- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح99) مشروع الدستور - أحكام عامّة (ج2)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ التَّاسِعَةِ وَالتِّسعِينَ, وَعُنوَانُهَا: "مَشرُوعُ الدُّستُور - أحكَامٌ عَامَّة". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّانِيَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 2- دَارُ الإِسلامِ هِيَ البِلادُ الَّتِي تُطَبَّقُ فِيهَا أحكَامُ الإِسلامِ، وَيَكُونُ أمَانُهَا بِأمَانِ الإِسلامِ، وَدَارُ الكُفرِ هِيَ الَّتِي تُطَبِّقُ أنظِمَةُ الكُفرِ، أو يَكُونُ أمَانُهَا بِغَيرِ أمَانِ الإِسلامِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ:أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورِ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَتَّى يَدرُسَهُ المُسلِمُونَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامَتِهَا, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيهِمْ, وَهَذِهِ هِيَ المَادَّةُ الثَّانِيَةُ, وَيُمكِنُ بَيَانُ أَدِلَّتِهَا مِنْ خِلالِ النُّقَاطِ الآتِيَةِ: الدَّارُ لَهَا مَعَانٍ عِدَّةٌ مِنهَا:
- "المَنْزِلُ"، نَحْوَ قَولِهِ تَعَالَى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ). (القصص 81)، وَ"المَحِلَّةُ" وَكُلُّ مَوضِعٍ حَلَّ بِهِ قَومٌ فَهُوَ دَارُهُمْ. نَحْوَ قَولِهِ تَعَالَى: (فَأخَذَتهُمُ الرَّجْفَةَ فَأصبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ). (الأعراف 91).
- وَ"البَلَدُ"، حَكَى سِيبَوَيهِ: هَذِهِ الدَّارُ نِعْمَتِ البَلَدَ، وَ"المَثوَى وَالمَوضِعُ"، نَحْوَ قَولِهِ تَعَالَى: (وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ). (النحل 20).
- وَكَذَلِكَ "القَبِيلَةُ" مَجَازاً نَحْوَ حَدِيثِ أبِي حُمَيدٍ السَّاعِدِيِّ عِندَ البُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «إِنَّ خَيْرَ دُورِ الأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ ...».
- وَالدَّارُ قَدْ تُضَافُ إِلَى أسْمَاءِ أعْيَانِ نَحْوَ قَولِهِ تَعَالَى: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ). (الأعراف 145) وَقَولِهِ: (وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ). (النحل 20). وَقَولِهِ: (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيرُ مَكذُوب). (هود 65) وَقَولِهِ: (وَأورَثَكُمْ أرضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأموَالَهُمْ). (الأحزاب 27) وَنَحْوَ حَدِيثِ بُرَيدَةَ عِندَ مُسلِمٍ, وَفِيهِ أنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «... ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ»، وَحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيلٍ عِندَ أحْمَدَ أنَّهُ r قَالَ: «أَلاَ إِنَّ عُقْرَ دار المؤمنين الشامُ».
- وَقَد تُضَافُ إِلَى أسْمَاءِ مَعَانٍ نَحْوَ قَولِهِ تَعَالَى: (وَأحَلُّوا قَومَهُمْ دَارَ البَوَارِ). (إبراهيم 38) وَقَولِهِ: (الَّذِي أحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ). (فاطر 35) وَنَحْوَ حَدِيثِ عَلِيٍّ t عِندَ ابنِ عَسَاكِرَ بِإِسنَادٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ, وَعِندَ التِّرمِذِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ r: «رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ زَوَّجَنِيَ ابْنَتَهُ وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ». وَنَحْوَ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ عِندَ الدَّارقُطنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «إِذَا خَرَجَ العَبْدُ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ قَبْلَ سَيِّدِهِ فَهُوَ حُرٌ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَعْدِهِ رُدَّ إِلَيْهِ. وَإِذَا خَرَجَتِ المَرْأَةُ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ قَبْلَ زَوْجِهَا تَزَوَّجَتْ مَنْ شَاءَتْ، وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَعْدِهِ رُدَّتْ إِلَيْهِ».
- وَقَد أضَافَ الشَّارِعُ لَفْظَ الدَّارِ إِلَى اسمَينِ مِنْ أسْمَاءِ المَعَانِي هُمَا: الإِسلامُ وَالشَّركُ، فَقَد ْرَوَى الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنَ نُفَيلٍ السَّابِقَ فِي مُسنَدِ الشَّامِيِّينَ بِلَفْظِ «أَلاَ إِنَّ عُقْرَ دَارِ الإسلام الشَّامُ»، فَأُضِيفَتِ الدَّارُ هُنَا إِلَى الإِسلامِ.
- وَكَذَلِكَ فَقَدْ رَوَى المَاوَرْدِيُّ فِي الأحكَامِ السُّلطَانِيَّةِ وَفِي الحَاوِي الكَبِيرِ أنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «مَنَعَتْ دَارُ الإِسْلاَمِ مَا فِيهَا، وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا» أي مِنْ حَيثُ عِصْمَةِ دَارِ الإِسلامِ لِلدِّمَاءِ وَالأموَالِ ... إِلَّا بِحَقِّهَا وَفْقَ أحكَامِ الشَّرْعِ، وَمِنْ حَيثُ عَدَمُ عِصمَةُ دَارِ الشِّركِ «دَارُ الحَرْبِ» فِي حَالَةِ الحَرْبِ الفِعْلِيَّةِ كَمَا فِي أحكَامِ القِتَالِ وَالغَنَائِمِ ... وَفْقَ أحْكَامِ الشَّرْعِ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ يَشمَلُ الدُّنيَا كُلَّهَا، فَلا يَخرُجُ جُزْءٌ مِنهَا عَنْ أنْ يَكُونَ ضِمْنَ دَارِ الإِسلامِ أو ضِمْنَ دَارِ الشِّرْكِ، أيْ دَارِ الكُفْرِ أو دَارِ الحَرْبِ. وَتَكُونُ الدَّارُ دَارَ إِسلامٍ بِتَوَفُّرِ شَرطَينِ:
الأول: أنْ يَكُونَ أمَانُهَا بِأمَانِ المُسلِمِينَ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ ابنُ إِسحَقَ أنَّهُ r قَالَ لأصْحَابِهِ فِي مَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَاناً وَدَاراً تَأْمَنُونَ بِهَا»، وَهَذِهِ الدَّارُ هِيَ دَارُ الهِجْرَةِ الوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ المَارِّ عِندَ ابنِ عَسَاكِرَ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِندَ البُخَارِيِّ أنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ». وَبِدَلِيلِ أنَّهُ r لَمْ يُهَاجِرْ إِلَى المَدِينَةِ هُوَ وَأصْحَابُهُ حَتَّى اطمَأنَّ إِلَى وُجُودِ الأمَانِ وَالمَنَعَةِ، قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: "وَرَوَى البَيهَقِيُّ بِإِسنَادٍ قَوِيٍّ عَنِ الشَّعبِيِّ وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أبِي مُوسَى الأنْصَارِيِّ قَالَ: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ r وَمَعَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ إِلَى سَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ عِنْدَ العَقَبَةِ، فَقَالَ لَهُ أبو أُمامَة - يَعنِي أسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ - سَلْ يا محمّد لِرَبِّكَ ولِنَفْسِكَ ما شِئْتَ، ثُمَّ أَخْبِِرْنا ما لَنا من الثَّوَابِ. قال: أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّي أنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا به شيئاً، وأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي ولأَصْحَابِي أنْ تُؤْوُونَا وتَنْصُرُونَا وتَمْنَعُونَا مِمَّا تَمْنَعُونَ منه أَنْفُسَكُمْ. قَالُوا: فَمَا لَنَا؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. قَالُوا: ذَلِكَ لَكَ». وَبِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أحْمَدُ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ وَفِيهِ أنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ قَالَ فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ r فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِراً عَنْ كَابِرٍ». وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عِندَ أحْمَدَ عَنْ جَابِرٍ أنَّهُ r قَالَ فِي بَيعَةِ العَقَبَةِ: «... وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ ...». وَفِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ لِلبَيهَقِيِّ بِإسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوَيٍّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ r إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ مِمَّا نَمْنَعُ أَنْفُسَنَا وَأَزوَاجَنا وَأَبْنَاءَنَا وَلنَا الجَّنَّةَ ...». وَقَدْ كَانَ r يَرفُضُ الهِجْرَةَ إِلَى أيِّ مَكَانٍ لَيسَ فِيهِ أمَانٌ وَلا مَنَعَةٌ. رَوَى البَيهَقِيُّ بِإِسنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ أنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ لِبَنِي شَيبَانَ بْنَ ثَعلَبَةَ: «مَا أَسَأْتُمْ فِي الرَّدِّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ». وَذَلِكَ أنَّهُمْ عَرَضُوا أنْ يَنصُرُوهُ مِمَّا يَلِي مِيَاهَ العَرَبِ دُونَ مَا يَلِي فَارِسَ.
الثاني: أنْ تَجرِيَ فِيهَا أحْكَامُ الإِسلامِ. بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «دَعَانَا النَّبِيُّ r فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ». وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِرَسُولِ اللهِ r تَكُونُ فِي أمرِهِ وَنَهيِهِ، أيْ فِي إِجرَاءِ الأحْكَامِ.
وَهَذَانِ الشَّرطَانِ أي تَوفِيرُ الأمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي إِجرَاءِ الأحْكَامِ قَدْ بَايَعَ عَلَيهِمَا الأنصَارُ فِي العَقَبَةِ، رَوَى البَيهَقِيُّ بِإِسنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «... إِنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ r عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ لاَ تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ. وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ r إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ مِمَّا نَمْنَعُ أَنْفُسَنَا وَأَزوَاجنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الجَّنَّةَ. فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ r الَّتِي بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَ». فَإِجرَاءُ الحُكْمِ وَاضِحٌ فِي قَولِهِ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ r عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ»، وَالأمَانُ بِأمَانِ المُسلِمِينَ وَاضِحٌ فِي قَولِهِ: «وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ r إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ مِمَّا نَمْنَعُ أَنْفُسَنَا وَأَزوَاجنَا وَأَبْنَاءَنَا».
وَعَلَيهِ فَلا تَكُونُ الدَّارُ دَارَ إِسلامٍ إِلَّا بِتَوَفُّرِ الأمَانِ بِأمَانِ المُسلِمِينَ وَبِإجرَاءِ حُكْمِ الإِسلامِ، وَإِذَا انخَرَمَ أَحَدُ هَذَينِ الشَّرطَينِ، أوْ لَمْ يَتَوَفَّرْ، كَأنْ كَانَ الأَمَانُ بِأمَانِ الكُفَّارِ، أو كَانَ يَجرِي عَلَى النَّاسِ حُكْمُ الطَّاغُوتِ، صَارَتِ الدَّارُ دَارَ شِرْكٍ أيْ دَارَ كُفْرٍ. فَلا يُشتَرَطُ غِيَابُ الشَّرطَينِ مَعاً حَتَّى تَكُونَ الدَّارُ دَارَ شِرْكٍ، بَلْ يَكفِي غِيَابُ شَرْطٍ وَاحِدٍ لِتَكُونَ الدَّارُ دَارَ شِرْكٍ. وَلا تَعنِي دَارُ الكُفْرِ أنَّ كُلَّ أهْلِهَا كُفَّارٌ، وَلا تَعنِي دَارُ الإِسلامِ أنَّ كُلَّ أهْلِهَا مُسلِمُونَ، بَلْ إِنَّ مَعنَى الدَّارِ هُنَا هُوَ اصطِلاحٌ شَرْعِيٌّ "حَقِيقَةٌ شَرعِيَّةٌ" أيْ أنَّ الشَّرعَ هُوَ الَّذِي أعطَاهَا هَذَا المَعنَى، تَمَاماً كَلَفْظِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَنَحوِهَا مِنَ الحَقَائِقِ الشَّرعِيةَِّ. وَعَلَيهِ فَإِنَّهُ يُطلَقُ عَلَى بَلَدٍ جُلُّ أهْلِهِ نَصَارَى مَثَلاً, وَلِكِنَّهُ وَاقِعٌ ضِمْنَ الدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ يُطلَقُ عَلَيهِ دَارُ إِسلامٍ؛ لأنَّ الأحكَامَ المُطَبَّقَةَ أحكَامُ الإِسلامِ، وَأمَانُ البَلَدِ بِأَمَانِ الإِسلامِ، مَا دَامَ ضِمْنَ الدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ. وَكَذَلِكَ بِالنِّسبَةِ لِبَلَد مُعظَمُ أهْلِهِ مُسلِمُونَ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ ضِمْنَ دَولَةٍ لا تَحكُمُ بِالإِسلامِ, وَلا تَحفَظُ أمْنَهَا بِجَيشِ المُسلِمِينَ, بَلْ بِجَيشِ الكُفَّارِ، فَإِنَّهُ يُطلَقُ عَلَى هَذَا البَلَدِ دَارُ كُفْرٍ مَعَ أنَّ مُعظَمَ أَهلِهِ مُسلِمُونَ. فَمَعْنَى الدَّارِ هُنَا هُوَ حَقِيقَةٌ شَرعِيَّةٌ, وَلا اعتِبَارَ لِكَثرَةِ المُسلِمِينَ أو قِلَّتِهِمْ عِندَ إِطلاقِ لَفظِ الدَّارِ، بَلِ الاعتِبَارُ لِلأحْكَامِ المُطَبَّقَةِ وَلِلأمَانِ المُتَحَقِّقِ لأهْلِهَا. أيْ أنَّ مَعنَى الدَّارِ يُؤخَذُ مِنَ النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْ هَذَا المَعنَى، تَمَاماً كَمَا يُؤخَذُ مَعنَى الصَّلاةِ مِنَ النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْ مَعنَاهَا. وَهَكَذَا كُلُّ الحَقَائِقِ الشَّرعِيَّةِ يُؤْخَذُ مَعنَاهَا مِنَ النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ, وَلَيسَ مِنَ المَعنَى اللُّغَوِيِّ لِلألفَاظِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِالرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.