- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح26)
استجابة الإنسان لغرائزه وحاجاته العضوية فيها قابلية الخير والشر
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ وَالعِشْرِينَ, وَعُنوَانُهَا: "استِجَابَةُ الإِنسَانِ لِغَرَائِزِهِ وَحَاجَاتِهِ العُضوِيَّةِ فِيهَا قَابِلِيَّةُ الخَيرِ وَالشَّرِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ التَّاسعَةَ عَشْرَةَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "وَإنَّهُ وَإنْ كَانَتْ خَاصِيَّاتُ الأشيَاءِ، وَخَاصِيَّاتُ الغَرَائِزِ، وَالحَاجَاتُ العُضْوِيَّةُ الَّتِي قَدَّرَهَا اللهُ فِيهَا وَجَعَلَهَا لازِمَةً لَهَا، هِيَ الَّتِي كَانَ لَهَا الأثرُ فِي نَتِيجَةِ الفِعْلِ، لَكِنَّ هَذِهِ الخَاصِيَّاتِ لا تُحْدِثُ هِيَ عَمَلاً، بَلِ الإنسَانُ حِينَ يَستَعْمِلُهَا هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ العَمَلَ بِهَا، فَالميْلُ الجِنْسِيُّ المَوجُودُ فِي غَرِيزَةِ النَّوعِ فِيهِ قَابِليَّةٌ لِلخَيرِ وَالشَّرِّ، وَالجُوعُ المَوجُودُ فِي الحَاجَةِ العُضْوِيَّةِ فِيهِ قَابِليَّةٌ لِلخَيرِ وَالشَّرِّ، لَكِنَّ الَّذِي يَفعَلُ الخَيرَ وَالشَّرَّ هُوَ الإِنسَانُ, وَلَيسَتِ الغَرِيزَةُ أو الحَاجَةُ العُضوِيَّةُ، وَذَلِكَ أنَّ اللهَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ لِلإنسَانِ العَقْلَ الَّذِي يُمَيِّزُ، وَجَعَلَ فِي طَبِيعَةِ العَقْلِ هَذَا الإِدرَاكَ وَالتَّميِيزَ، وَهَدَى الإنسَانَ لِطَرِيقِ الخَيرِ وَالشَّرِّ: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). وَجَعَلَ فِيهَا إِدرَاكَ الفُجُورِ وَالتَقْوَى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا). فَالإِنسَانُ حِينَ يَستَجِيبُ لِغَرَائزِهِ وَحَاجَاتِهِ العُضوِيَّةِ وَفْقَ أوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ يَكُونُ قَدْ فَعَلَ الخَيرَ, وَسَارَ فِي طَرِيقِ التَّقوَى، وَحِينَ يَستَجِيبُ لِلغَرَائزِ وَالحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ أوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ يَكُونُ قَدْ فَعَلَ الشَّرَّ, وَسَارَ فِي طَريقِ الفُجُورِ، فَكَانَ فِي كُلِّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ مِنهُ الخَيرُ وَالشَّرُّ، وَعَلَيهِ يَقَعُ الخَيرُ وَالشَّرُّ، وَكَانَ هُوَ الَّذي يَستَجِيبُ لِلجَوعَاتِ وَفْقَ أوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ فَيفْعَلُ الخَيرَ، وَيَستَجِيبُ لَهَا مُخَالِفاً لأوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ فَيفْعَلُ الشَّرَّ".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: لَقَدْ لَبِثَ نُوحٌ عَلَيهِ السَّلامُ فِي قَومِهِ يَدعُوهُم ألفَ سَنةٍ إِلاَّ خَمسِينَ عَاماً. هَذِهِ هِيَ فَترَةُ الدَّعوَةِ فَقَط, وَلا نَدرِي كَمْ عَاشَ قَبلَهَا, وَلا كَمْ عَاشَ بَعدَهَا, وَلَمَّا سَألُوهُ: كَيفَ وَجَدْتَ الحَيَاةَ الدُّنيَا قَالَ: "وَجَدْتُهَا كَأنَّهَا غُرفَةٌ لَهَا بَابَانِ, دَخَلْتُ مِنَ الأوَّلِ وَخَرَجْتُ مِنَ الثَّانِي". تَعَالَوا بِنَا نَعِيشُ هَذَا المَشهَدَ التَّمثِيلِيَّ الَّذِي نَهدِفُ مِنْ خِلالِهِ إِلَى إِيصَالِ فِكْرَةٍ مَا إِلَى عُقُولِكُمْ. هَيَّا بِنَا نَسِيرُ وَإِيَّاكُمْ إِلَى الصَّحَرَاءِ الخَالِيَةِ الجَرْدَاءِ, هَا نَحنُ نَسِيرُ, وبَعدَ أنْ قَطَعنَا شَوطاً كَبِيراً .. لاحَظنَا مِنْ بَعِيدٍ مَا يُشبِهُ البِنَاءَ .. بَقِينَا نَسِيرُ إِلَى أنِ اقتَرَبنَا .. أنعِمُوا النَّظَرَ .. إِنَّهُ بِنَاءٌ يُشبِهُ الحُجْرَةَ الصَّغِيرَةَ .. دَعُونَا نَقتَرِبْ أكثَرَ فَأكثَرَ .. هَا قَدِ اقتَرَبْنَا .. حَقًا إِنَّهَا غُرفَةٌ .. دَعُونَا نَذْهَبْ إِلَيهَا لِنَرَى مَا شَأنُهَا .. هَا قَدْ وَصَلْنَا .. وَلكِنْ مَا هَذَا الَّذِي نَرَاهُ؟ إِنَّها لَوحَةُ إِعلانَاتٍ, لِنَقرَأْ مَا كُتِبَ عَلَيهَا: عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُخُولَ إِلَى الغُرفَةِ المُجَاوِرَةِ أنْ يَقرَأ التَّعلِيمَاتِ الآتِيَةَ.
1. أمَامَكَ أيُّهَا الدَّاخِلُ غُرفَةٌ لَهَا بَابَانِ مُتَقَابِلانِ: تَدخُلُ مِنَ البَاب الأوَّلِ, وَتَخرُجُ مِنَ الثاني.
2. سَتَجِدُ أيُّها الدَّاخِلُ مِنضَدَةً أيْ طَاوِلَةً عَلَيهَا كَأسَانِ مَملُوءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا مُلِئَتْ عَسَلاً, وَالأخْرَى مُلِئَتْ خَمْراً.
3. أنْتَ أيُّها الدَّاخِلُ مُخَيَّرٌ فِي أنْ تَتَنَاوَلَ أو تَشرَبَ مِنْ أيِّ الكَأسَينِ شِئْتَ.
4. بَعدَ خُرُوجِكَ أيُّهَا الدَّاخِلُ مِنَ البَابِ الثَّانِي سَتَلقَى جَزَاءَكَ عَلَى النَّحْوِ الآتِي:
1) إنْ كُنتَ قَد تَنَاوَلْتَ مِنْ كَأسِ العَسَلِ, فَلَكَ جَائِزَةٌ قَيِّمَةٌ.
2) وَإِنْ كُنتَ قَدْ عَاقَرْتَ الخَمْرَ, فَسَيَقَعُ عَلَيكَ عَذَابٌ شَدِيدٌ. - انتَهى المَشهَدُ وَأُسدِلَ السِّتَارُ-.
يُمَثِّلُ هَذَا المَشهَدُ نَمُوذَجاً حَيّاً, وَمِثَالاً مُصَغَّراً لِلحَيَاةِ الدُّنيَا الَّتِي يَحيَاهَا الإِنسَانُ. فَالغُرفَةُ هِيَ الحَيَاةُ الدُّنيَا, وَالعَسَلُ وَالخَمْرُ هُمَا فِعْلُ الخَيرِ وَفِعْلُ الشَّرِّ, وَالجَائِزَةُ وَالعَذَابُ هُمَا الثَّوَابُ وَالعِقَابُ. وَمَهْمَا كَانَ اختِيَارُ الدَّاخِلِ, سَوَاءً اختَارَ الخَمْرَ أوِ اختَارَ العَسَلَ, فَإِنَّ اختِيَارَهُ يَظَلُّ ضِمْنَ وَوَفْقَ مَشِيئَةِ وَاضِعِ الخَمْرِ وَالعَسَلِ, إِذْ لَوْ لَمْ يَشَأ هَذَا الوَاضِعُ لِلدَّاخِلِ أنْ يُعَاقِرَ الخَمْرَ لَمَا وَضَعَهُ لَهُ.
وَللهِ سُبحَانَهُ المَثَلُ الأعْلَى, فَاللهَ تَعَالَى خَلَقَ الإِنسَانَ, وَوَهَبَهُ العَقْلَ المُفَكِّرَ, وَأرْسَلَ لَهُ رُسُلاً يُبَيِّنُونَ لَهُ طَرِيقَ الخَيرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ. يَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلالُهُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ العَزِيزِ: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). (البلد 10) وَيَقُولُ سُبحَانَهُ: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). (الإنسان 3) وَيَقُولُ جَلَّ فِي عُلاهُ: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). (الشمس 7-10) وَأخبَرَ اللهُ الإِنسَانَ عَلَى لِسَانِ رَسُلِهِ أنَّهُ إِنْ أطَاعَ فَلَهُ الجَنَّةُ يَتَمَتَّعُ بِنَعِيمِهَا, وَإِنْ عَصَى فَلَهُ نَارُ جَهَنَّمَ يَصلَى حَرَّهَا, قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ). (الانفطار 13 – 19) فَدَلَّتِ الآيَاتُ عَلَى أنَّ الإنسَانَ فِي الدَّائِرَةِ الَّتِي يُسَيطِرُ عَلَيهَا مُخَيَّرٌ بَينَ اتِّبَاعِ طَرِيقِ الحَقِّ وَالتُّقَى وَالخَيرِ, وَبَينَ اتِّبَاعِ طَرِيقِ البَاطِلِ وَالفُجُورِ وَالشَّرِ. وَقَالَ تَعَالَى مُحَمِّلاً كُلَّ إِنسَانٍ تَبِعَةَ وَمَسؤُولِيَّةَ القِيَام بِأعْمَالِهِ: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). (المدثر 38) وَقَالَ أيضاً يَصِفُ مَشهداً مِنْ مَشَاهِدِ الحِسَابِ يَومَ القِيَامَةِ: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا). (الإسراء 13 – 15)
فِي الفَقْرَةِ الَّتِي بَينَ أيدِينَا مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الإِسلامِ استَخْلَصْتُ لَكُمْ مِنهَا الأفكَارَ الآتِيَةَ:
1. الميْلُ الجِنْسِيُّ المَوجُودُ فِي غَرِيزَةِ النَّوعِ فِيهِ قَابِليَّةٌ لِلخَيرِ وَالشَّرِّ.
2. الجُوعُ المَوجُودُ فِي الحَاجَةِ العُضْوِيَّةِ فِيهِ قَابِليَّةٌ لِلخَيرِ وَالشَّرِّ.
3. خَاصِيَّاتُ الأشيَاءِ، وَخَاصِيَّاتُ الغَرَائِزِ وَالحَاجَاتُ العُضْوِيَّةُ لا تُحْدِثُ عَمَلاً، بَلِ الإنسَانُ حِينَ يَستَعْمِلُهَا هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ العَمَلَ بِهَا.
4. الَّذِي يَفعَلُ الخَيرَ وَالشَّرَّ هُوَ الإِنسَانُ, وَلَيسَتِ الغَرِيزَةُ أو الحَاجَةُ العُضوِيَّةُ.
5. اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ لِلإنسَانِ العَقْلَ الَّذِي يُمَيِّزُ.
6. اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هَدَى الإنسَانَ لِطَرِيقِ الخَيرِ وَالشَّرِّ
7. الإِنسَانُ حِينَ يَستَجِيبُ لِغَرَائزِهِ وَحَاجَاتِهِ العُضوِيَّةِ وَفْقَ أوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ يَكُونُ قَدْ فَعَلَ الخَيرَ, وَسَارَ فِي طَرِيقِ التَّقوَى.
8. وَالإِنسَانُ حِينَ يَستَجِيبُ لِلغَرَائزِ وَالحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ أوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ يَكُونُ قَدْ فَعَلَ الشَّرَّ, وَسَارَ فِي طَريقِ الفُجُورِ.
بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ الزِّنا مِن الأُمُورِ المُنتَشِرَةِ، فَهُوَ مِثلُ الشِّركِ الَّذِي لا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنهُ أحَدٌ، فَالشِّركُ كَثِيرُ الانتِشَارِ، وَهُوَ فِي النُّفُوسِ أخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّملِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم, وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا يُؤمِنُ أكثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشرِكُونَ). وَرَوَى الإِمَامُ المُنذِرِيُّ فِي كِتَابِ التَّرغِيبِ وَالتَّرهِيبِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ t قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ, وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئاً نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ». وَمِثلُ ذَلِكَ الزِّنا, فَهُوَ أيضاً أنوَاعٌ مُنَوَّعَةٌ، وَهُوَ مُنتَشِرٌ خَفِيٌ، رَوَى ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ t، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَتَبَ اللَّهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ: فَزِنَا الْعَيْنُ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى ذَلِكَ وَتَشْتَهِي، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ». فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لا يَقتَرِفُونَ جَرِيمَةَ الزِّنَا نَفسِهَا, وَلَكِنَّهُمْ يَقتَرِبُونَ مِنهَا، وَاللهُ تَعَالَى حَّرَمَ الاقتِرَابَ مِنَ الزِّنَا، وَلَمْ يُذْكَرِ النَّهيُ عَنِ الزِّنَا نَفسِهِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: (وَلا تَقرَبُوا الزِّنَا) فَلَمْ يَقُلِ اللهُ تَعَالَى: "وَلا تَزنُوا"، وَإِنَّمَا قَالَ: (وَلا تَقرَبُوا الزِّنَا) فَهَذَا يَقتَضِي تَحرِيمَ النَّظَرِ، وَتَحرِيمَ الكَلامِ فِي الرِّيبَةِ، وَتَحرِيمَ الاقتِرَابِ وَالدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ، وَالخَلْوَةِ وَالخُلْطَةِ وَغَيرِ ذَلِكَ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا حَرَّمَهُ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَولِهِ: (وَلا تَقرَبُوا) وَإِنَّ مُصَافَحَةَ المَرأةِ الأجنَبِيَّةِ بِاليَدِ مِنَ الاقتِرَابِ مِنَ الزِّنَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ. وَرَدُّ السَّلامِ عَلَى المَرأةِ فِي - غَيرِ رِيبَة - إِذَا سَلَّمَتْ بِالقَولِ لا حَرَجَ فِيهِ، بَلْ هُوَ مِمَّا أمَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ بِقَولِهِ تَعَالَى: (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنهَا أو رُدُّوهَا). فَرَدُّ السَّلامِ لا حَرَجَ فِيهِ شَرعاً، وَمِثلُ ذَلِكَ تَشمِيتُ العَاطِسِ، فَهُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ المُسلِمِ عَلَى أخِيهِ, وَيَستَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، لَكِنَّ المُحَرَّمَ هُوَ كَلامُ الرِّيبَةِ. قَالَ تَعَالَى: (وَلا تَخضَعْنَ بِالقَولِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).
وَكَذَلِكَ الدُّخُولُ عَلَى النِّسَاءِ وَالخَلْوَةُ بِهِنَّ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَالحَمُو؟ فَقَالَ: «الحَمُو المَوتُ». وَبِالنِّسبَةِ لِحَظِ الإِنسَانِ مِنَ الزِّنَا: لَو كَانَ كُلُّ نَظَرٍ إِلَى مُحَرَّمٍ دَاخِلاً فِي هَذَا لَكَانَ هَذَا مُشكِلَةً وَضَررًا عَلَى النَّاسِ، وَقَد أبَاحَ اللهُ النَّظرَةَ الأُولَى كَمَا قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَلِيُّ لا تُتْبِعِ النَّظرَةَ النَّظرَةَ, فَإِنَّمَا لَكَ النَّظرَةُ الأُولَى». فَلِهَذَا قَالَ: «وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أو يُكَذِّبُهُ». فَالشَّاهِدُ الَّذِي يَشْهَدُ أنَّ هَذَا مِنَ الزِّنَا أو لَيسَ مِنهُ هُوَ الفَرْجُ، إِذَا صَدَّقَ ذَلِكَ مَعنَاهُ أنَّ الإِنسَانَ - نَسألُ اللهَ السَّلامَةَ وَالعَافِيَةَ - قَد وَقَعَ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ، وَإِذَا كَذَّبَهُ فَمَعنَاهُ أنَّهُ لَمْ يُصِبْ حِينَئِذٍ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ، وَكَذَلِكَ السَّمَاعُ فَإِذَا كَانَ مِنَ الزِّنَا فَعَلامَةُ ذَلِكَ وَشَاهِدُهُ أنْ يُصَدِّقَ ذَلِكَ الفَرْجُ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ كَذَّبَهُ فَمَعنَاهُ أنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا حُرِّمَ عَلَيهِ. أمَّا بِالنِّسبَةِ لِتَعلِيمِ النِّسَاءِ وَجَمعِهِنَّ: هَذَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتَةِ عَنهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ الرِّيبَةِ، لَكِنَّ المُشكِلَةَ فِي الخَلْوَةِ بِالأجنَبِيَّةِ وَالدُّخُولِ عَلَيهَا، وَمُخَالَطَةُ النِّسَاءِ الأجنَبِيَّاتِ فِي غَيرِ حَاجَةٍ يُقِرُّهَا الشَّرعُ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.