- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
الميزان
ميزان الفكر والنفس والسلوك
الحلقة الخامسة والثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
رابعاً: تصوير الحياة الدنيا
إن النظرة إلى الحياة الدنيا يترتب عليها تحديد موقف الإنسان منها ومما فيها، ويترتب عليها تحديد سلوكه تجاهها وتجاه كل شيء فيها، والنظرة إلى الحياة الدنيا تحدد للإنسان نمط العيش فيها، وتحدد له المثل الأعلى والغاية التي يعيش من أجلها، والنظرة إلى الحياة الدنيا من أهم الأشياء التي اهتمت بها العقائد والأديان والمبادئ.
وعليه فلا بد من ميزان دقيق صحيح للنظرة إلى الحياة الدنيا، وهي من المفاهيم التي انبثقت عن العقيدة الإسلامية، التي هي الحل الصحيح للعقدة الكبرى عند الإنسان، ويتمثّل هذا الميزان في عدة نقاط:
1- هذه الحياة الدنيا وما فيها من كون وإنسان وحياة مخلوقة لخالق، خلقها من العدم، قال الله سبحانه وتعالى: *(وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق)* الأنعام/73.
وقال سبحانه: *(الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام)* السجدة/4.
2- أن هذه الحياة الدنيا وما فيها من كون وإنسان وحياة هي لله سبحانه، قال سبحانه وتعالى: *(له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى)* طه/6، وقال سبحانه وتعالى: *(الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)* البقرة/156.
3- أن الإنسان -العاقل المحسوس في الأرض- مخلوق لعبادة الله تعالى: *(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)* الذاريات، وأن هذا الإنسان مستخلف في الأرض قال سبحانه: *(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)* البقرة، وقال سبحانه: *(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره)* فاطر/39، وقال سبحانه: *(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم)* الأنعام/165.
4- أن الكون وما فيه مسخر للإنسان لينتفع منه بحسب أوامر الله تعالى ونواهيه، قال سبحانه: *(وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)* الجاثية/63، *(وسخر لكم ما في السموات والأرض)*، *(وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار)*، *(وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها)*، *(ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره)* الحج/65، *(ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنة)* لقمان/20، وأخبر سبحانه وتعالى عن الأرض أنه قدّر فيها أقواتها، أي أقوات أهلها، فقال سبحانه وتعالى: *(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ... وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين)* فصلت/10.
5- وأخبرنا سبحانه وتعالى أنه آتى الإنسان من كل ما يلزمه في حياته، قال سبحانه: *(وآتاكم من كل ما سألتموه)* إبراهيم/34، وأخبرنا سبحانه أيضاً أنه آتانا كل ذلك ليبلونا فيه، فقال سبحانه: *(ليبلوكم في ما آتاكم)* الأنعام/165، وأنه خلقنا وخلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، فقال سبحانه: *(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)* الملك/2، وقال سبحانه: *(وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)* هود/7.
6- وأخبرنا سبحانه أن كل ما آتانا إياه في هذه الحياة الدنيا إنما هو متاع الحياة الدنيا، والمتاع ما يُتَمَتَّع به ثم ينقضي وينتهي، فليس عليه من مُعَوَّل، والتجارة فيه خاسرة وليست رابحة، وأن كل إنسان سيموت ويترك ما جمعه في هذه الدنيا، وأنه ليس له من هذه الحياة الدنيا إلا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، وتصدقت فأمضيت؟)، *(ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)* البقرة/36، ولما أخبرنا سبحانه عَمَّا زُيِّن للناس ختم ذلك بقوله: *(ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب)* آل عمران/14، *(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)* آل عمران/185، وذكر سبحانه أن متاع الدنيا قليل قياساً بما في الآخرة فقال: *(فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)* التوبة/38 .وقال سبحانه وتعالى: *(وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون)* القصص/60، ويعقد الحق سبحانه وتعالى مقارنة بين من رضي بمتاع الحياة الدنيا ومن وعده الله وعداً حسناً في الآخرة فقال سبحانه: *(أفمن وعدناه وعداً حسناُ فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين)* القصص/61.
7- وخلاصة ما سبق أن الحياة الدنيا هي دار ممر وليست دار مقر، وأنها مزرعة للآخرة، يزرع فيها الإنسان ما عمل من عمل صالح ليحصد ثماره في الآخرة، وأن على الإنسان أن يعمل للقاء الله في الآخرة، وتوعد من يرضى بالحياة الدنيا ولا يعمل للآخرة بالوعيد الشديد يوم القيامة، فقال سبحانه وتعالى: *(إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون)* يونس/7-8.
وقال سبحانه: *(وويل للكافرين من عذاب شديد، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة)* إبراهيم/2-3، وقال سبحانه :*(فعليهم غضب من ربهم ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة)* النحل/106-107.
وقال سبحانه وتعالى: *(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون)* هود/15-16.
فالحياة الدنيا مرحلة عابرة في تاريخ الإنسان، عليها وعلى سيره فيها يتحدد مصيره يوم القيامة، وتتحدد حياته الحقيقية الباقية الخالدة في الآخرة، والإنسان فيها مكلف بتكاليف شرعية عليه أن يسير بحسبها، فهي ليست دار بقاء وخلود، ولا تستحق أن يتاجر بها الإنسان، بل إنه يأخذ منها بالنصيب الذي يقيم أوده، ويعينه على الاستمرار فيها على طاعة الله تعالى، كما قيل لقارون كما نقل سبحانه وتعالى: *(إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين)* القصص 76-77.
لكن ماذا كان جواب قارون؟ كان جوابه كجواب كثير من الناس اليوم، ومنهم المسلمون للأسف الشديد، فنسمع منهم قولهم: هذا تعبي، وجهدي، وتضحيتي في هذه الحياة، ويغفل عن حقيقة أن الله قد آتاه كل ما عنده، بل إنه سبحانه وتعالى خلقه وقدر فيه خواص لينتفع بها ورزقه وآتاه أموالاً وبنين وغير ذلك، كان جواب قارون *(إنما أوتيته على علم عندي)* القصص/78.
فالإنسان مخلوق في هذه الحياة الدنيا لا ليجمع المال، ولا ليكنز المال، ولا ليبني القصور، ولا ليعلم أولاده كيفية الكسب، بل إنه مخلوق ليعبد الله تعالى فيما آتاه، ويتعامل مع ما آتاه الله بحسب أوامر الله ونواهيه، فقال سبحانه: *(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)* الحديد/7، فالمال مال الله والإنسان مستخلف فيه، ويقول سبحانه: *(ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده، يحسب أن ماله أخلده...)* الهمزة، ويخبر سبحانه عن مصير هذا النوع من الناس بقوله سبحانه: *(ياليتها كانت القاضية، ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه)* الحاقة/27-29.
كتبها للإذاعة وأعدها: خليفة محمد- الأردن
انتهى الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني – الحرية تعني عدم الميزان