سقوط الأندلس دروس وعبر ح1
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مالك الملك, وخالق الخلق, يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير. أما بعد:
تمر بالمسلمين في الثاني من كانون الثاني من كل عام ذكرى أليمة على قلوبهم, يجدر بنا ونحن نعيش أياما عصيبة في ظل ما يسمى بالربيع العربي, أن نقف عندها وقفة تأمل لنستلهم منها الدروس والعبر, ولكي ننتفع بها في قابل الأيام, ونحن نسير بأمتنا في طريق النهوض, ونحن نشهد مخاض ميلاد دولة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة.
أيها الأحبة:
متى ما وجدت الأسباب، ووجدت قبلها ومعها وبعدها إرادة الله تعالى كانت النتائج وتحققت في الواقع فعلا؛ ولذلك يقول جل وعلا منبها لهذا الأمر: { سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا }. ويقول جل وعلا: { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا }. ويقول سبحانه: { فهل ينظرون إلا سنتَ الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا }. سنن كونية تمر في حياة الناس، وفي حياة المسلمين خاصة، وقلما يعتبر معتبر ويتذكر متذكر، نتحدث معكم عن مأساة الأندلس. هذه المأساة التي اهتز لها التاريخ، هذه المأساة التي ما كان يخطر على قلب بشر أن تكون كما كانت، وأن تقع كما وقعت.
أيها الأحبة:
نتحدث معكم عن مأساة الأندلس ناصحين ومبينين ومحذرين، من أن تتكرر هذه المأساة في واقع المسلمين، كما وقعت في ماضيهم القريب والبعيد. الأندلس ذلك البلد الذي يعرف اليوم بإسبانيا دخله الإسلام على يد القائد المسلم طارق بن زياد, وبمعاونة القائد البطل موسى بن نصير، وبقي الإسلام فيه ثمانية قرون متوالية.
إن المحزن المبكي أيها الأحباب, أن من يزور إسبانيا الآن، والتي كانت تسمى الأندلس سابقا لا يجد أي أثر للإسلام. علما بأن الإسلام عاش وتمكن فيها ثمانية قرون، أي أكثر من ثمانمائة عام، وخلال سنوات محدودة معدودة بعد سقوطها لم يبق للإسلام، أي ذكر وأي أثر! قد يتوقع من يتوقع، أن تنتهي الدولة الإسلامية في الأندلس، ولكن أن يمحى الإسلام من الوجود وأن يجتث، وأن يقتطع من أصوله ومن جذوره، فهذا ما لا يخطر على بال أحد.
أيها الأحبة :
دعونا نتأمل ونتساءل فنقول: عاش الإسلام وتمكن في الأندلس ثمانية قرون، فماذا كانت النتيجة؟ بعد سقوط الأندلس عام ثمانمائة وسبعة وتسعين هجرية؟ بعد معاهدة أعطاها النصارى، ولكنهم خانوا كعادتهم، بدأت الخيانة بعد سبع سنوات، فماذا حدث؟ بدأت محاكم التحقيق ودواوين التفتيش، وبدأ التعذيب الوحشي، الذي لم يمر في تاريخ البشرية كهذا التعذيب أبدا، من يقرأ ير كيف واجه المسلمون تعذيبا رهيبا وشديدا ومؤلما على يد النصارى.
أيها الأحبة:
أشكال وألوان من التعذيب تقشعر لها الأبدان، كانوا إذا علموا أن رجلا اغتسل ليلة الجمعة عرفوا أنه مسلم فقضوا عليه, وإذا وجدوه لبس الزينة في يوم العيد، عرفوا أنه مسلم فقضوا عليه بأساليب وحشية تدمي القلوب. استخدموا جميع ألوان التعذيب والبطش والتنكيل على مدى ثلاثة قرون متواصلة، حتى محوا المسلمين في الأندلس من الوجود، وقد يكون هذا الأمر مستغربا، ولكنه الحقيقة. كانوا يأتون بالمسلم ويعذبونه، حتى إنهم يأتون به ويخلطون لحمه وعظامه، ولا تمييز بين اللحم والعظام بعد عذاب شديد، يستمر أياما وأشهرا، كانوا يتفنون ويتلذذون في تعذيب المسلمين، هؤلاء اليهود، وهؤلاء النصارى كانوا يأتون بالنماذج الغريبة العجيبة!
أيها الأحبة:
ومن هذه النماذج تعذيبهم بما يسمونه العروسة! أتدرون ما هي العروسة؟ صورة فتاة جميلة مصنوعة من البرونز أو من النحاس، موضوعة في تابوت، ويوضع فيها, ويخرج منها ما هو على شكل خناجر، ويقال للمسلم: هذه زوجتك، فيلقى في التابوت عليها، ويغلق عليه التابوت والخناجر تمزق أمعاءه وأحشاءه، كانوا يأتون بالمسلم، ويقطعونه أوصالا، وهو حي يبدءون من قدميه حتى يصلوا إلى وسطه، ثم يبدءون من أطرافه، ثم رأسه حتى ينتهي وهو يتأوه ويتعذب!! صور التعذيب, صور الوحشية، الخروج من الحياة الإنسانية بما لا يخطر على بال بشر. نقول: بعد ثلاثة قرون من هذا الأمر، قضوا على ملايين المسلمين بهذه الطريقة، واضطر بعض المسلمين أن يعلن التنصر، وأن يربي أبناءه على النصرانية علنا، ولكنه يخفي الإسلام, وهؤلاء الذين سموا بالمرويسكيين. ولكن تابعوهم متابعة دقيقة، حتى إنهم كانوا يفتشون عن عورة الصبي، أو الرجل, فإن وجدوه مختونا علموا أنه مسلم، فبطشوا بأهله وبزوجته وبأبنائه بأشد أنواع البطش والفتك. هذا ما حدث أيها الأحباب.
أيها الأحبة:
تعد أوروبا من آخر البلاد وجودا للإسلام فيها. فأمريكا وبريطانيا وفرنسا، وبعض دول أوروبا دخلها الإسلام حديثا، ومع ذلك قد نجد أثرا للمسلمين فيها. أما إسبانيا، البلد الذي عاش فيه الإسلام ثمانية قرون، فإلى الآن أثر المسلمين ضعيف فيها, وكأن هذه المدينة, أو كأن هذه الدولة لم يعش فيها الإسلام ثمانية قرون متلاحقة!! لقد بكى وتباكى لهذه المأساة كثير من المسلمين، وممن بكى الأندلس كما تعرفون أبو البقاء الرندي بقصيدته المشهورة التي تبين حجم المأساة التي حلت بالمسلمين.
دعوني أقرأ لكم أبياتا من قصيدة أبي البقاء الرندي. يقول الشاعر:
لكـل شيء إذا مـا تـم نقصـان | فـلا يغـر بطيـب العيش إنسان |
هي الأيـام كمـا شاهدتهـا دول | من سـره زمـن ساءتـه أزمان |
وهـذه الـدار لا تبقـي على أحد | ولا يـدوم على حـال لهـا شان |
يمزق الدهر حتـما كـل سابغـة | إذا نبـت مشرفـيات وخرصـان |
وينتضي كـل سيف للفنـاء ولـو | كان ابن ذي يزن والغمد غمـدان |
أين الملـوك ذوو التيجان من يمـن | وأيـن منهـم أكاليـل وتيجـان؟ |
وأين مــا شـاده شـداد في إرم | وأين ما ساسـه في الفرس ساسان؟ |
وأيـن ما حازه قارون من ذهـب | وأين عــاد وشـداد وقحطـان؟ |
أتى على الكـل أمر لا مـرد لـه | حتى قضوا فكـأن القـوم ما كانوا |
وصار ما كان مـن ملك ومن ملك | كما حكى عن خيال الطيف وسنان |
دار الزمـان على (دارا) وقاتلــه | وأم كسـرى فمـا آواه إيــوان |
كأنـما الصعب لم يسهل له سبب | يومـا ولا ملك الدنيـا سليمـان |
فجائـع الدهـر أنـواع منوعـة | وللزمـان مسـرات وأحــزان |
وللحـوادث سلــوان يسهـلها | وما لما حـل بالإسـلام سلـوان |
أيها الأحبة:
نشكركم ونواصل حديثنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم محمد أحمد النادي.