- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
الحَلْقَةُ الثَّامِنَةُ وَالعِشْرونَ بَعدَ المِائَةِ
(ح128) نِظَامُ الحُكْمِ نِظَامُ وَحْدَةٍ, وَلَيسَ نِظَاماً اتِّحَادِيّاَ, وَالحُكْمُ مَركَزِيٌّ وَالإِدَارَةُ لَا مَركَزِيَّةٌ
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةِ وَالعِشْرِينَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا: "نِظَامُ الحُكْمِ نِظَامُ وَحْدَةٍ, وَلَيسَ نِظَاماً اتِّحَادِيّاً, وَالحُكْمُ مَركَزِيٌّ وَالإِدَارَةُ لَا مَركَزِيَّةٌ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الخَامِسَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادةُ السادسةَ عشْرَةَ 16-نظامُ الحكمِ هو نظامُ وَحْدَةٍ وليسَ نظاماً اتحادياً.
المادةُ السابعةَ عشْرَةَ 17-يكونُ الحكمُ مركزياً والإدارةُ لا مركزية.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ:أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَتَّى يَدرُسَهُ الـمُسلِمُونَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامَتِهَا, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيهِمْ, وَهَاتَانِ هُمَا الـمَادَّتَانِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ, والسَّابِعَةَ عَشْرَةَ, وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَاتين الـمَادَّتَينِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
أولا: المادةُ السادسةَ عشْرَةَ 16-نِظَامُ الحُكْمِ هُوَ نِظَامُ وَحْدَةٍ, وَلَيسَ نِظَاماً اتِّحَادِياً: النِّظَامُ الصَّحِيحُ لِلحُكْمِ إِنَّما هُوَ نِظَامُ وَحْدَةٍ لَيسَ غَير, لِأَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرعِيَّ إِنَّما جَاءَ بِهِ, وَحَرَّمَ مَا سِوَاهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَمْروِ بْنِ العَاص: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: «وَمَنْ بَايَعَ إِمَاماً فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْـيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ» أَخرَجَهُ مُسلِمُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ r أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْـتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا» أَخرَجَهُ مُسلِمٌ. وَوَجْهُ الاستِدلَالِ بِهَذَينِ الحَدِيثَينِ هُوَ أَنَّ الحَدِيثَ الأَوَّلَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ فِي حَالِ إِعْطَاءِ الإِمَامَةِ أَيِ الخِلَافَةِ لِوَاحِدٍ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يُنَازِعُهُ هَذِهِ الخِلَافَةَ وَجَبَ قِتَالُهُ وَقَتْلُهُ إِنْ لَـمْ يَرجِعْ عَنْ هَذِهِ الـمُنَازَعَةِ. فَبَيَّنَ الحَدِيثُ أَنَّ مَنْ يُنَازِعُ الخَلِيفَةَ فِي الخِلَافَةِ وَجَبَ قِتَالُهُ. وَمَفهُومُ الحَدِيثِ مَنعُ تَجزِئَةِ الدَّولَةِ، وَالحَثُّ عَلَى عَدَمِ السَّمَاحِ بِتَقسِيمِهَا، وَمَنعُ الانفِصَالِ عَنهَا وَلَو بِقُوَّةِ السَّيفِ.
أَمَّا الحَدِيثُ الثَّانِي فَإِنَّهُ فِي حَالِ خُلُوِّ الدَّولَةِ مِنْ خَلِيفَةٍ، وَأُعْطِيَتِ الخِلَافَةُ لِشَخْصَينِ, فَاقتُلُوا الآخِرَ مِنهُمَا، وَمِنْ بَابِ أَولَى إِذَا أُعطِيَتْ لِأَكْثَرَ مِنَ اثنَينِ. وَمَفهُومُ الحَدِيثِ مَنعُ تَقسِيمِ الدَّولَةِ. وَهَذَا يَعنِي تَحرِيمَ جَعْلِ الدَّولَةِ دُوَلاً، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ دَوَلَةً وَاحِدَةً. وَمِنْ هُنَا كَانَ نِظَامُ الحُكْمِ فِي الإِسلَامِ نِظَامَ وَحْدَةٍ لَا نِظَامَ اتِّحَادٍ، وَيَحرُمُ غَيرُ نِظَامِ الوَحْدَةِ تَحرِيماً قَاطِعاً. وَلِهَذَا وُضِعَتْ هَذِهِ الـمَادَّةُ.
ثانيا: المادة 17-يكونُ الحكمُ مركزياً والإدارةُ لا مركزية.
وَقَدْ وُضِعَتْ هَذِهِ الـمَادَّةُ لِلتَّفرِيقِ بَينَ الحُكْمِ وَالإِدَارَةِ. وَالتَّفرِيقُ بَينَهُمَا يَظهَرُ فِي نَاحِيَتَينِ: فِي وَاقِعِ كُلٍّ مِنهُمَا، وَفِي أَعْمَالِ الرَّسُولِ r فِي تَولِيَتِهِ الحُكَّامَ وَفِي تَعيِينِهِ الـمُوَظَّفِينَ. أَمَّا وَاقِعُ كُلٍّ مِنهُمَا فَإِنَّ الحُكْمَ وَالـمُلْكَ وَالسُّلطَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُو السُّلطَةُ الَّتِي تُنَفِّذُ الأَحْكَامَ. قَالَ فِي القَامُوسِ الـمُحِيطِ: "أَقَرَّ بالـمُلُوكَةِ (بِالضَّمِّ) أَيْ بِالـمُلْكِ وَالعَظَمَةِ وَالسُّلطَانِ" وَقَالَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ: "الحُكْمُ (بِالضَّمِّ): القَضَاءُ جَمعُهُ أَحْكَامٌ, وَقَدْ حَكَمَ عَلَيهِ بِالأَمْرِ حُكْماً وَحُكُومَةً, وَالحَاكِمُ مُنَفِّذُ الحُكْمِ".
وَهَذَا يَعنِي أَنَّ الحُكْمَ لُغَةً القَضَاءُ، وَالحَاكِمُ لُغَةً مُنَفِّذُ الحُكْمِ، وَالـمُرَادُ مِنَ الحُكْمِ فِي هَذِهِ الـمَادَّةِ هُوَ الحُكْمُ اصطِلَاحاً بِمَعنَى تَنفِيذِ الأَحكَامِ أَيِ الـمُلْكُ وَالسُّلطَانُ. أَو بِتَعبِيرٍ آخَرَ الحُكْمُ هُوَ عَمَلُ الإِمَارَةِ الَّتِي أَوجَبَهَا الشَّرعُ عَلَى الـمُسلِمِينَ بِقَولِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلا يَحِلُّ لِثَلاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلاةٍ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» أَخرَجَهُ أَحمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْروٍ، وَعَمَلُ الإِمَارَةِ هَذَا هُوَ السُّلطَةُ الَّتِي تُستَعْمَلُ لِدَفْعِ التَّظَالُـمِ, وَفَصْلِ التَّخَاصُمِ. أَو بِعِبَارَةٍ أُخرَى الحُكْمُ هُوَ وَلَايَةُ الأَمْرِ الوَارِدَةُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ). (النساء 59) وَفِي قَولِهِ تَعَالَى: (وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ). (النساء 83) وَهِيَ مُبَاشَرَةُ رِعَايَةِ الشُّؤُونِ بِالفِعْلِ.
هَذَا هُوَ وَاقِعُ الحُكْمِ. وَعَلَى ذَلِكَ تَكُونُ وَلَايَةُ الأَمْرِ وَالإِمَارَةُ وَالـمُلكُ وَالسُّلطَانُ هِيَ الحُكْمُ, وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ الإِدَارَةُ. وَعَلَيهِ فَإِنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الخَلِيفَةُ وَأُمَرَاؤُهُ مِنْ وُلَاةٍ وَعُمَّالٍ مِنْ رِعَايَةِ شُؤُونِ النَّاسِ بِتَنفِيذِ أَحْكَامِ الشَّرعِ, وَتَنفِيذِ أَحكَامِ القُضَاةِ هُوَ الحُكْمُ. وَمَا عَدَاهُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ هَؤُلَاءِ أَو غَيرُهُمْ مِمَّنْ يُعَيِّنُونَهُ مِنَ النَّاسِ أَو يُعَيِّنُهُ الخَلِيفَةُ هُوَ الإِدَارَةُ.
وَبِذَلِكَ يَبرُزُ الفَرقُ بَينَ الحُكْمِ وَالإِدَارَةِ. وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ هَذَا الحُكْمَ بِهَذَا الوَاقِعِ لِلخَلِيفَةِ تَنتَخِبُهُ الأُمَّةُ أَو لِلأَمِيرِ تَختَارُهُ الأُمَّةُ، فَبِاختِيَارِ الأُمَّةِ لِلأَمِيرِ أَوْ بِبَيعَتِهَا لِلخَلِيفَةِ صَارَ الخَلِيفَةُ أَوْ صَارَ الأَمِيرُ صَاحِبَ الصَّلَاحِيَّةِ فِي الحُكْمِ، أَيْ صَارَ الحُكْمُ لِهَذَا الخَلِيفَةِ أَو ذَاكَ الأَمِيرُ، وَلَا يَكُونُ لِغَيرِهِ إِلَّا إِذَا أَعطَاهُ إِيَّاهُ هُوَ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الحُكْمُ مَركَزِيّاً. أَيْ أَنَّ الحُكْمَ لِلأُمَّةِ تُعطِيهِ هِيَ لِشَخْصٍ؛ خَلِيفَةً كَانَ أَو أَمِيراً، وَبِإِعطَائِهَا إِيَّاهُ بِالبَيعَةِ أَو الاختِيَارِ أَيْ الانتِخَابِ صَارَ الحُكْمُ لَهُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يُعطِي صَلَاحِيَّةَ الحُكْمِ لِمَنْ يَشَاءُ, وَلَيسَ لِغَيرِهِ صَلَاحِيَّةُ الحُكْمِ إِلَّا إِذَا أَعطَاهُ إِيَّاهَا.
وَبِهَذَا تَبرُزُ مَركَزِيَّةُ الحُكْمِ بِأَنَّهَا حَصْرُ صَلَاحِيَّةِ الحُكْمِ فِيمَنِ اختَارَتْهُ الأُمَّةُ حَيثُ يَكُونُ هُوَ الـمُتَمَتِّعُ بِالحُكْمِ ذَاتِياً. أَمَّا غَيرُهُ فَلَا يَتَمَتَّعُ بِالحُكْمِ ذَاتِيّاً، وَإِنَّما يَأخُذُهُ بِإِعطَاءِ غَيرِهِ لَهُ مُحَدَّداً بِحَسَبِ هَذَا الإِعطَاءِ بِالـمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالحَادِثَةِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ وَاقِعَ الحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَركَزِيٌّ وَيُلزَمُ بِمَركَزِيَّتِهِ.
وَأَمَّا أَعْمَالُ الرَّسُولِ r فَإِنَّهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرسَلَ الوُلَاةَ إِلَى الوِلَايَاتِ وَكَانَ يَأمُرُهُمْ أَنْ يُنَفِّذُوا أَحْكَامَ الشَّرعِ عَلَى النَّاسِ، وَعَيَّنَ الـمُوَظَّفِينَ لِيَقُومُوا بِالأَعمَالِ لَا لِيُنَفِّذُوا الأَحْكَامَ، فَمَثَلاً عَيَّنَ وُلَاةً, وَجَعَلَ لَهُمْ حَقَّ تَنفِيذِ الأَحْكَامِ، وَلَـمْ يُحَدِّدْ لَهُمْ وَسَائِلَ وَأَسَالِيبَ التَّنفِيذِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهَا لَهُمْ، وَبَعضُهُمْ كَانَ يَكتُبُ لَهُ كِتَاباً يُضَمِّنُهُ أَحْكَامَ الشَّرعِ لَا وَسَائِلَ تَنفِيذِهَا أَوْ أَسَالِيبَ التَّنفِيذِ، وَبَعضُهُمْ كَانَ يَأمُرُهُ أَنْ يُنَفِّذَ شَرعَ اللهِ.
فَقَدْ عَيَّنَ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ وَالِياً, وَكَتَبَ لَهُ كِتَاباً، وَعَيَّنَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ, وَسَأَلَهُ كَيفَ تَحْكُمُ؟ وَأَقَرَّهُ عَلَى رَأيِهِ، وَعَيَّنَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيدٍ وَالِياً لِيُنَفِّذَ شَرْعَ اللهِ.
وَكَانَ الَّذِي يُعَيَّنُ وَالِياً يَرَى مِنْ صَلَاحِيَّاتِهِ أَنْ يُنَفِّذَ، رُوِيَ «أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ اسْـتُعْمِلَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْمَالُ؟ قَالَ: وَلِلْمَالِ أَرْسَلْتَنِي؟ أَخَذْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r وَوَضَعْنَاهُ حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهُ» رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الـمُوَظَّفِينَ, فَإِنَّهُمْ تُحَدَّدُ لَهُمْ وَظَائِفُهُمْ, وَيَقُومُونَ بِمَا طُلِبَ مِنهُمْ. فَمَثَلاً عَيَّنَ رَسُولُ اللهِ r عَبدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ خَارِصاً يَخرُصُ عَلَى اليَهُودِ أَيْ يُقَدِّرُ الثَّمَرَ, وَهِيَ عَلَى أُصُولِهَا قَبْلَ أَنْ تُقْطَفَ.
رَوَى أَحْمَدُ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بِنِ عَبدِ اللهِ قَالَ: أَفَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيبَرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ r. فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللهِ r كَمَا كَانُوا، وَجَعَلَهَا بَينَهُ وَبَينَهُمْ، فَبَعَثَ عَبدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَخَرَصَهَا عَلَيهِمْ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ أَنتُمْ أَبغَضُ الخَلْقِ إِليَّ، قَتَلْتُمْ أَنبِيَاءَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَبْتُم عَلَى اللهِ، وَلَيسَ يَحمِلُنِي بُغضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيكُمْ. قَدْ خَرَصْتُ عِشرِينَ أَلفَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ, فَإِنْ شِئْتُم فَلَكُمْ وَإِنْ أَبَيتُمْ فَلِي. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ, قَدْ أَخَذْنَا فَاخرُجُوا عَنَّا.
وَكَانَ يَبعَثُ العُمَّالَ يَجْبُونَ الزَّكَاةَ فَيَجمَعُونَهَا وَيُحضِرُونَهَا لِلرَّسُولِ r وَكَانَ يُعطِيهِمْ أَجْرَهُمْ. عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ r: «إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ». أَخرَجَهُ مُسلِمٌ.
فَعِمرَانُ بنُ حُصَينٍ حَاكِمٌ استَهْجَنَ أَنْ تُطلَبَ مِنهُ الزَّكَاةُ الَّتِي جَمَعَهَا، فَقَدْ نَفَذَّ حُكْمَ اللهِ وَأَعطَاهَا لِـمُستَحِقِّيهَا كَمَا كَانَ يَفعَلُ حِينَ كَانَ يُعَيِّنُهُ رَسُولُ اللهِ، وَلَكِنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ مُوَظَّفٌ قَامَ بِمَا وُكِلَ إِلَيهِ مِنْ جَمْعِ الزَّكَاةِ، وَلَـمْ يَقُمْ بِتَنفِيذِ أَحْكَامِ الشَّرعِ.
وَبِهَذَا يَظهَرُ الفَرقُ بَينَ أَعْمَالِ الحَاكِمِ, وَبَينَ أَعْمَالِ الـمُوَظَّفِ. فَأَعْمَالُ الحَاكِمِ تَنفِيذٌ لِلشَّرعِ، أَيْ حُكْمٌ وَمُلْكٌ وَسُلطَانٌ. وَأَعمَالُ الـمُوَظَّفِ قِيَامٌ بِأَعْمَالٍ, لَا تَنفِيذُ أَحْكَامٍ, فَهِيَ لَيسَتْ مِنَ الحُكْمِ، وَإِنَّما هِيَ مِنَ الإِدَارَةِ.
وَبِهَذَا أَيضاً يَظْهَرُ الفَرقُ بَينَ أَعْمَالِ الحَاكِمِ نَفسِهِ، فَإِنَّ مِنهَا مَا هُوَ حُكْمٌ, وَهُوَ تَنفِيذُ أَحْكَامِ الشَّرعِ، وَتَنفِيذُ أَحْكَامِ القُضَاةِ، وَهَذِهِ لَا يَملِكُ أَحَدٌ صَلَاحِيَّةً فِيهَا إِلَّا إِذَا عَيَّنَهُ مَنْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ الحُكْمِ حَسَبَ تَعيِينِهِ.
وَمِنهَا مَا هُوَ أَسَالِيبُ وَوَسَائِلُ تُستَعْمَلُ لِلوُصُولِ إِلَى تَحقِيقِ التَّنفِيذِ، وَهَذِهِ مِنَ الإِدَارَةِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلحَاكِمِ لَا تَحتَاجُ إِلَى تَعيِينٍ، وَلَا تَحتَاجُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَنْ عَيَّنَهُ، بَلْ إِنَّ تَعيِينَهُ حَاكِماً يُعطِيهِ صَلَاحِيَّةَ استِعْمَالِ الوَسَائِلِ الَّتِي يَرَاهَا، وَالأَسَالِيبِ الَّتِي يَشَاؤُهَا، مَا لَـمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ عَيَّنَهُ أَسَالِيبَ مُعَيَّنَةٍ، وَوَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ، فَحِينَئِذٍ يَلتَزِمُ بِمَا عَيَّنَهُ لَهُ.
أَيْ أَنَّ تَعيِينَهُ حَاكِماً يُعطِيهِ صَلَاحِيَّةَ القِيَامِ بِالأَعمَالِ الإِدَارِيَّةِ مَا لَـمْ تَكُنْ هُنَاكَ أَنظِمَةٌ إِدَارِيَّةٌ صَادِرَةٌ عَمَّنْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ الحُكْمِ، فَحِينَئِذٍ يَتَّبِعُ هَذِهِ الأَنظِمَةَ.
وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعنَى الحُكْمِ مَركَزِيٌّ: هُوَ أَنَّ القِيَامَ بِالسُّلطَةِ أَيْ بِتَنفِيذِ الشَّرعِ لَا يَملِكُهُ أَحَدٌ ذَاتِياً إِلَّا مَنْ أَعطَتْهُ إِيَّاهُ الأُمَّةُ، فَهُوَ مَحصُورٌ بِهِ، وَيَملِكُهُ كُلُّ مَنْ يُعطِيهِ إِيَّاهُ.
وَمَعنَى قَولِنَا: (الإِدَارَةُ لَا مَركَزِيَّةٌ) هُوَ أَنَّ الحَاكِمَ الَّذِي يُعَيِّنُهُ لَا يَرجِعُ إِلَى مَنْ عَيَّنَهُ فِي الأُمُورِ الإِدَارِيَّةِ، وَإِنَّما يَقُومُ بِهَا حَسَبَ مَا يَرَى. وَذَلِكَ ثَابِتٌ مِنْ وَاقِعِ الحُكْمِ كَمَا وَرَدَ فِي النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ، وَمِنْ عَمَلِ الرَّسُولِ r فِي تَعيِينِهِ الحُكَّامَ. وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ هَذِهِ الـمَادَّةِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.