مختصر السيرة النبوية العطرة

ح 173

السنة الرابعة للهجرة - نزول آية تحريم الخمر

الآية الأولى التي نزلت جواباً للسائلين ليس فيها تحريم للخمر:

في أثناء حصار النبي ﷺ لبني النضير، أنزل الله تحريم الخمر تحريماً باتاً وقاطعاً، وقد جرى تحريم الخمر دفعة واحدة، وليس على ثلاث مراحل - كما يتوهم بعض المسلمين - وما توهموه مرحلة أولى لم يكن تحريماً للخمر، بل كان مُجَرَّدَ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ، وبعد هذا الجواب ظلت الخمر مباحة، إذ لو كانت الخمر محرمة لكان الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - أبعد الناس عنها.

فحين قدم رسول الله ﷺ المدينة سأله الناس عن الخمر والميسر، فأنزل الله قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا). فقال الناس: ما حرّمها علينا، إنما قال: (فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ)، فشَرِبَهَا قَومٌ؛ لِوُجُودِ النفع، وَتَرَكَهَا آخَرُونَ؛ لِوُجُودِ الإِثْمِ.

النهي عن قرب الصلاة في حالة السكر ليس تحريماً للخمر:

وما توهموه مرحلة ثانية لم يكن كذلك تحريماً للخمر، بل ظل الخمر مباحاً شربها في غير أوقات الصلاة، وإنما كان النهي عن قُرْبِ الصَّلَاة في حالة السكر؛ كي يعلم المصلي ما يقول في صلاته. فقد حدث ذات يوم أن دعا رجل من الأنصار نفراً إلى شربها، فحضرت صلاة المغرب، فقام أحدهم يصلي بأصحابه، وهو سكران، فخلط في القراءة، فبدل أن يقول: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‎(١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) حذف حرف (لا) فقال: "قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون". فأنزل الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) فقلَّ شاربوها إذ صاروا يمتنعون طول النهار حرصاً على صحة الصلاة.

آية تحريم الخمر حرمته دفعة واحدة تحريماً باتّاً قَاطِعاً دون تدريج:

ثم أثناء حصار بني النضير أُنزلت آية تحريم الخمر: (‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‎(٩٠)‏ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ). ‎(المائدة ٩١) فحُرم الخمر دفعةً واحدةً، دُونَ تَدرِيج، تَحْريماً باتاً قاطعاً. وقد أُكِّدَ تَحرِيمُ الخَمْرِ وَالمَيسِرِ بِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِنَ التَّأكِيدِ:

• مِنهَا: تَصدِيرُ الجُمْلَةِ بِإِنَّمَا التي تفيد التوكيد والحصر.
• وَمِنهَا: أنَّهٌ قَرَنَ الخَمْرَ، وَالمَيْسِرَ بِعِبَادَةِ الأصْنَامِ.
• وَمِنهَا: أنَّهُ جَعَلَ الخَمْرَ، وَالمَيْسِرَ رِجْساً كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
• وَمِنْهَا: أنَّهُ جَعَلَ الخَمْرَ، وَالمَيْسِرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ، وَالشَّيطَانُ لا يَأتِي مِنهُ إِلاَّ الشَّرُّ البَحْتُ.
• وَمِنْهَا: أنَّهُ أمَرَ بِالاجِتِنَابِ، والاجتناب هو أشد أنواع التحريم.
• وَمِنْهَا: أنَّهُ جَعَلَ الاجتِنَابَ مِنَ الفَلاحِ. وَإِذَا كَانَ الاجتِنَابُ فَلاحاً كَانَ الارتِكَابُ خَيبَةً وَخُسرَانا.
• وَمِنهَا أنَّهُ ذَكَرَ مَا يَنتُجُ مِنَ الخَمْرِ، وَالمَيْسِرِ مِنَ الوَبَالِ وَهُوَ وُقُوعُ التَّعَادِي، وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَ أصْحَابِ الخَمْرِ وَالقِمَارِ، وَمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيهِ مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَعَنْ مُرَاعَاةِ أوقَاتِ الصَّلاةِ.
• وَقَولُهُ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). مِنْ أبْلَغِ مَا يُنهَى بِهِ، كَأنَّهُ قِيلَ: قَدْ تُلِيَ عَلَيكُمْ مَا فِيهَا مِنْ أنوَاعِ الصَّوَارِفِ وَالمَوَانِعِ، فَهَلْ أنتُمْ عَنْ هَذِهِ الصَوَارِفِ، وَالمَوَانِعِ مُنتَهُونَ؟

نزلت آية تحريم الخمر، فكيف كانت استجابة الصحابة رضي الله عنهم؟... هيا بنا نتابع وصلوا، وسلموا على هادي الأممِ سيدنا محمَّدٍ الأمينِ، قائدِ الغرِّ المُحجَّلين ... اللهم أوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وارزقنا شفاعته!!

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا، وَحَبِيبِنَا، وَعَظِيمِنَا، وَقَائِدِنَا، وَقُدْوَتِنَا، وَقُرَّةِ أَعْيُنِنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير الأستاذ محمد النادي