- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح39) الرابطة الصحيحة لربط بني الإنسان في الحياة للسير في طريق النهوض
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ التَّاسِعَةِ وَالثلاثينَ, وَعُنوَانُهَا: "الرَّابِطَةُ الصَّحِيحَةُ لِرَبطِ بَنِي الإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ لِلسَّيرِ فِي طَرِيقِ النُّهُوضِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ الرَّابِعَةِ وَالعِشرِينَ وَالخَامِسَةِ وَالعِشرِينَ مِنْ كِتَابِ "نظَامِ الإِسلامِ" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "وَلِذَلِكَ لا تَصلُحُ جَمِيعُ الرَّوَابِطِ السَّابِقَةِ لأنْ تَربِطَ الإِنسَانَ بِالإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ حِينَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ النُّهُوضِ. وَالرَّابِطَةُ الصَّحِيحَةُ لِرَبْطِ بَنِي الإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ هِيَ رَابِطَةُ العَقِيدَةِ العَقلِيَّةِ الَّتِي يَنبَثِقُ عَنْهَا نِظَامٌ. وَهَذِهِ هِيَ الرَّابِطَةُ المَبْدَئِيَّةُ. وَالمَبدَأُ عَقِيدَةٌ عَقلِيَّةٌ يَنبَثِقُ عَنهَا نِظَامٌ. أمَّا العَقِيدَةُ فَهِيَ فِكْرَةٌ كُلِّيَةٌ عَنِ الكَونِ وَالإِنسَانِ وَالحَيَاةِ، وَعَمَّا قَبلَ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَعَمَّا بَعدَهَا، وَعَنْ عَلاقَتِهَا بِمَا قَبلَهَا وَمَا بَعدَهَا. وَأمَّا النِّظَامُ المُنبَثِقُ عَنْ هَذِهِ العَقِيدَةِ فَهُوَ مُعَالَجَاتٌ لِمَشَاكِلِ الإِنسَانِ، وَبَيَانٌ لِكَيفِيَّةِ تَنْفِيذِ المُعَالَجَاتِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى العَقِيدَةِ، وَحَمْلِ المَبدَأِ. فَكَانَ بَيَانُ الكَيفِيَّةِ لِلتَّنفِيذِ وَلِلمُحَافَظَةِ وَلِحَمْلِ الدَّعْوَةِ طَرِيقَةً، وَمَا عَدَا ذَلِكَ وَهُوَ العَقِيدَةُ وَالمُعَالَجَاتُ فِكْرَةً، وَمِنْ هُنَا كَانَ المَبدَأُ فِكْرةً وَطَرِيقَةً. وَالمَبدَأُ لا بُدَّ أنْ يَنشَأَ فِي ذِهْنِ الشَّخْصِ، إِمَّا بِوَحْيِ اللهِ لَهُ بِهِ وَأمْرِهِ بِتَبلِيغِهِ. وَإِمَّا بِعَبقَرِيَّةٍ تُشْرِقُ فِي ذَلِكَ الشَّخْصِ. أمَّا المَبدَأُ الَّذِي يَنشَأُ فِي ذِهْنِ الإِنسَانِ بِوَحْيِ اللهِ لَهُ بِهِ فَهُوَ المَبدَأُ الصَّحِيحُ، لأنَّهُ مِنْ خَالِقِ الكَونِ وَالإِنسَانِ وَالحَيَاةِ، وَهُوَ اللهُ. فَهُوَ مَبدَأٌ قَطعِيٌّ. وَأمَّا المَبدَأُ الَّذِي يَنشَأُ فِي ذِهْنِ شَخْصٍ بِعَبقَريِّةٍ تُشرِقُ فِيهِ فَهُوَ مَبدَأٌ بَاطِلٌ، لأنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ عَقْلٍ مَحدُودٍ يَعْجِزُ عَنِ الإِحَاطَةِ بِالوُجُودِ، وَلأنَّ فَهْمَ الإِنسَانِ لِلتَّنظِيمِ عُرْضَةٌ لِلتَّفَاوُتِ وَالاختِلافِ وَالتَّنَاقُضِ وَالتَّأثُّرِ بِالبِيئَةِ الَّتِي يَعيشُ فيها ممَّا يُنْتِجُ النظامَ المتناقِضَ المؤدِّيَ إِلَى شَقَاءِ الإِنسَانِ. وَلِذَلِكَ كَانَ المَبدَأُ الَّذِي يَنْشَأُ في ذِهْنِ شَخْصٍ بَاطِلاً فِي عَقِيدَتِهِ وَفِي نِظَامِهِ الَّذِي يَنْبَثِقُ عَنْهَا. وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ الأَسَاسُ فِي المَبدَأِ هُوَ الفِكْرَةُ الكُلِّيَةُ عَنِ الكَونِ وَالإِنسَانِ وَالحَيَاةِ، وَكَانَتِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي تَجعَلُ المَبدَأ مَوجُوداً مُنَفَّذاً في مُعْتَرَكِ الحَيَاةِ أمْراً لازِماً لِهَذِهِ الفِكْرَةِ حَتَّى يُوجَدَ المَبدَأُ. أمَّا كَونُ الفِكْرَةِ الكُلِّيَةِ أسَاساً فَإِنِّها هِيَ العَقِيدَةُ، وَهِيَ القَاعِدَةُ الفِكْرِيَّةُ، وَهِيَ القِيَادَةُ الفِكْريَّةُ، وَعَلَى أسَاسِهَا يَتَعَيَّنُ اتِّجَاهُ الإِنسَانِ الفِكْرِيُّ وَوِجْهَةُ نَظَرِهِ فِي الحَيَاةِ، وَعَلَيْها تُبْنَى جَمِيعُ الأفكَارِ، وَعَنْها تَنبَثِقُ جَمِيعُ مُعَالَجَاتِ مَشَاكِلِ الْحَيَاةِ، وَأمَّا كَونُ الطَّرِيقَةِ أمْراً لازِماً، فَإِنَّ النِّظَامَ الَّذِي يَنبَثِقُ عَنِ العَقِيدَةِ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ بَيَانَ كَيفِيَّةِ التَّنفِيذِ لِلمُعَالَجَاتِ، وَبَيَانَ كَيفِيَّةِ المُحَافَظَةِ عَلَى العَقِيدَةِ، وَبَيَانَ كَيفِيَّةِ حَمْلِ الدَّعوَةِ لِلمَبدَأِ، كَانَتِ الفِكْرَةُ فَلْسَفَةً خَيَالِيَّةً فَرْضِيَّةً تَبْقَى فِي بُطُونِ الكُتُبِ مُسَجَّلَةً دُونَ أنْ يَكُونَ لَهَا أثَرٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا. وَلِذَلِكَ كَانَ لا بُدَّ مِنَ العَقِيدَةِ، وَلا بُدَّ مِنْ مُعَالَجَاتِ المَشَاكِلِ، وَلا بُدَّ مِنَ الطَّرِيقَةِ، حَتَّى يَكُونَ المَبدَأُ. عَلَى أنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِ الفِكْرَةِ وَالطَّرِيقَةِ فِي العَقِيدَةِ الَّتِي يَنبَثِقُ عَنْهَا نِظَامٌ لا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْمَبدَأَ صَحِيحٌ، بَلْ يَدُلُّ فَقَطْ عَلَى أنَّ هَذَا يَكُونُ مَبدَأً، وَلا يَدُلُّ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَبدَأِ أوْ بُطْلانِهِ هُوَ عَقِيدَةُ الْمَبدَأِ مِنْ حَيثُ كَونُهَا صَحِيحَةً أوْ بَاطِلَةً، لأنَّ هَذِهِ العَقِيدَةَ هِيَ القَاعِدَةُ الفِكْرِيَّةُ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كُلُّ فِكْرٍٍ، وَالَّتِي تُعَيِّنُ كُلَّ وُجْهَةِ نَظَرٍ، وَالَّتِي تَنبَثِقُ عَنهَا كُلُّ مُعَالَجَةٍ، وَكُلُّ طَرِيقَةٍ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ القَاعِدَةُ الفِكْرِيَّةُ صَحِيحَةً كَانَ الْمَبدَأُ صَحِيحاً، وَإِذَا كَانَتْ بَاطِلَةً كَانَ الْمَبدَأُ بَاطِلاً مِنْ أسَاسِهِ. وَالقَاعِدَةُ الفِكْرِيَّةُ إِذَا اتَّفَقَتْ مَعَ فِطْرَةِ الإنسَانِ، وَكَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى العَقْلِ، فَهِيَ قَاعِدَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِذَا خَالَفَتْ فِطْرَةَ الإِنسَانِ، أوْ لمْ تَكُنْ مَبنِيَّةً عَلَى العَقْلِ، فَهِيَ قَاعِدَةٌ بَاطِلَةٌ. وَمَعنَى اتِّفَاقِ القَاعِدَةِ الفِكْرِيَّةِ مَعَ فِطْرَةِ الإِنسَانِ كَونُهَا تُقَرِّرُ مَا فِي فِطْرَةِ الإِنسَانِ مِنْ عَجْزٍ وَاحتِيَاجٍ إِلَى الخَالِقِ الْمُدَبِّرِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخرَى، تُوَافِقُ غَرِيزَةَ التَّدَيُّنِ. وَمَعنَى كَونِهَا مَبنيَّةً عَلَى العَقْلِ أنْ لا تَكُونَ مَبنيَّةً عَلَى المَادَّةِ، أوْ عَلَى الْحَلِّ الوَسَطِ".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: خَرَجَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ مِنْ دِرَاسَتِهِ لِلرَّوَابِطِ الَّتِي تَربِطُ الإِنسَانَ بِالإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ حِينَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ النُّهُوضِ بِنَتِيجَةٍ مَفَادُهَا وَمُؤَدَّاهَا أنَّ جَمِيعَ الرَّوَابِطِ السَّابِقَةِ لا تَصلُحُ لأنْ تَربِطَ الإِنسَانَ بِالإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ حِينَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ النُّهُوضِ. وَقَالَ: إِنَّ الرَّابِطَةَ الصَّحِيحَةَ لِرَبْطِ بَنِي الإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ هِيَ رَابِطَةُ العَقِيدَةِ العَقلِيَّةِ الَّتِي يَنبَثِقُ عَنْهَا نِظَامٌ. وَهَذِهِ هِيَ الرَّابِطَةُ المَبْدَئِيَّةُ. وَالمَبدَأُ عَقِيدَةٌ عَقلِيَّةٌ يَنبَثِقُ عَنهَا نِظَامٌ. أمَّا العَقِيدَةُ فَهِيَ فِكْرَةٌ كُلِّيَةٌ عَنِ الكَونِ وَالإِنسَانِ وَالحَيَاةِ، وَعَمَّا قَبلَ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَعَمَّا بَعدَهَا، وَعَنْ عَلاقَتِهَا بِمَا قَبلَهَا وَمَا بَعدَهَا. وَأمَّا النِّظَامُ المُنبَثِقُ عَنْ هَذِهِ العَقِيدَةِ فَهُوَ مُعَالَجَاتٌ لِمَشَاكِلِ الإِنسَانِ، وَبَيَانٌ لِكَيفِيَّةِ تَنْفِيذِ المُعَالَجَاتِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى العَقِيدَةِ، وَحَمْلِ المَبدَأِ. فَكَانَ بَيَانُ الكَيفِيَّةِ لِلتَّنفِيذِ وَلِلمُحَافَظَةِ وَلِحَمْلِ الدَّعْوَةِ طَرِيقَةً، وَمَا عَدَا ذَلِكَ وَهُوَ العَقِيدَةُ وَالمُعَالَجَاتُ فِكْرَةً. وَمِنْ هُنَا كَانَ المَبدَأُ فِكْرةً وَطَرِيقَةً.
وَهُنَا لا بُدَّ لَنَا مِنْ وَقْفَةٍ نُؤَكِّدُ فِيهَا عَلَى وُجُوبِ أخْذِ العَقِيدَةِ مَعَ النِّظَامِ المُنبَثِقِ عَنهَا, فَلا يَجُوزُ أخْذُ العَقِيدَةِ مِنْ مَبدَأ الإسلامِ, وَأخْذُ النِّظَامِ مِنْ مَبدَأ آخَرَ غَيرِ الإِسلامِ, وَكَذَلِكَ الحَالُ مَعَ الفِكرَةِ وَالطَّرِيقَةِ, فَإِنَّنَا نُؤَكِّدُ عَلَى وُجُوبِ أخْذِ الفِكرَةِ مَعَ الطَّرِيقَةِ مِنَ المَبدَأ نَفسِهِ, فَلا يَجُوزُ أخْذُ الفِكرَةِ مِنْ مَبدَأ, وَالطَّرَيقَةِ مِنْ مَبدَأ آخَرَ, وَلا يَجُوزُ فِي تَطبِيقِ الفِكرَةِ الإِسلامِيَّةِ إِلا الطَّرِيقَةُ الإِسلامِيَّةُ, فَمثلاً لا يَجُوزُ العَمَلُ عَلَى الوُصُولِ إِلَى الحُكْمِ عَنْ طَرِيقِ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ مِنْ أجْلِ تَطبِيقِ فِكْرَةِ الحُكْمِ بِمَا أنزَلَ اللهُ.
يُحَدِّثُنَا الشَّيخُ - رَحِمَهُ اللهُ - عَنْ كَيفِيَّةِ نُشُوءِ المبدَأ فَيَقُولُ: وَالمَبدَأُ لا بُدَّ أنْ يَنشَأَ فِي ذِهْنِ الشَّخْصِ، إِمَّا بِوَحْيِ اللهِ لَهُ بِهِ وَأمْرِهِ بِتَبلِيغِهِ. وَإِمَّا بِعَبقَرِيَّةٍ تُشْرِقُ فِي ذَلِكَ الشَّخْصِ. أمَّا المَبدَأُ الَّذِي يَنشَأُ فِي ذِهْنِ الإِنسَانِ بِوَحْيِ اللهِ لَهُ بِهِ فَهُوَ المَبدَأُ الصَّحِيحُ، لأنَّهُ مِنْ خَالِقِ الكَونِ وَالإِنسَانِ وَالحَيَاةِ، وَهُوَ اللهُ. فَهُوَ مَبدَأٌ قَطعِيٌّ. وَكَأنِّي بِالشَّيخِ يَستَحضِرُ قَولَ اللهِ تَعَالَى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). (النساء 82) وَيَستَحضِرُ قَولَ اللهِ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (فصلت 42)
وَيُقَارِنُ الشَّيخُ بَينَ المَبدَأ الآتِي عَنْ طَرِيقِ الوَحْيِ وَالمَبدَأ الَّذِي يَنقَدِحُ فِي ذِهْنِ الشَّخْصِ فَيَقُولُ: أمَّا المَبدَأُ الَّذِي يَنشَأُ فِي ذِهْنِ شَخْصٍ بِعَبقَريِّةٍ تُشرِقُ فِيهِ فَهُوَ مَبدَأٌ بَاطِلٌ، لأنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ عَقْلٍ مَحدُودٍ يَعْجِزُ عَنِ الإِحَاطَةِ بِالوُجُودِ، وَلأنَّ فَهْمَ الإِنسَانِ لِلتَّنظِيمِ عُرْضَةٌ لِلتَّفَاوُتِ وَالاختِلافِ وَالتَّنَاقُضِ وَالتَّأثُّرِ بِالبِيئَةِ الَّتِي يَعيشُ فيها ممَّا يُنْتِجُ النظامَ المتناقِضَ المؤدِّيَ إِلَى شَقَاءِ الإِنسَانِ. وَلِذَلِكَ كَانَ المَبدَأُ الَّذِي يَنْشَأُ في ذِهْنِ شَخْصٍ بَاطِلاً فِي عَقِيدَتِهِ وَفِي نِظَامِهِ الَّذِي يَنْبَثِقُ عَنْهَا.
يُحَدِّثُنَا الشَّيخُ عَنْ ضَرُورَةِ وُجُودِ العَقِيدَةِ وَالنِّظَامِ, وَالفِكرَةِ وَالطَّرِيقَةِ, حَتَّى يُوجَدَ المَبدَأُ في مُعتَرَكِ الحَيَاةِ فَيَقُولُ: وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ الأَسَاسُ فِي المَبدَأِ هُوَ الفِكْرَةُ الكُلِّيَةُ عَنِ الكَونِ وَالإِنسَانِ وَالحَيَاةِ، وَكَانَتِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي تَجعَلُ المَبدَأ مَوجُوداً مُنَفَّذاً في مُعْتَرَكِ الحَيَاةِ أمْراً لازِماً لِهَذِهِ الفِكْرَةِ حَتَّى يُوجَدَ المَبدَأُ. أمَّا كَونُ الفِكْرَةِ الكُلِّيَةِ أسَاساً فَإِنِّها هِيَ العَقِيدَةُ، وَهِيَ القَاعِدَةُ الفِكْرِيَّةُ، وَهِيَ القِيَادَةُ الفِكْريَّةُ، وَعَلَى أسَاسِهَا يَتَعَيَّنُ اتِّجَاهُ الإِنسَانِ الفِكْرِيُّ وَوِجْهَةُ نَظَرِهِ فِي الحَيَاةِ، وَعَلَيْها تُبْنَى جَمِيعُ الأفكَارِ، وَعَنْها تَنبَثِقُ جَمِيعُ مُعَالَجَاتِ مَشَاكِلِ الْحَيَاةِ، وَأمَّا كَونُ الطَّرِيقَةِ أمْراً لازِماً، فَإِنَّ النِّظَامَ الَّذِي يَنبَثِقُ عَنِ العَقِيدَةِ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ بَيَانَ كَيفِيَّةِ التَّنفِيذِ لِلمُعَالَجَاتِ، وَبَيَانَ كَيفِيَّةِ المُحَافَظَةِ عَلَى العَقِيدَةِ، وَبَيَانَ كَيفِيَّةِ حَمْلِ الدَّعوَةِ لِلمَبدَأِ، كَانَتِ الفِكْرَةُ فَلْسَفَةً خَيَالِيَّةً فَرْضِيَّةً تَبْقَى فِي بُطُونِ الكُتُبِ مُسَجَّلَةً دُونَ أنْ يَكُونَ لَهَا أثَرٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا. وَلِذَلِكَ كَانَ لا بُدَّ مِنَ العَقِيدَةِ، وَلا بُدَّ مِنْ مُعَالَجَاتِ المَشَاكِلِ، وَلا بُدَّ مِنَ الطَّرِيقَةِ، حَتَّى يَكُونَ المَبدَأُ.
وَأخِيراً يُحَدثُنا الشَّيخُ عَنِ دَلائِلِ وَصِفَاتِ كُلٍّ مِنَ المبَدَأين الصَّحِيحِ وَالبَاطِلِ, فَيَقُولُ: عَلَى أنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِ الفِكْرَةِ وَالطَّرِيقَةِ فِي العَقِيدَةِ الَّتِي يَنبَثِقُ عَنْهَا نِظَامٌ لا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْمَبدَأَ صَحِيحٌ، بَلْ يَدُلُّ فَقَطْ عَلَى أنَّ هَذَا يَكُونُ مَبدَأً، وَلا يَدُلُّ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَبدَأِ أوْ بُطْلانِهِ هُوَ عَقِيدَةُ الْمَبدَأِ مِنْ حَيثُ كَونُهَا صَحِيحَةً أوْ بَاطِلَةً، لأنَّ هَذِهِ العَقِيدَةَ هِيَ القَاعِدَةُ الفِكْرِيَّةُ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كُلُّ فِكْرٍ، وَالَّتِي تُعَيِّنُ كُلَّ وُجْهَةِ نَظَرٍ، وَالَّتِي تَنبَثِقُ عَنهَا كُلُّ مُعَالَجَةٍ، وَكُلُّ طَرِيقَةٍ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ القَاعِدَةُ الفِكْرِيَّةُ صَحِيحَةً كَانَ الْمَبدَأُ صَحِيحًا، وَإِذَا كَانَتْ بَاطِلَةً كَانَ الْمَبدَأُ بَاطِلاً مِنْ أسَاسِهِ. وَالقَاعِدَةُ الفِكْرِيَّةُ إِذَا اتَّفَقَتْ مَعَ فِطْرَةِ الإنسَانِ، وَكَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى العَقْلِ، فَهِيَ قَاعِدَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِذَا خَالَفَتْ فِطْرَةَ الإِنسَانِ، أوْ لمْ تَكُنْ مَبنِيَّةً عَلَى العَقْلِ، فَهِيَ قَاعِدَةٌ بَاطِلَةٌ. وَمَعنَى اتِّفَاقِ القَاعِدَةِ الفِكْرِيَّةِ مَعَ فِطْرَةِ الإِنسَانِ كَونُهَا تُقَرِّرُ مَا فِي فِطْرَةِ الإِنسَانِ مِنْ عَجْزٍ وَاحتِيَاجٍ إِلَى الخَالِقِ الْمُدَبِّرِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخرَى، تُوَافِقُ غَرِيزَةَ التَّدَيُّنِ. وَمَعنَى كَونِهَا مَبنيَّةً عَلَى العَقْلِ أنْ لا تَكُونَ مَبنيَّةً عَلَى المَادَّةِ، أوْ عَلَى الْحَلِّ الوَسَطِ".
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.