- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح36) خوض الصراع الفكري مع القوميين والوطنيين (ج5)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ وَالثَّلاثِينَ, وَعُنوَانُهَا: "خَوضُ الصِّرَاعِ الفِكْرِيِّ مَعَ القَومِيِّينَ وَالوَطَنِيِّينَ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّانِيَةِ وَالعِشرِينَ مِنْ كِتَابِ "نظَامِ الإِسلامِ" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "تَنْشَأُ بَينَ النَّاسِ كُلَّمَا انْحَطَّ الفِكرُ رابِطَةُ الوَطَنِ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ عَيشِهِمْ فِي أرْضٍ وَاحِدَةٍ وَالتِصَاقِهِمْ بِهَا". وَيَقُولُ أيضاً: "وَحِينَ يَكُونُ الفِكْرُ ضَيِّقاً تَنْشَأُ بَينَ النَّاسِ رَابِطةٌ قَومِيَّةٌ، وَهِيَ الرَّابِطَةُ العَائليَّةُ وَلَكنْ بِشَكْلٍ أَوْسَعَ".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: وَجَاءَ اليَومُ التَّالِي الَّذِي دَبَّرَ فِيهِ طُلابُ الصَّفِّ الثَّانِي الإِعدَادِي مَكِيدَةً لأُستَاذِ العُلُومِ صَاحِبِ الفِكْرِ القَومِيِّ العَرَبِيِّ, وَمِنَ التَّدبِيرِ الإِلَهِيِّ وَالرِّعَايَةِ الرَّبانِيَّةِ الَّتِي لا دَخْلَ لِي بِهَا وَلا لِلطُّلابِ, كَانَ لَهُمْ عِندِي فِي ذَلِكَ اليَومِ حِصَّتانِ اثنَتَانِ: الحِصَّةُ الثَّانِيَةُ لِمَادَّة اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ, وَالحِصَّةُ الثَّالِثَةُ لِمَادَّةِ العُلُومِ, وَالحِصَّةُ الرَّابِعَةُ لِمَادَّة اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. فَكَانَتْ حِصَّةُ العُلُومِ وَأستَاذُهَا بَينَ فَكَّي كَمَاشَةِ حِصَّتَي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَأُستَاذِهَا. حَضَرْتُ الحِصَّةَ الثَّانِيَةَ إِلَى غُرفَةِ الصَّفِّ, فَقَالَ لِي ذَلِكَ الطَّالِبُ النَّجِيبُ: هَلْ تَتَكَرَّمُ يَا أُستَاذُ عَلَينَا, فَتُعِيدَ عَلَى أسْمَاعِنَا الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ وَالشَّرعِيَّةَ عَلَى بُطلانِ فِكْرَةِ القَومِيَّةِ العَرَبِيَّةِ وَغَيرِهَا مِنَ القَومِيَّاتِ لِتَتَرَسَّخَ فِي أذْهَانِنَا أكْثَرَ فَأكْثَرَ حَتَّى نَستَطِيعَ إِقنَاعَ الآخَرِينَ بِبُطلانِهَا؟ قُلْتُ لَهُ: حُبّاً وَكَرَامَةً يَا أبنَائِي!! وأخذت أُعِيدُ عَلَى أسْمَاعِهِمْ سَرْدَ الأدِلَّةِ, وَزِدْتُ عَلَيهَا بِمَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيَّ, حَتَّى انتَهَتِ الحِصَّةُ, فَشَكَرُونِي, وَخَرَجْتُ مِنْ عِندِهِمْ هَادِئَ البَالِ, قَرِيرَ العَينِ بِطُلابِي الأذكِيَاءِ!!
دَخَلَ أُستَاذُ مَادَّةِ العُلُومِ مِنْ بَعدِي فِي الحِصَّةِ الثَّالِثَةِ, حَيَّا الطُّلابَ, وَكَتَبَ عَلَى السَّبُورَةِ عُنوَانَ الدَّرسِ: "المغناطيسية" ثُمَّ أرَادَ أنْ يَبدَأ بِالشَّرْحِ, فَقَالَ لَهُ أحَدُ الطُّلابِ: مَا رَأيُكَ يَا أُستَاذُ لَو أجَّلْتَ لنَا الحَدِيثَ عَنِ المِغنَاطِيسِيَّةِ, وَتُحَدِّثُنَا عَنِ القَومِيَّةِ العَرَبِيَّةِ؟ سُرَّ الأُستَاذُ سروراً عَظِيماً, وَقَالَ: طَالَمَا أنتُمْ تُرِيدُونَ ذَلِكَ, وَهَذِهِ هِيَ رَغْبَتُكُمْ, فَأنَا مُوَافِقٌ عَلَى طَلَبِكُمْ, وَأخَذَ المِمْحَاةَ فَمَحَى كَلِمَةَ "المِغنَاطِيسِيَّةَ" وَكَتَبَ مَكَانَهَا كَلِمَةَ "القَومِيَّةَ". وَمَا كَادَ الأُستَاذُ يَبدَأُ الحَدِيثَ, حَتَّى قَالَ لَهُ أحَدُ الطُلابِ: هَلْ تَسمَحُ لِي بِالحَدِيثِ يَا أُستَاذُ؟ قَالَ لَهُ: تَفَضَّلْ. قَالَ الطَّالِبُ: إِنَّ القَومِيَّةَ تَتَعَارَضُ مَعَ نُصُوصٍ قُرآنِيَّةٍ قَطعِيَّةِ الثُّبُوتِ, قَطعِيَّةِ الدَّلالَةِ؟ قَالَ الأُستَاذُ: وَمَا هِيَ هَذِهِ النُّصُوصُ؟ قَالَ الطَّالِبُ:
1. إِنَّ مِقيَاسَ التَّفَاضُلِ بَينَ النَّاسِ عِندَ اللهِ هُوَ التَّقْوَى, وَلَيسَ الانتِسَابَ إِلَى قَومِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ, قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (الحجرات 13)
2. إنَّ نَبِيَّ اللهِ إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلامُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ أبَاهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأ مِنهُ, قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ). (التوبة 114)
3- إِنَّ أبَا لَهَبٍ, وَأبَا جَهْلٍ, وَأبَا طَالِبٍ أعْمَامَ رَسُولِ اللهِ r لَمْ يَنفَعْهُمُ الانتِسَابُ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ, وَلَمْ تَنفَعَهُمْ قَرَابَتُهُمْ وَصِلَتُهُمْ بِالنَّبِيِّ r , بَلْ نَزَلَ القُرآنُ يَتَوَعَّدُ أبَا لَهَبٍ بِأنَّهُ سَيَصْلَى نَارَ جَهَنَّمَ, قَالَ تَعَالَى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ). (المسد 1-3)
4. إِنَّ نَبِيَّ اللهِ نُوحٌ عَلَيهِ السَّلامُ حِينَ نَادَى رَبَّهُ لِينقِذَ وَلَدَهُ مِنْ غَرَقِ الطُّوفَانِ الأعْظَمْ أجَابَهُ اللهُ تَعَالَى أنَّ وَلَدَهُ لَيسَ مِنْ أهْلِهِ, قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ). (هود 45,46)
وَمَا كَادَ هَذَا الطَّالِبُ يُنهِي تِلاوَةَ النُّصُوصِ القُرآنِيَّةِ حَتَّى رَفَعَ طَالِبٌ آخَرُ أُصبَعَهُ يَطلُبُ مِنَ الأُستَاذِ الإِذْنَ بِالكَلامِ, فَقَالَ لَهُ الأُستَاذُ, وَقَدْ بَدَأ لَونُ وَجْهِهِ يَتَغَيَّرُ, وَتَظْهَرُ عَلَيهِ عَلامَاتُ الإِربَاكِ: وَمَاذَا عِندَكَ أنْتَ الآخَرُ؟ قَالَ الطَّالِبُ: إِنَّ القَومِيَّةَ يَا أُستَاذُ تَتَعَارَضُ مَعَ نُصُوصٍ مِنَ السُّنةِ النَّبَوِيَّةِ. قَالَ الأُستَاذُ: وَمَا هِيَ هَذِهِ النُّصُوصُ؟ قَالَ الطَّالِبُ:
- روى البخاري عنْ أبِي هُرَيْرَةَ t أنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله, يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله, يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ عَمَّة رسولِ الله, يَا فاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْترِيا أنْفُسَكُمَا مِنَ الله, لاَ أمْلِكُ لَكُمَا مِنَ الله شَيْئَاً, سَلاَنِي مِنْ مالِي مَا شِئْتُمَا».
- رَوَى أبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ: أَنَّ رَسُولَ الله r قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلَى عَصَبيَّةٍ، ولَيْسَ مِنّا مَنْ قاتَلَ عَصَبيَّةً، ولَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبيَّةٍ».
- عَنْ جَابِرٍ t قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ r فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الْأَنْصَارِ, فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: "يَا لَلْأَنْصَارِ", وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: "يَا لَلْمُهَاجِرِينَ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟». قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». فَسَمِعَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ قَدْ فَعَلُوهَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ قَالَ عُمَرُ: "دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ". فَقَالَ: «دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ». و"كَسَعَ" مَعنَاهُ: "ضَرَبَ دُبُرَهُ وَعَجِيزَتَهُ بِيَدٍ أو رِجْلٍ أو سَيفٍ وَغَيرِهِ".
- رَوَى النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبرَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلا، قَالَ: يَا لَفُلانٍ، وَيَا لَبَنِي فُلانٍ، فَقَالَ لَهُ: اعْضَضْ بِهَنِ أَبِيكَ، وَلَمْ يُكْنِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ مَا كُنْتَ فَحَّاشاً، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقًُولُ: «مَنْ تَعزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلا تَكْنُوا». قَولُهُ: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الجَاهِلِيَّةِ" أيِ: انتَسَبَ وَانتَمَى كَقَولِهِ: يَا لَفُلانٍ، وَيَا لَبَنِي فُلانٍ، يُقَالُ: عَزَوتُ الرَّجُلَ وَعَزَيتُهُ: إِذَا نَسبتُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيءٍ تَنسِبُهُ إِلَى شَيءٍ. وَقِيَلَ لِعَطَاءٍ فِي حَدِيثٍ حَدَّثَهُ إِلَى مَنْ تَعزِيهِ؟ أيْ: إِلَى مَنْ تُسنِدُهُ؟ قَولُهُ: بِهَنِ أبِيهِ، يَعنِي: ذَكَرَهُ. قُلْتُ: يُرِيدُ يَقُولُ لَهُ: اعْضُضْ بِأيرِ أبِيكَ، يُجَاهِرُهُ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفظِ الشَّنِيعِ رَداًّ لِمَا أتَى بِهِ مِنَ الانتِمَاءِ إِلَى قَبِيلَتِهِ، وَالافتِخَارِ بِهِمْ.
وَلَمْ يَكَدِ الطَّالِبُ يُنْهِي سَرْدَ الأحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ حَتَّى رَفَعَ طَالِبٌ آخَرُ أصبَعَهُ طَالِباً الإِذْنَ بِالكَلام, فَقَالَ لَهُ الأُستَاذُ, وَقَدْ أٌسقِطَ فِي يَدِهِ: تَكَلَّمْ أنتَ الآخَرُ: فَقَالَ: إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِرَابِطَةِ القَومِيَّةِ العَرَبِيَّةِ تَتَعَارَضُ مَعَ سِيرَةِ النَّبِيِّ r وَسِيرَةِ أصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ أجْمَعِينَ. إِنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي يَنبَغِي أنْ نَتَمَسَّكَ بِهَا يَا أُستَاذُ هِيَ رَابِطَةُ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ الَّتِي هِيَ أقْوَى الرَّوَابِطِ عَلَى الإِطلاقِ, لأنَّهَا تَربِطُ الإِنسَانَ بِالإِنسَانِ حِينَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ النُّهُوضِ, وَلا تُفَرِّقُ بَينَ عَرَبِيٍّ وَأعْجَمِيٍّ, وَلا بَينَ أبيَضَ وَلا أسْوَدَ إلا بِالتَّقوَى, تِلْكَ الرَّابِطَةُ الَّتِي جَمَعَتْ حَمْزَةَ بْنَ عَبدِ المُطَّلِبِ العَرَبِيَّ الهَاشِمِيَّ القُرَشِيَّ وَبِلالَ الحَبَشِيَّ, وَصُهَيبَ الرُّومِيَّ, وَسَلْمَانَ الفَارِسِيَّ, الَّذِي أخَذَ النَّبِيُّ r بِيَدِهِ وَرَفَعَهَا عَالِياً, وَقَالَ مُفتَخِراً بِهِ: «سَلْمَانَ مِنَّا آلَ البَيتِ». تِلْكَ الرَّابِطَةُ يَا أُستَاذُ هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ أبَا عُبَيدَةَ "عَامِرَ بْنَ الجَرَّاحِ" يَقتُلُ أبَاهُ الكَافِرَ بِنَفسِهِ حِينَ لَقِيَهُ فِي مَعرَكَةِ بَدْرٍ, فَعَلَّمَ النَّاسَ كُلَّ النَّاسِ أنَّ كُلَّ الرِّوَابِطِ تَتَلاشَى وَتَزُولُ أمَامَ رَابِطَةِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ.
وَلَمْ يَكَدِ هَذَا الطَّالِبُ يُنهِي حَدِيثَةُ حَتَّى رَفَعَ طَالِبٌ رَابِعٌ يَدَهُ طَالِباً الإِذْنَ بِالكَلامِ, فَقَالَ لَهُ الأُستَاذُ الَّذِي لَمْ يَدَعِ الطُّلابُ لَهُ مَجَالاً لِلحَدِيثِ عَنِ القَومِيَّةِ: وَمَاذَا عِندَكَ أنتَ الآخَرُ؟ قَالَ الطَّالِبُ: إِنَّ الرَّابِطَةَ القَومِيَّةَ مِنْ نَاحِيَةٍ عَقلِيَّةٍ يَا أُستَاذُ هِيَ رَابِطَةٌ مُنخَفِضَةٌ, فَحِينَ يَكُونُ الفِكْرُ ضَيِّقاً يَا أُستَاذُ تَنْشَأُ بَينَ النَّاسِ رَابِطةٌ قَومِيَّةٌ، وَهِيَ الرَّابِطَةُ العَائليَّةُ وَلَكنْ بِشَكْلٍ أَوْسَعَ، وَذَلِكَ أنَّ الإنسَانَ تَتَأَصَّلُ فِيهِ غَرِيزَةُ البَقَاءِ فَيُوجَدُ عِندَهُ حُبُّ السِّيَادَةِ، وَهِيَ فِي الإِنسَانِ المُنْخَفِضِ فِكْرِيَّاً فَرْدِيَّةٌ، وَإِذَا نَمَا وَعْيُهُ يَتَّسِعُ حُبُّ السِّيَادَةِ لَدَيْهِ، فَيَرَى سِيَادَةَ عَائِلَتِهِ وَأُسْرَتِهِ، ثُمَّ يَتَّسِعُ باتِّسَاعِ الأُفُقِ, وَنُمُوِّ الإِدرَاكِ فَيَرَى سِيَادَةَ قَوْمِهِ فِي وَطَنِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَرَى عِندَ تَحَقُّقِ سِيَادَةِ قَومِهِ فِي وَطَنِهِ سِيَادَتَهُمْ عَلَى غَيرِهِمْ. وَالرَّابِطَةُ القَومِيَّةُ يَا أُستَاذُ فَاسِدَةٌ لِثَلاثَةِ أسبَابٍ:
أوَّلاً: لأنَّهَا رَابِطةٌ قَبَلِيَّةٌ ولا تَصْلُحُ لأنْ تَربُطَ الإِنسَانَ بِالإِنسَانِ لِلسَّيرِ فِي طَرِيقِ النُّهُوضِ.
وَثَانِياً: لأنَّها رَابِطةٌ عَاطِفيَّةٌ تَنشَأُ عَنْ غَرِيزَةِ البَقَاءِ، فَيُوجَدُ مِنْهَا حُبُّ السِّيَادَةِ.
وَثَالِثاً: لأنَّهَا رَابِطَةٌ غَيرُ إِنسَانِيَّةٍ، إذْ تُسَبِّبُ الخُصُومَاتِ بَينَ النَّاسِ عَلَى السِّيَادَةِ، وَلِذَلِكَ لا تَصْلُحُ لأنْ تَكُونَ رَابِطَةً بَينَ بَنِي الإِنسَانِ.
أصَابَتِ الأُستَاذَ دَهْشَةٌ عَظِيمَةٌ وَاستِغْرَابٌ شَدِيدٌ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ كَلامٍ لَمْ يَتَوَقَّعْ سَمَاعَهُ مِنَ الطَّلابِ, وَأخَذَ الأُستَاذُ يَسِيرُ فِي قَاعَةِ الصَّفِّ يَتَجَوَّلُ بَينَ مَقَاعِدِ الطُّلابِ, فَرَأى أمَامَهُم أطَباقَ الوَرَقِ مَكتُوباً عَلَيهَا بَعْضَ الآيَاتِ وَالأحَادِيثِ, فَسَألَهُمْ: مِنْ أينَ أتَيتُم بِهَذِهِ الأفكَارِ؟ فَأجَابَهُ أحَدُهُم: مِنْ أُستَاذِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ!! وَفَجْأةً رَفَعَ الطَّالِبُ النَّجِيبُ أُصبَعَهُ طَالِباً الإِذْنَ بِالكَلامِ, فَأذِنَ لَهُ الأُستَاذُ, فَزَادَ هَذَا الطَّالِبُ كَلاماً مِنْ عِندِهِ لَمْ أقُلْهُ لَهُم, بَلْ تَعَلَّمتُهُ مِنهُم, وَلَيسَ غَرِيباً, وَلا عَجِيباً أنْ يَتَعَلَّمَ الأُستَاذُ شَيئاً مِنْ تَلامِيذِهِ!! قَالَ الطَّالِبُ النَّجِيبُ: نُرِيدُ أنْ نَسألَكَ يَا أُستَاذَنَا سُؤَالاً أخِيراً سَيُكُونُ هُوَ الحَكَمَ الفَصْلَ بَينَنا وَبَينَكَ, وَبَعدَ أنْ تُجِيبَنَا عَنهُ سَنَتَّخِذُ المَوقِفَ الَّذِي نَرَاهُ مُنَاسِباً: إِمَّا أنْ نَقتَنِعَ بِفِكْرَتِكَ فِكْرَةِ القَومِيَّةِ العَرَبِيَّةِ, وَنَأخُذَ بِهَا وَنَدعُو لَهَا, وَإِمَّا أنْ لا نَقْتَنِعَ بِهَا وَنَدَعَهَا لَكَ. فَهَلْ تَسمَحُ لَنَا بِهَذَا السُّؤَالِ الأخِيرِ؟ قَالَ الأُستَاذُ بِعَصَبِيَّةٍ شَدِيدَةٍ: هَاتِ سُؤَالَكَ بِسُرعَةٍ. قَالَ الطَّالِبُ: بِمَا أنَّكَ يَا أُستَاذُ مِنْ حَامِلِي فَكرَةِ القَومِيَّةِ العَرَبِيَّةَ وَمِنَ المُؤَيِّدِينَ وَالدَّاعِينَ وَالمُرَوِّجِينَ لَهَا, فَهَلْ تُخبِرُنَا بِنَاءً عَلَى إِيمَانِكَ وَقَنَاعَتِكَ بِهَذِهِ الفِكْرَةِ, فَمَنْ هُوَ الأفْضَلُ فِي نَظَرِكَ: اليَهُودِيُّ العَرَبِيُّ, أمِ المُسلِمُ البَاكِستَانِيُّ؟ فَأجَابَ الأُستَاذُ بِسُرعَةٍ وَبِلا تَرَدُّدٍ: اليَهُودِيُّ العَرَبِيُّ أفضَلُ مِنَ المُسلِمِ البَاكِستَانِيِّ. قَالَ لَهُ الطَّالِبُ فِي ثِقَةٍ وَجُرأةٍ وَشَجَاعَةٍ: لا حَاجَةَ لَنَا بِقَومِيَّتِكَ يَا أُستَاذُ, لَقَدْ تَرَكنَاهَا لَكَ, فاهنأ بِهَا وَحْدَكَ, أمَّا نَحنُ فَعَندِنَا عَقِيدَةُ الإِسلامِ الَّتِي تُغنِينَا عَنْ كُلِّ العَقَائِدِ, وَلا نَرضَى عَنهَا بَدِيلاً. قَرَعَ جَرَسُ المَدرَسَةِ مُعلِناً انتِهَاءَ الحِصَّةِ الثَّالِثَةِ وَابتِدَاءَ خُرُوجِ الطُّلابِ مِنَ الصُّفُوفِ لِقَضَاءِ فَترَةِ الاستِرَاحَةِ بَينَ الدُّرُوسِ.
خَرَجَ الأُستَاذُ مِنْ غُرفَةِ الصَّفِّ وَقَدْ وَطَّدَ العَزْمَ عَلَى مُقَابَلَتِي وَمُوَاجَهَتِي فَوراً أثنَاءَ فَترَةِ الاستِرَاحَةِ بَينَ الدُّرُوسِ, وَذَلِكَ لِلحَدِيثِ مَعِي حَولَ هَذَا المَوضُوعِ, فَكَيفَ تَمَّتِ المُوَاجَهَةُ؟ وَأينَ؟ وَمَا الَّذِي دَارَ بَينِي وَبَينَ أُستَاذِ مَادَّةِ العُلُومِ مِنْ حِوَارٍ, مَاذَا سَألَنِي وَبِمَاذَا أجَبتُهُ؟ وَكَيفَ كَانَ رَدُّهُ عَلَى إِجَابَتِي؟ وَهَلِ انتَهَى الأمْرُ عِندَ هَذَا الحَدِّ أمْ أنَّ هُنَاكَ تَدَاعِيَاتٌ أُخرَى لِهَذَا الصِّرَاعِ الفِكْرِيِّ؟ وَهَل لأُستَاذِ مَادَّةِ الاجتِمَاعِيَّاتِ صَاحِبِ الفِكْرِ القَومِيِّ دَورٌ فِيهِ, هَذَا مَا سَأُحَدِّثُكُمْ عَنهُ فِي الحَلْقَةِ القَادِمَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ وَكَانَ فِي العُمُرِ بَقِيَّةَ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ عَنِ الصِّرَاعِ مَعَ القَومِيِّينَ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.