مختصر السيرة النبوية العطرة

ح 85

عــــام الحـــزن

بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، ونهاية الحصار خرج بنو هاشم، وبنو المطلب من شِعْبهم، ورجَعُوا إلى حياتهم الطبيعية يمارسون كل نشاط في مكة، وانتهت المقاطعة الظالمة، ولكن العداوة ما زالت موجودة للنبي ﷺ من قريش. وبسبب الحصار الذي استمر ثلاث سنوات تعب، ومرض أبو طالب عم النبي ﷺ الذي بلغ من العمر ثلاثة وثمانين عامًا، ضعف جسده، وأشرف على الموت. فبلغ ذلك سادة قريش، ومنهم أبو جهل أن أبا طالب على فراش الموت فذهبوا إليه، فقال لهم النبي ﷺ: "خلُّوا عن عمي" فقالوا: ما نحن بفاعلين، وما أنت أحقُ به منا!! فقال: يا عم جزيت خيرًا، كفلتني صغيرًا، وحضنتني كبيرًا، فجزيت عنّي خيرًا، يا عماه أعنّي على نفسك بكلمة واحدة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة!! فقال أبو طالب: يا ابن أخي، والله لولا مخافة العار على بني أبيك من بعدي، وأن تظنّ قريش أني قلتها جزعًا من الموت لقلتها لأقرّ بها عينك؛ لما أرى من نصيحتك لي!! فجعل أبو جهل، وأشراف قريش يكلمون أبا طالب ويقولون له: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وأنت رأس الحنيفية؟؟ فسكت حتى فاضت روحه!! فقال النبي ﷺ: «رحمك الله وغفر لك يا عمِّ، لأستغفرنّ لك ما لم أنهَ عنه». فأنزل الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببتَ ولكنَّ الله يهدي من يشاء). وأمر رسول الله ﷺ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن يدفن أباه. وقد روي أن النبي ﷺ خرج في جنازة أبي طالب فجعل يمشي مجانبًا له، ولم يقم على قبره. وجاءت روايات تقول: إن العباس كان أقرب الناس إلى أبي طالب عند فراشه عند موته قال: يا رسول الله سمعته قال الكلمة التي تريد، فقال له ﷺ: «ولكني لم أسمعها».

حزن النبي ﷺ على موت عمه كثيراً، وبعد موته زاد شر قريش على النبي ﷺ؛ لأن أبا طالب هو الذي كان يقف في وجههم دائمًا. وكان إذا ذُكر عمه يقول فيه النبي ﷺ: «هو أهون أهل النار عذابًا، لعله تنفعهُ شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاحٍ من النار، يبلغُ كعبيه يغلي منه دماغه». لولا شفاعة النبي ﷺ له؛ لكان في الدرك الأسفل من النار أي في أسفل طبقة في النار. والضحضاح: كمية قليلة من الماء تغطي الكعبين. بعد وفاة أبي طالب قال النبي ﷺ في حديث رواه البخاري في صحيحه: «ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه، حتى مات أبو طالب». فلم ينتهِ حزنه على عمه، حتى فجع ﷺ بمصيبة أكبر!! لقد مات النصير القوي خارج البيت، وهو عمه أبو طالب، وقيل: بعد شهر واحد مات الحضن الدافئ داخل البيت، وهي السيدة العظيمة أمنا خديجة رضي الله عنها، وحزن النبي ﷺ على موتهما حزنًا شديدًا، أطلق النبي ﷺ على هذا العام اسم «عام الحزن» بسبب قلة من دخل في الإسلام في هذا العام، ولتزايد اضطهاد قريش، وتعذيبها للمسلمين. بعد موت أبي طالب ماتت السيدة خديجة جزاها الله عنا كل خير، ورضي الله عنها وأرضاها، وهنيئًا لها منزلتها في الجنة «سيدة نساء أهل الجنة» وشيعها النبي ﷺ إلى مقبرة الحجون، ونزل في قبرها، ودعا لها. وكان ﷺ يذكرها دائمًا ويكرم صاحباتها، وكان إذا ذبح ذبيحة، يقول: أرسلوا إلى صويحباتِ خديجة. وكان يقول ﷺ عنها «آمنت بي إذ كفر بي النّاس، وصدقتني إذ كذّبني النّاس، وواستني بمالها إذ حرمني النّاس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء». صلوا على حبيب القلوب محمَّد وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا، وَحَبِيبِنَا، وَعَظِيمِنَا، وَقَائِدِنَا، وَقُدْوَتِنَا، وَقُرَّةِ أَعْيُنِنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير الأستاذ محمد النادي