الأحد، 22 محرّم 1446هـ| 2024/07/28م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول (ح 49)  الكتابة في اللوح المحفوظ لا تجبر الإنسان على فعل من أفعاله

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول

(ح 49)

 الكتابة في اللوح المحفوظ لا تجبر الإنسان على فعل من أفعاله

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:

 

أيها المؤمنون:

أحبتّنا الكرام:

 

السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ التاسعةِ والأربعين، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "الكتابة في اللوح المحفوظ لا تجبر الإنسان على فعلٍ من أفعاله".

 

يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "نعم قد ورد الإيمان بالقدر في حديث جبريل في بعض الروايات فقد جاء قال: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» أخرجه مسلم من طريق عمر بن الخطاب. إلا أنه خبر آحاد علاوة على أن المراد بالقدر هنا علم الله، وليس القضاء والقدر الذي هو موضع خلاف في فهمه". 

 

ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: اللهم اغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.

 

يَا مَن لَهُ عَنَتِ الوُجُوهُ بِأسْرِهَا ... رَغَبــًا وَكُـلُّ الكَائِنَــاتِ تُوَحِّــدُ

 

أنتَ الإلـهُ الواحِـدُ الحَـقُّ الذي ... كــلُّ القلــوبِ لَـهُ تُقِرُّ وَتَشْــهَدُ

 

وصلى الله وسلم وبارك على عين الرحمة وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، سيدنا محـمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

 

يقول الشيخ الغزالي - رحمه الله -: سألني -وأنا خارج من الجامعة - أحد الشباب قال لي: أليس مكتوبًا عليَّ أن أشرب الخمر، وأترك الصلاة؟ فقلت له على الفور: لا، ليس مكتوبًا عليك، إنك أنت الذي صنعت هذا بنفسك، وسوف تعاقب عليه يوم القيامة عقوبة عادلة. قال: أليس مكتوبًا عليّ؟ قلت له: لا، ليس مكتوبا عليك؟ وكان يسير معي أحد الطلاب فقال لي: لقد تعلمنا أن كل شيء مكتوبٌ في اللوح المحفوظ. قلت له: هذا الشاب لا يفهم معنى كلمة (مكتوب) إنه يظن أن كلمة (مكتوب) تعني أنه مجبور على فعل هذا. والكتابة بمعنى الجبر على الأفعال كلام كذب، لا يعرفه الإسلام، وهذا شخص يريد أن يعصي ربه، وأن يأخذ فتوى من أهل الدين على أن معصيته قدر سابق، لا يستطيع أن يفلت منه، ومعنى هذا بداهة أن العقوبة على المعصية ظلم، بل جور، لأنه مكره على أن يشرب الخمر، وعلى أن يترك الصلاة، فماذا فعل حتى يعاقب؟ إنكم معشر الشباب تفهمون معنى الكتابة في اللوح المحفوظ فهما خاطئًا. إنَّ الكتابة فيه لها معنى غير المعنى الذي يدور في أفهام الدهماء، وعقول العوام من أن الكتابة تعني بأنه مُكرهٌ، ومُلزم بأن لا يعدو حدود ما سُطِّر أزَلاً على جبينه. يقولون: "المكتوب ليس منه هروب، وما كتب على الجبين؛ لا بد أن تراه العين". لذلك ينبغي أن يعي المسلمون الحقائق الآتية:

 

الحقيقة الأولى: أن الكتابة السابقة في اللوح المحفوظ لا دخل لها في تصرفاتنا أبدًا، لماذا؟ أنا رجل في الجامعة أستاذ للطلاب، أَعرِف المجتهد منهم بعقلي، وأعرف المقصِّر منهم بنظري، فربما سُئِلت وأنا في الطريق ما رأيك في فلان أو في فلان؟ أقول: فلان قد ينجح، فلان قد يرسب، هذا رأيي فيهما، فهل إذا دخل أولئك الامتحان كان رأيي أنا فيهما هو السبب في نجاح ذاك، وسقوط هذا؟ لا، أبدًا، هذا لا صلة لرأيي أو لعلمي بتصرفات هؤلاء، والعلم الإلهي السابق لا صِلة له بأعمال الخلق، إنه مرآة تنكشف فيها أعمال العباد، وليس له تأثير لا سلبيٌ، ولا إيجابيٌ، لا فِعْلٌ، ولا ترْكٌ، لا إيجادٌ، ولا عَدَمٌ فيما يتصل بأحوال الناس. ومن هنا فإن سؤال هذا الشاب لي: هل مكتوبٌ عليَّ السّكر، أو مكتوب عليَّ ترك الصلاة؟ هو سؤال كاذب، وهو لعب بالدين أو احْتيال على الدين، لا يقبله دين الله أبدًا.

 

الحقيقة الثانية: الأعمال التي يباشرها الناس قسمان: هناك عمل لا دخْل لهم فيه بَداهةً، دقَّات قلبِك، هل يتحرك قلبُك بإرادتك؟ لا. الحركة الدورية للمعدة والأمعاء التي يُهضَم بها الطعام هل لك فيها دخل؟ لا. أمور كثيرة تقع منك أو في بدنك لا دخل لك فيها، لكن حركة يدك بِعَصًا تضرب بها إنسانا، أو بمسدس تُطلق منه طلقةً على آخر، هذا شيء قَدَّرْتَه ودبَّرتَه، وتصرّفتَ فيه بإرادتك وبحواسك وبأجهزتك، فأنت مسئول عنه.

 

الحقيقة الثالثة: هناك فرق بين أعمالٍ لا دخْلَ لك فيها في بدنك، وأعمالٍ أنت مسئول عنها بيقين. ربما وأنت سائرٌ في الطريق يقع لك حادث لا دخل لك فيه، هذا ممكن أن تقول: مكتوبٌ عليك، لأن الله يقول: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). (الحديد 22) ويقول: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). (التوبة 51)

 

الحقيقة الرابعة: هناك فارق بين نوعين من الأعمال، نوع باشرْتَه وعقلك يَقِظ، وإرادتك متوجهة، فأنت مسئول عنها. متى تفقد المسؤولية، أو متى لا يُوجَّه إليك السؤال؟ يوم تفقد هذا العقل، إن المجنون لا يحاسب على أفعاله. أمّا وأنت عاقل فإنك محاسبٌ على أفعالك يقينًا، ودعك من هذا العَبَث الذي يلجأ الناس إليه لكي يبرروا عُكوفهم على المعاصي، وبُعدهم عن طاعة الله، وهم مأمورون بترك المعصية، ومأمورون بفعل الطاعات.

 

الحقيقة الخامسة: هذا اللون من العَبث ليس جديدا في تاريخ الأمم، فإن المشركين قديما حاولوا أن يعبثوا بمثل هذا العبث. قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). (النحل35)

 

الحقيقة السادسة: الرُّسُل مكلفون بأن يبلِّغوا الرسالات، وبالبلاغ تنقطع أعذار الناس. قال تعالى: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا). (النساء165). يجيء المُرسَلون فيقولون للناس: هذا طريق الخير فاسلكوه، هذا طريق الشر فابتعدوا عنه.

 

 الحقيقة السابعة: أن الكون ليس رواية تمثيلية، أو مسرحُ عرائس يشتغل فيه الخلق بخيوط خلفية تشدُّهم وتتركهم، لا. هذا تصورٌ أحمق، وهو تصورُ أناسٍ فيهم جَرَاءَةٌ على الله، وهم يعرفون كذبهم من تلقاء أنفسهم؛ لأنهم فيما يتصل بمنافعهم يسارعون إليها كالبرق، إذ لو قيل لأحدهم: هناك كنْزٌ من المال تستطيع أن تحصل عليه؛ لأن أحدا لا يعرفه، جَرَى إليه قبل أن يجيء أحد؛ ينطلق إليه بسرعة البرق. أما إذا قلت له: المسجدُ فيه صلاةٌ من أحْرَزَها نالَ سبعًا وعشرين درجة زائدة على الفرض إذا صلّاه وحده بدأ يقول: والله الصلاة مكتوبة، أجورٌ مكتوبة، سبحان الله، إنهم يعاملون رب الكون بمنطقين!! هذا مسلك الأمم التافهة، وهو مسلك ما ينبغي أن يُقَرّ عليه أحد من الناس.

 

الحقيقة الثامنة: ينبغي أن نفهم مسألة الجبر والاختيار فهمًا صحيحًا. ولذلك في كتابي "عقيدة المسلم" أجبت إجابةً ساخرة عن هذا التساؤل. جاءني رجل يقول: هل نحن مُسيَّرُون أو مُخيَّرُون؟ فتأمّلت في ملامِحه وغاظَتْني غباوته، وقلت له: الناس مُسيَّرون ومُخيرون. قال لي: كيف؟ قلت: الناس في الغرب، في أوروبا وأمريكا مُخيرون، أما الناس في الشرق فمسيرون، تُسيِّرهم الأمَمُ التي رَكِبتْهم، واستعمرتهم، وهزَّت أقدامها فَوقَ ظُهُورهِم، هَذِهِ أممٌ مجبورة. وللحكاية بقية.

 

الحقيقة التاسعة: ثمة فرقٌ بينَ الإنسان والحيوانِ، عَجِبَ ذلك الرجل، وقال لي: كيف تقول هذا الكلام؟ قلت: ماذا أقول لكم؟ الله فرّق بين الإنسان والحيوان فقال للحيوان: لا عقلَ لك، وامض في طريقك بغرائزك وشهواتك. وقال لك: أنت صاحب العقل، صاحب قدرة وإرادة، فتَجْحَد عقلك وقُدرَتك وإرادتك ثم تجيء تقول لي: هل لي قُدرة؟ هل لي إرادة؟ الناس في أوروبا وأمريكا بقدرتهم وإرادتهم فَعلوا العجائب، غَزَوا الفضاء، بَذَلوا جهد الجبابرة حتى كانوا سادةَ الأرض، وأنت لا تزال هنا. سألتني: هل أنا لي قدرة أو لا؟ هل لي إرادة أم لا؟ أأنت حيوان أم إنسان؟

 

الحقيقة العاشرة: أن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة. ما زال الكثير من المسلمين يفاجئونني في الحقيقة بهذا التساؤل حول القَدَر، وحول الإرادة الحرة، فأقول لهم بإلحاح: يا عباد الله، إن لكم إرادة حُرّة، بها كُلِّفْتُم، وبها تُثَابون، وبها تُعاقبون. إن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة، وهو يكون أظلم الظالمين - حاش لله سبحانه - إذا دفعكَ إلى الحَان دفعًا؛ لتسكر فيه وأنت مجبور، ثم يدخلك جهنم. إنه - جلّ جلاله - لا يظلم، إنكم تنسبون إلى الله القبيح، وتتصورونه جبّارا يُدخِل الجنّةَ، أو النارَ من يشاء بطريقة استبدادية، لا عقل فيها، ولا وعي، هذا كلام ما قاله عاقل من الناس. لكن المسلمين عندما فقدوا رشدهم، وتركوا دينهم أرادوا أن يعصوا الله، ثم جاؤوا للمشايخ يقولون لهم: أليس هذا مكتوبًا علينا؟ لا، ليس مكتوبًا عليكم، إذا كانت الكتابة تعني تسجيل ما سيقع منكم؛ فهو مكتوب عليكم، نعم، ولكن ليس مكتوبًا عليكم، أي: ليس كما يقول الواحد منكم: "المكتوب على الجبين يلزم أن تراه العين". ثم يمضي جاحِدًا نفسه، جاحِدًا فكره، جاحدًا قُدرته، جاحدًا إرادته، ثم نراه بعد ذلك لا يَصلحُ لكي ينهض بأمته، أو تنهض به أمته.

 

الحقيقة الحادية عشرة: هذا الجيل المُتعب، المجروح الفكر والعقل يجب أن يعلن نفسه، لا عذر بالقدر، إن الأقدار شيء آخر، ابذل جهدك، ابذل وسعك "لا يُكلِّف الله نفسًا إلا ما آتاها" فإذا آتاك رأسمال من الذكاء، أو من الوقت، أو من الجهد ففي حدود الرأسمال الذي آتاك الله إياه تَحَرّك، والقَدَر هو أنّه أعطاك رأسَمالٍ كبيرًا أو صغيرًا، في حدود ما آتاك اعمل "فَمَن اهتدى فإنّما يهتدي لِنفسه ومَن ضَلّ فإنّما يَضِلُّ عليها وما أنا عَليكُم بوكِيل".

 

الحقيقة الثانية عشرة: أنك أنت مسئول برأسك عن نفسك، وعمن هم تحت رعايتك ممن استرعاك الله إياهم. إن الاعتذار بالأقدار من الأكاذيب التي شاعت بين الدّهْمَاء والرِّعَاع، وهي التي أخّرَت المسلمين على هذا النحو الشَّائِن الذي نراه الآن، ولذلك أحِبُّ أنْ أقول للناس: هَيْهات هَيْهَات أن يُسمع منكم هذا اللّغو، لا اعتذار بِقَدَر... أدِّ ما عليك أيها المسلم، ولا تقل: كُتِبَ عليَّ أن أسْكر، أو كُتِبَ عليَّ أن أطيع. هذا كلّه مَكذوب على ربّ العالمين، وعلى الدِّين المَتِين الذي شرَّفَنا الله به. المصدر: كتاب حديث الاثنين - بتصرف-.

 

أيها المؤمنون:

 

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

 

 

 

إعداد الأستاذ محمد أحمد النادي

آخر تعديل علىالثلاثاء, 06 حزيران/يونيو 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع