- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح75) كتاب "الإسلام والحضارة الغربية" (ج2)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الخَامِسَةِ وَالسَّبعِينَ, وَعُنوَانُهَا: "كِتَابُ: "الإِسلامُ وَالحَضَارَةُ الغَربِيَّةُ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتين: الرَّابِعَةِ وَالسِّتِينَ, وَالخَامِسَةِ وَالستينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "أمَّا الحَضَارَةُ الإِسْلامِيَّةُ فإِنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَسَاسٍ هُوَ النَقِيضُ مِنْ أَسَاسِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، وتَصْوِيرُهَا للحَيَاةِ غَيْرُ تَصْوِيرِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ لَهَا، ومَفْهُوَمُ السَعَادَةِ فِيهِا يَخْتَلِفُ عَنْ مَفْهُوَمِهَا في الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ كُلَّ الاخْتِلافِ".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: فِي هَذِهِ الحَلْقَةِ نُتَابِعُ مَعَكُمْ حَدِيثَنَا الَّذِي كُنَّا قَدْ بَدَأنَاه عَمَّا كَتَبَهُ الدُّكتُور مُحَمَّد مُحَمَّد حُسَين فِي كِتَابِهِ "الإِسلامُ وَالحَضَارَةُ الغَربِيَّةُ" فَهُوَ - رَحِمَهُ اللهُ - مِنْ أسَاتِذَةِ الجَامِعَاتِ المُتَأثِّرِينَ بِفِكْرِ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَوضُوعُ "الحَضَارَةِ وَالمَدَنِيَّةِ", يَقُولُ فِي الصَّفحَةِ الرَّابِعَةِ وَالخَمسِينَ: " ... وَبَرَامِجُ التَّغرِيبِ تُحَاوِلُ أنْ تَخْدُمَ هَدَفاً مُزدَوَجاً, فَهِيَ تَحرُسُ مَصَالِحَ الاستِعمَارِ, بِتَقرِيبِ الهُوَّةِ الَّتِي تَفصِلُ بَينَهُ وَبَينَ المُسلِمِينَ, نَتِيجَةً لاختِلافِ القِيَمِ, وَنَتِيجَةً لِلمَرَارَةِ الَّتِي يُحِسُّهَا المُسْلِمُ إِزَّاءَ المُحتَلِّينَ لِبِلادِهِ, مِمَّنْ يِفْرِضُ عَلَيهِ دِينُهُ جِهَادَهُمْ. وَهِيَ فِي الوَقْتِ نَفسِهِ تُضعِفُ الرَّابِطَةَ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ المُسلِمِينَ, وَتُفَرِّقُ جَمَاعَتَهُمْ الَّتِي كَانَتْ تَلتَقِي عَلَى وَحْدَةِ القِيَمِ الفِكرِيَّةِ والثقافية أو بِتَعبِيرٍ أشْمَلَ: وِحْدَةِ القِيَمِ الحَضَارِيَّةِ, فَيَستَطِيعُ الاستِعمَارُ أنْ يَنفَرِدَ فِي كُلِّ بَلَدٍ عَلَى حِدَة, وَأنْ يَتَفَرَّغَ لِمُوَاجَهَةِ مَا عَسَاهُ يَنشَأُ مِنْ ثَورَاتٍ, وَظَهْرُهُ آمِنٌ مِنْ ثَورَاتِ المَنَاطِقِ الإِسلامِيَّةِ الأُخرَى فِي مُستَعمَرَاتِهِ, الَّتِي قَد تَهُبُّ لِمُسَانَدَتِهَا.
وَقَد لاحَظَ كُرومَر وُجُودَ هَذَا الخِلافَ الشَّدِيدَ بَينَ المُسلِمِينَ وَبَينَ المُستَعمِرِ الغَربِيِّ فِي العَقَائِدِ وَفِي القِيَمِ وَفِي العَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ, وَفِي اللُّغَةِ ... لاحَظَ كُرومَر أنَّ هَذِهِ الخِلافَاتِ هِيَ السَّبَبُ فِي انعِدَامِ ثِقَةِ المُسلِمِ بِالمُستَعمِرِ الغَربِيِّ, وَسُوءِ ظَنِّهِ بِهِ, وَهِيَ السَّبَبُ فِي هُوَّةٍ وَاسِعَةٍ تَفصِلُ بَينَهُمَا, وَتَجعَلُ مُهِمَّةَ المُستَعمِرِ مَحفُوفَةً بِالمَتَاعِبِ, وَدَعَا مِنْ أجْلِ ذَلِكَ إِلَى العَمَلِ بِمُختَلِفِ الوَسَائِلِ عَلَى بِنَاءِ قَنطَرَةٍ فَوقَ هَذِهِ الهُوَّةِ, وَقَدِ اتَّخَذَتْ هَذِهِ الوَسَائِلِ طَرِيقَينِ:
أحَدُهُمَا هُوَ تَربِيَةُ جِيلٍ مِنَ المِصرِيِّينَ العَصرِيِّينَ الَّذِينَ يُنَشَّؤُونَ تَنشِئَةً تُقَرِّبُهُمْ مِنَ الأُورُوبِيِّينَ وَمِنَ الإنجلِيزِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ فِي طَرِيقِ السُّلُوكِ وَالتَّفكِيرِ؛ لِذَلِكَ أنشَأ كرُومَر "كُلِّيةَ فِكتُوريَا" الَّتِي قَصَدَ بِهَا تَربِيَةِ جِيلٍ مِنْ أبنَاءِ الحُكَّامِ وَالزُّعَمَاءِ وَالوُجَهَاءِ فِي مُحِيطٍ انجلِيزِيٍّ لِيَكُونُوا مِنْ بَعدُ هُمْ أدَوَاتِ المُستَعمِرِ الغَربِيِّ فِي إِدَارَةِ شُؤُونِ المُسلِمِينَ, وَلِيَكُونُوا فِي الوَقْتِ نَفسِهِ أدَوَاتِهِ فِي التَّقرِيبِ بَينَ المُسلِمِينَ, وَبَينَ المُستَعْمِرِ الأُورُوبِيِّ, وَفِي نَشرِ الحَضَارَةِ الغَربِيَّةِ. كَانَ الاستِعمَارُ الغَربِيُّ يَنتَظِرُ الوَقْتَ الَّذِي يَستَطِيعُ أنْ يَستَغنِيَ فِيهِ عَنِ الجَيشِ؛ لِيَعتَمِدَ فِي حِرَاسَةِ مَصَالِحِهِ عَلَى الصَّدَاقَةِ الَّتِي هِيَ المَقصُودُ بِكُلِّ مَشَارِيعِهِ فِي نَشرِ الحَضَارَةِ الأُورُوبِيَّةِ.
أمَّا الوَسِيلَةُ الأُخرَى الَّتِي اتَّخَذَهَا الاستِعْمَارُ لإِيجَادِ هَذَا التَّفَاهُمَ المَوجُودَ, وَعَمِلَ عَلَى تَنفِيذِهَا, فَهِيَ أبَطأُ ثِمَاراً مِنَ الوَسِيلَةِ الأُولَى, وَلَكِنَّهَا أبقَى آثَاراً, وَهِيَ تَتَلَخَّصُ فِي تَطوِيرِ الإِسلامِ نَفسِهِ, وَإِعَادَةِ تَفسِيرِهِ بِحَيثُ يَبدُو مُتَّفِقاً مَعَ الحَضَارَةِ الغَربِيَّةِ أو قَرِيباً مِنهَا, وَغَيرَ مُتَعَارِضٍ مَعَهَا عَلَى الأقَلِّ, بَدَلَ أنْ يَبدُو عَدُوّاً لَهَا, أو مُعَارِضاً لِقِيَمِهَا وَأسَالِيبِهَا. بِذَلِكَ وُجِدَ عَامِلٌ جَدِيدٌ مِنْ صِلاتِ الإِسلامِ بِالحَضَارَةِ الغَربِيَّةِ هُوَ تَدَخُّلُ الغَربِ نَفسِهِ فِي تَوجِيهِ هَذِهِ الصِّلاتِ, وَالتَّخطِيطِ لأَسَالِيبِهَا وَوَسَائِلِهَا. ظَلَّتْ هَذِهِ الصِّلاتُ تَستَأنِفُ سَيرَهَا فِي طَرِيقِهَا القَدِيمِ, تَتَأثَّرُ بِالعَامِلِ الجَدِيدِ فَتَقتَرِبُ مِنهُ أو تَلتَقِي بِهِ فِي بَعضِ الأحيَانِ, وَتَنفِرُ مِنهُ, وَتُدرِكُ خُطُورَتَهُ, فَتُعَارِضُهُ وَتُهَاجِمُهُ فِي أحَيَانٍ أُخْرَى.
إِلَى جَانِبِ هَذَينِ المَنهَجَينِ وُجِدَ مَنهَجٌ ثَالِثٌ فِي بِلادِ العَرَبِ بِخَاصَّةٍ, لَمْ يَعْمَلْ عَمَلاً مُبَاشَراً فِي صِلاتِ الإِسلامِ بِالحَضَارَةِ الغَربِيَّةِ, وَلَكِنَّهُ تَرَكَ أثراً غَيرَ مُبَاشَرٍ فِي تَوجِيهِهَا, وَهَذَا المَنهَجُ الثَّالِثُ وَالعُنصُرُ الجَدِيدُ مُمَثَّلٌ فِي نَصَارَى العَرَبِ, وَنَصَارَى الشَّامِ مِنهُمْ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ, كَانَ هَؤُلاءِ النَّصَارَى مِنَ الشَّآمِيِّينَ كَمَا كَانُوا يُسَمَّوْنَ. أو مِنَ السُّورِيِّينَ وَاللُّبنَانِيِّينَ وَالفِلِسطِينِيِّينَ وَالأُردُنِيِّينَ كَمَا نُسَمِّيهِمُ الآنَ لا يُشَارِكُونَ المُسلِمِينَ فِي الإِحسَاسِ بِالوَلاءِ القَلْبِيِّ الخَالِصِ لِلحُكْمِ الإِسلامِيِّ القَائِمِ الَّذِي تُمَثِّلُهُ الدَّولَةُ العُثمَانِيَّةُ, وَهُوَ أمْرٌ طَبِيعِيٌّ فِي أصْلِ وُجُودِهِ لا يَدعُو إِلَى الغَرَابَةِ, لا سِيَّمَا إِذَا أضَفْنَا إِلَيهِ فَسَادَ الدَّولَةِ فِي آخِرِ أيَّامِهَا, وَهُوَ فَسَادٌ كَانَ يَشكُو مِنهُ المُسلِمُونَ وَالمَسِيحِيُّونَ, وَالعَرَبُ وَالتُّركُ عَلَى السَّوَاءِ. مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَانَتْ آمَالُ هَذَا الفَرِيقُ مِنْ نَصَارَى العَرَبِ تَتَعَلَّقُ بِالعَلْمَانِيَّةِ الغَربِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى الفَصْلِ بَينَ الدِّينِ وَالدَّولَةِ, وَالَّتِي لا يَتَحَكَّمُ فِيهَا الإِسلامُ فِي التَّنظِيمِ السِّيَاسِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ, وَالَّتِي يَزُولُ مَعَهَا إِحسَاسُ المُسلِمِينَ بِالاعتِزَازِ, وَإِحسَاسُ النَّصَارَى بِالذِّلةِ وَالانِكسَارِ الَّذِي يُخَالِطُ مَشَاعِرَ الأقِلِّيَّاتِ فِي أكْثَرِ الأحيَانِ.
هَذِهِ تَيَّارَاتٌ ثَلاثَةٌ كَانَتْ تَجرِي فِي أرْضِ المُسلِمِينَ وَالعَرَبِ. فَلْنُحَاوِلْ تَتَبُّعَهَا فِي إِيجِازٍ وَاحِداً تِلْوَ الآخَرِ. وَقَبْلَ أنْ أبدَأ الحَدِيثَ عَنهَا أُحِبُّ أنْ أُلفِتَ النَّظَرَ إِلَى أمرَينِ يَجِبُ أنْ يَضَعَهُمَا البَاحِثُ فِي هَذَا المَوضُوعِ نُصْبَ عَينَيهِ؛ لِكَي يَأمَنَ الزَّلَلَ, وَلِكَي لا يَضِلَّ الطَّرِيقَ, وَلِكَي لا يُخدَعَ عَنْ حَقَائِقِ الأُمُورِ: أحَدُ هَذَينِ الأمرَينِ هُوَ حَاجَتُنَا الشَّدِيدَةُ إِلَى إِعَادَةِ النَّظَرِ فِي تَقوِيمِ الرِّجَالِ؛ لأنَّ كَثِيراً مِمَّنْ نَعتَبِرُهُمْ دَعَائِمَ النَّهضَةِ الحَدِيثَةِ لَمْ يُصبِحُوا كَذَلِكَ فِي أوْهَامِ النَّاسِ إِلَّا بِسَبَبِ الدِّعَايَاتِ المُغرِضَةِ الَّتِي أرَادَتْ أنْ تَضَعَهُمْ فِي هَذِهِ المنْزِلَةِ؛ لِتُحَقِّقَ بِذَلِكَ أغرَاضَهَا فِي نَشْرِ مَبَادِئِهِمْ وَالتَّمكِينِ لآرَائِهِمْ, وَلأنَّ كَثِيراً مِنْ الآرَاءِ المُنحَرِفَةِ الََّتِي لَمْ تَكُنْ تَستَطِيعُ أنْ تَجِدَ طَرِيقَهَا إِلَى الفِكْرِ الإِسلامِيِّ, وَإِلَى مُجتَمَعَاتِهِ, قَدْ أصْبَحَ قَبُولُهَا مُمكِناً بِنِسبَتِهَا إِلَى هَذِهِ الزَّعَامَاتِ وَإِلَى هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ لا يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّاسِ شَكٌّ فِي إِسلامِهِمْ وَعِلْمِهِمْ, وَالوَاقِعُ أنَّ كَثِيراً مِنْ هَؤُلاءِ الرِّجَالِ قَد أُحِيطُوا بِالأسبَابِ الَّتِي تَبنِي لَهُمْ مَجْداً وَذِكْراً بَينَ النَّاسِ, وَلَمْ يَكُنِ الغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ خِدْمَتُهُمْ, وَلَكِنَّ الغَرَضَ مِنهُ كَانَ وَلا يَزَالُ هُوَ خِدمَةُ المَذَاهِبِ وَالآرَاءِ الَّتِي نَادَوْا بِهَا, وَالَّتِي وَافَقَتْ أهْدَافَ الاستِعمَارِ, وَمَصَالِحَهُ, فَقَد أصْبَحَ تَروِيجُ أيَّ مَذْهَبٍ فَاسِدٍ فِي تَأوِيلِ الإِسلامِ كَمَا لاحَظَ "جِبٌ" فِي كِتَابِهِ: (Modern Trends in Islam) أنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُوَافِقُ رَأيَ فُلانٍ أو فُلانٍ مِنْ هَؤُلاءِ الأعَلامِ. وَيَكفِي فِي التَّشهِيرِ بِأيِّ رَأيٍ سَلِيمٍ أنْ يُنسَبَ إِلَى ضِيقِ الأُفُقِ الَّذِي لا يُلائِمُ مَا اتَّصَفَ بِهِ هَذَا أو ذَاكَ مِنْ سَعَةِ الأُفُقِ وَالسَّمَاحَةِ, وَصِحَّةِ الفَهْمِ لِرُوحِ الإِسلامِ عَلَى مَا تَزْعُمُهُ الدِّعَايَاتُ, وَلَيسَ مُهِمّاً أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حُسْنِ قَصْدٍ مِنهُمْ, أوْ عَنْ سُوءِ قَصْدٍ, وَلَيسَ مُهِمّاً أنْ يَكُونَ الاستِعْمَارُ هُوَ الَّذِي استَخدَمَهُمْ لِذَلِكَ, وَوَضَعَ عَلَى ألسِنَتِهِمْ وَأقلامِهِمْ هَذِهِ المَذَاهِبَ وَالآرَاءَ, أوْ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآرَاءُ قَدْ نَشَأتْ بَعِيدَةً عَنْ حَضَانَتِهِ وَرِعَايَتِهِ, ثُمَّ رَآهَا نَافِعَةً لَهُ, فَاستَغَلَّهَا, وَعَمِلَ عَلَى تَروِيجِهَا. المُهِمُّ فِي الأمْرِ هُوَ أنَّ المَجْدَ الَّذِي يُنسَبُ لِهَؤُلاءِ الأفرَادِ لَيسَ مِنْ صُنعِهِمْ, وَلا هُوَ مِنْ صُنعِ الشُّعُوبِ الَّتِي عَاشُوا فِيهَا, وَلَكِنَّهُ مِنْ صُنْعِ القُوَى الَّتِي استَخدَمَتْهُمْ, أوْ تُرِيدُ أنْ تَستَغِلَّهُمْ, سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِه القُوَى هِيَ الاستِعْمَارُ أوِ الصُّهيُونِيَّةُ العَالَمِيَّةُ بِمُختَلِفِ وَسَائِلِهَا وَأجهِزَتِهَا.
وَخُطَّةُ الاستِعمَارِ وَالصُّهيُونِيَّةُ العَالَمِيَّةُ فِي ذَلِكَ, كَانَتْ تَقُومُ - وَلا تَزَالُ - عَلَى السَّيطَرَةِ عَلَى أجْهِزَةِ النَّشْرِ الَّتِي نُسَمِّيهَا الآنَ (الإِعلامَ). وَإِلقَاءُ الأضْوَاءِ مِنْ طَرِيقِهَا عَلَى كُتَّابٍ وَمُفَكِّرِينَ مِنْ نَوعٍ خَاصٍّ, يُبنَوْنَ وَيُنَشَّؤُونَ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي يُبنَى بِهَا نُجُومُ التَّمثِيلِ وَالرَّقْصِ وَالغِنَاءِ, بِالمُدَاوَمَةِ عَلَى الإِعلانِ عَنهُمْ, وَالإِشَادَةِ بِهِمْ, وَإِسبَاغِ الألْقَابِ عَلَيهِمْ, وَنَشْرِ أخبَارِهِمْ وَصُوَرِهِمْ. وَذَلِكَ فِي الوَقْتِ الَّذِي يُهْمَلُ فِيهِ الكُتَّابُ وَالمُفَكِّرُونَ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ وُجْهَاتِ النَّظَرِ المُعَارِضَةِ, أوْ تُشَوَّهُ آرَاؤُهُمْ وَتُسَفَّهُ, وَيُشَهَّرُ بِهِمْ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.