتاج، ومحدود غيرُ أزلي. أما الخالق فهو قادر، وكامل، وغني، وأزليٌ غيرُ محدود".

 

وقد ناقش القرآن قضية الخلق نقاشًا عقليًا، ليثبت عجز البشر عن الخلق أي عن إيجاد شيء ما من العدم، وأن الله تعالى وحده هو القادر على ذلك، متبعًا في ذلك أسلوب الأسئلة الحوارية:

 

ففي سورة النحل يسألنا الله جل جلالـه سؤالًا استنكاريًا فيقول: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ). ‎(النحل ١٧)

 

وفي سورة الرعد يسأل الله تعالى الذين جعلوا له شركاء: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). ‎(الرعد ١٦)‏ 

 

وفي سورة الطور يلقي الله جل جلالـه مجموعة من الأسئلة، يقول الله تعالى وهو خير القائلين: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‎(٣٥)‏ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ‎(٣٦) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ). ‎(الطور 37)

 

‏ وفي سورة فاطر يخاطب الله المشركين فيقول لهم: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا). ‎(فاطر٤٠)

 

وفي سورة الحج ينادي الله جل في علاه الناس أجمعين متحديا إياهم أن تكون آلهتهم التي يعبدونها من دون الله قادرة على خلق أضعف مخلوق ألا وهو الذباب فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‎(٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). ‎(الحج ٧٤) 

 

بعد هذا العرض السريع لآيات الذكر الحكيم التي تتحدث عن الخلق والإيجاد من العدم، نأتي على ذكر ما ورد في كتاب الشخصية للشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله تعالى - في إثبات صفة القدرة على الخلق من العدم لله سبحانه وتعالى، وإثبات صفة العجز عن الخلق للبشر؛ وقد اتبع الشيخ الخطوات الآتية:

 

أولا: ذكر أن الأشياء الموجودة قد وجدت من أشياء مدركة ومحسوسة، وأنها خاضعة لنسبة معينة فرضت عليها. فيقول: "أما بالنسبة للأشياء التي توجد فواضح في أنها وجدت من أشياء مدركة محسوسة، وواضح أيضًا في أنها في وجودها خضعت لنسبة معينة فُرضت عليها فرضًا".

 

ثانيا: بين أن الأشياء الموجودة عاجزة عن إيجاد شيء ما من العدم، وأنها تخضع لنظام معين مفروض عليها، فقال: "وأما بالنسبة للأشياء التي وجدت فواضح في عجزها عن الإيجاد من عدم وواضح في أنها خاضعة جبرًا عنها إلى ترتيب معين فرض عليها فرضًا.

 

ثالثًا: استدل الشيخ - رحمه الله - من عجز الأشياء عن الإيجاد من العدم، وخضوعها لنظام معين، وهو ليس آتياً منها، وإلا لكانت قادرة على تركه، وعلى عدم الخضوع له، فهو آت من غيرها. استدل بذلك على أن العالم ليس أزليًا، ولا قديمًا، بل هو مخلوق للأزلي القديم. فقال - رحمه الله:- "فعجز الأشياء المدركة المحسوسة في العالم، أي عجز العالم عن الإيجاد من عدم، وخضوعه لترتيب معين آتٍ من غيره دليل يقيني على أن العالم ليس أزليًا، ولا قديمًا، بل هو مخلوق للأزلي القديم".

 

رابعًا: رد الشيخ على الذين يقولون: إن الخلق هو التقدير والتكييف وينكرون وجود الخالق، فقال - رحمه الله:- "أما الذين يقولون إن الخلق هو التقدير والتكييف وينكرون وجود الخالق من عدم فإن قولهم هذا معناه أن الأشياء المدركة المحسوسة، والترتيب المعين المفروض عليها هما اللذان يخلقان، لأن التقدير والتكييف لا يمكن أن يتأتى إلا بوجود شيء مدرك محسوس، وبوجود ترتيب معين آت من غير هذا الشيء.

 

خامسًا: وضح الشيخ - رحمه الله - معنى قولهم: "إن الخلق هو التقدير والتكيف". فقال: "وهذا يجعل الخلق آتيًا من هذين الأمرين: -

 

الأشياء المدركة المحسوسة، والترتيب المعيَّن- فيكونان هما الخالقين. هذا هو ما يعنيه القول بأن الخلق هو التقدير والتكييف، وهذا باطل قطعًا. لأن الترتيب المعين لم يأت من الأشياء ولا من نفسه بل قد فرضه على الأشياء المدركة المحسوسة غيرها مما هو ليس مُدركًا، ولا محسوسًا.

 

سادسًا: ذكر الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله - في نهاية حديثه النتيجة، والمحصلة النهائية، وخلاصة البحث فقال: "وبذلك يتبين أنه لا يمكن أن يكون التكييف والتقدير خلقـًا؛ لأنه يستحيل به وحده أن يتم الإيجاد، بل لا بد من وجود شيء غير مدرك، ولا محـسـوس يفرض ترتيبًا معينـًا للأشـياء المدركة المحـسـوسـة حتى يتأتى الإيجاد. وبهذا يظهر أن التكييف والتقدير ليس بخلق، ولا يمكن أن يتم به وحده إيجاد مطلقـًا.

 

أيها المؤمنون:

 

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

 

 

 

إعداد الأستاذ محمد أحمد النادي

آخر تعديل علىالأحد, 07 أيار/مايو 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع