الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

مقالات رمضانية دولة الخلافة ليست فكرة طوباوية

بسم الله الرحمن الرحيم


تمر الأمة الإسلامية في هذه الأيام بمرحلة مفصلية في تاريخها. فالأمة تشهد بعد الثورات المباركة حالة من الصراع الفكري بين مشروعين حضاريين لا ثالث لهما؛ يتسابقان لكسب ثقة الأمة، كفرسي رهان.

 

المشروع الأول هو مشروع الدولة المدنية العلمانية، وهذا المشروع يدعمه الغرب الكافر وعلى رأسه أمريكا، ويحتضنه الغرب ويروج له عبر عملائه السياسيين والفكريين وعبر وسائل الإعلام، والغرب عموما يرى في مشروع الدولة المدنية بديلا لأنظمة الاستبداد التي صنعها على بصيرة؛ لتكون حليفه في ضمان تحقيق مصالحه وتوسيع نفوذه، وزيادة في التلبيس على الأمة الإسلامية التي أظهرت قبل الثورات وخلالها وبعدها، احتضانا للإسلام ومطالبة لتطبيقه؛ لذا سارع الغرب في تطعيم مشروع الدولة المدنية بنكهة ( الإسلاميين المعتدلين ) حسب وصفه.


وأما المشروع الثاني الذي يزاحم ويصارع بقوة متسارعة لكسب ثقة الأمة وقيادتها للالتفاف حوله هو مشروع دولة الخلافة الإسلامية. هذا المشروع الحضاري الذي ينبثق عن عقيدة الأمة وهويتها وتراثها الفكري والثقافي.


وفي خضم الصراع المحموم بين الدولة المدنية الغربية الطابع والمنشأ وبين دولة الخلافة المرتقبة، يلاحظ المتتبع أن الغرب وعملاءه لا ينفكون يقذفون سهامهم وتهمهم لدولة الخلافة القادمة أملا في وأدها قبل قيامها، وسعيا لتنفير الناس منها وتيئيسا للأمة من إمكانية قيامها؛ للحيلولة دون الالتفاف الجماهيري حول فكرها وحول رجالها العاملين لها، ومن التهم التي توصف بها دولة الخلافة اليوم تهمة أنها دولة طوباوية. ومن الذين وصفوا دولة الخلافة بهذا الوصف قناة العربية في برنامج (مهمة خاصة)، وقناة الجزيرة في برنامج (الإسلاميين) وغيرها من القنوات، ويزداد الأمر خطورة أن هذه التهم لدولة الخلافة تخرج من أفواه بعض العلماء وبعض المحسوبين على التيار الإسلامي؛ كعزام التميمي، مدير معهد الفكر السياسي الإسلامي بلندن، وراشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، وياسر زعاترة، الكاتب والمحلل السياسي في الأردن وغيرهم.

 

فما الطوباوية؟ وأين نشأت؟ ولماذا توصف دولة الخلافة الإسلامية بذلك؟ وما الواجب الملقى على عاتق العاملين المخلصين الجادين الساعين دون كلل ولا ملل في بناء صرح هذه الدولة الربانية؟ فالإجابة على هذه التساؤلات سيكون متن هذه المقالة.

 

الطوباوية مصطلح لاتيني مأخوذ من كلمة (u-topos) أي ليس في أي مكان استخدمه توماس مور، عام 1546م ليصف مدينة مثالية خيالية في الجوانب السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وقد أخذ توماس مور أفكاره من كتاب الجمهورية لأفلاطون، وقد راج هذا المفهوم كثيرا في أوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد تم وصف الفكر الاشتراكي آنذاك باليوطوبيا؛ أي الفكر الخيالي، فظهرت الاشتراكية العلمية لتجسيد الفكر الاشتراكي على أرض الواقع.



والسؤال هنا لماذا توصف دولة الخلافة اليوم بالطوباوية أي الخيالية؟ فقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن هذا الوصف في هذا التوقيت بالذات يكشف لنا أن فكرة الخلافة قد ضربت جذورها في أعماق أعماق الأمة، وفرضت نفسها- ليس كمجرد فكرة رومانسية عابرة - بل كمشروع حضاري منافس للمشروع الحضاري الغربي المتمثل بالنظام الرأسمالي وإفرازاته الليبرالية والديمقراطية وغيرها، وأصبحت الخلافة مطلبا للكثير من أبناء الأمة على الرغم من حملات التعتيم الإعلامي التي تمارس على هذا المشروع والعاملين له، وفي هذا السياق توصف دولة الخلافة بهذا الوصف لتحقيق جملة من الغايات والأهداف، نذكر منها:

 

أولا: محاولة إقناع أبناء الأمة الإسلامية أن الإسلام ليس سوى مجموعة أخلاق، وعبادات، وشعائر روحية كهنوتية، تمارس في المساجد، والبيوت، ولا يشتمل الإسلام؛ لا في القراّن الكريم، ولا في السنة النبوية على قواعد وأسس لبناء دولة، تسمى دولة الخلافة.

 

ثانيا: هذا الوصف عندما يرد في الإعلام، ليس موجها للعاملين المخلصين لمشروع دولة الخلافة، فالغرب يدرك أن مثل هذه السياسات الخبيثة لا تنطلي إلا على عوام المسلمين الذين يسهل عليه تضليلهم وخداعهم؛ فيكون هذا الوصف جزءا من سياسة مدروسة لإبعاد الناس عن فكرة الخلافة باعتبارها فكرة خيالية، لا يمكن تطبيقها اليوم على أرض الواقع.

 

ثالثا: يدرك الغرب أن توجه أبناء المسلمين اليوم نحو الإسلام ونحو المطالبة بتطبيق الشريعة؛ فيأتي هذا الوصف ويروج له علماء السلاطين وبعض أبناء الحركات الإسلامية (المعتدلة) لإعطاء المشروعية السياسية للدولة المدنية بمرجعية إسلامية كما يسمونها، فتكون هذه الدولة المدنية هي المشروع السياسي الواقعي في مقابل مشروع دولة الخلافة الطوباوية الخيالية التي يصعب تحقيقها، ولا يمكن الوصول إليها كما يزعمون.

 

وحتى لا ينجح الغرب المستعمر وعملاؤه السياسيون والفكريون والإعلام في تصوير دولة الخلافة على أنها فكرة خيالية طوباوية؛ فعلى العاملين المخلصين من حملة الدعوة أن يأخذوا بعين الأهمية هذه المجموعة من النصائح:



أولا: لا بد من إدراك أن الجيل الحاضر لم يعش في دولة إسلامية، وإنما عاش أجداده في بقايا دولة إسلامية تطبق بقايا حكم إسلامي، لذلك يصعب على هذا الجيل تصور شكل دولة الخلافة وطبيعة الحياة فيها، وأمام هذه الحقيقة فإن على حملة الدعوة الإحسان والحكمة في الخطاب لتقريب صورة دولة الخلافة إلى الأذهان من خلال بيان واقع السيرة النبوية، على أنها ليست تاريخا مضى وانقضى، بل هي أحكام شرعية من خلالها يتلمس المسلم جوهر دولة الخلافة وطريقة قيامها.

 

ثانيا: لا بد من دوام مخاطبة الأمة الإسلامية بفكرة الخلافة على أساس أنها فكرة تنبثق من عقيدة الإسلام، فهي حكم شرعي فرضه الله -عز وجل-، وليس للأمة أمام الحكم الشرعي خيار سوى التنفيذ. وأحكام الإسلام نزلت للتطبيق والعمل بها، ومحال على الله -سبحانه- أن يفرض حكما خياليا، يصعب تطبيقه، والنصوص الشرعية قد بينت شكل الدولة الإسلامية، وظيفتها، وطريقة إيجادها، وواقع الحياة فيها، وكل ما يتعلق بها من أحكام، وعند خطاب الأمة لا بد من الإشارة والتوضيح أن دولة الخلافة دولة بشرية يختار فيها الحاكم لتطبيق شرع الله والحكم بالعدل والخير لما فيه علاج عملي للمشكلات التي تعانيها الأمة اليوم، وليست دولة الخلافة دولة دينية استبدادية، يتحكم فيها رجال الدين لأغراض سياسية، ومصالح شخصية؛ كما كان الحال في أوروبا في العصور الوسطى.

 

ثالثا: عند مخاطبة الأمة عن دولة الخلافة لا بد من عدم الاقتصار على سرد النصوص والأدلة الشرعية التي تبشر بقيام الخلافة فقط. فالأحاديث التي بشرت بقيام الخلافة الثانية هي أحاديث جاءت بصيغة الإخبار وهي لبعث الأمل في النفوس، وهي لا شك تخبر عن مستقبل فيه النصر والسؤدد للأمة الإسلامية، وحتما سيحصل ذلك؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لكن الاقتصار على هذه المبشرات النبوية قد يعد هروبا من مواجهة الواقع الفاسد إلى واقع غيبي غير محسوس، فكان لا بد من اتصال هذه المبشرات بحديث سياسي فكري مفصل عن ماهية دولة الخلافة، وطريقة إيجادها، والأحكام الشرعية العملية التي تطبقها الدولة بشكل يظهر فيه فن الرعاية لشؤون الناس وقدرة دولة الخلافة على انتشالهم من الواقع الفاسد الذي يعيشون.

 

رابعا: لا بدّ من لفت نظر الأمة دائما إلى أن هناك حزبا سياسيا مبدئيا هو حزب التحرير، الذي اتخذ من الإسلام مبدأ ومن السياسة عملا، وهو يعمل بجد واجتهاد دون كلل أو ملل لإيجاد دولة الخلافة في واقع الحياة، وقد قطع الحزب أشواطا كبيرة في إحياء فكرة الخلافة في نفوس المسلمين، وفي بناء رجال دولة الخلافة، وفي إعداد دستورها وبرامجها؛ حتى تنتقل الأمة مع الحزب انتقالا طبيعيا سلساً من جور الحكم الجبري إلى عدل الإسلام في دولة الخلافة.

 

خامسا: إن من أكثر القضايا التي تهم النخب السياسية والنشطاء السياسيين والمثقفين اليوم، هي تلك القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، والمرأة، والفقر، والتنمية الاقتصادية، والمشاركة السياسية، وغيرها. وبسبب تأثير الحضارة الغربية في هؤلاء المثقفين، وفي هذه النخب السياسية؛ مما جعلهم يفكرون بعقلية علمانية رأسمالية بحتة، ومع وصول بعض الحركات الإسلامية المعتدلة والمعتلة للحكم، وافتقارها لمشروع حضاري مميز ينبثق من الإسلام، وغياب تصور منظومة سياسية فكرية لديها تجاه تلك القضايا آنفة الذكر، فكان لا بد من لفت نظر أبناء الأمة إلى مشروع دستور دولة الخلافة، والذي يشتمل على مواد دستورية شرعية مستنبطة من القرآن والسنة، وهذه المواد توفر للفرد حقوقه المشروعة، وتوفر للمرأة حقوقا ثابتة، وتتضمن العلاج الرباني العملي لمشكلة الفقر، وتضمن حقهم في تشكيل الأحزاب، والمشاركة السياسية على أساس الإسلام، وفي دولة الخلافة تجري الانتخابات لانتخاب الخليفة ومجلس الأمة، وكل ذلك يتم على أساس الشرع، لا على أساس العلمانية والديمقراطية التي اتخذها الغرب سلاحا فكريا لاستعمار عقول المسلمين قبل استعمار بلادهم.

 

سادسا: لا بد من كسب غير المسلمين لمشروع دولة الخلافة القادمة وإبطال أكذوبة أن دولة الخلافة تشكل خطرا على الأقليات التي تعيش في بلاد المسلمين، والتأكيد على أن الإسلام يرفض أن يعاملهم كأقليات مهمشة منفصلة عن المسلمين، كما يرفض أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية، ولا بد من التأكيد على أن الأحكام الشرعية تجعلهم يعيشون جنبا إلى جنب مع المسلمين، لهم ما للمسلمين من الإنصاف وعليهم ما على المسلمين من الإنتصاف، ما داموا يحملون التابعية في دولة الخلافة بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم وأجناسهم.

 

وفي الختام علينا أن نتذكر دائما ديمومة الكفاح السياسي لأعداء دولة الخلافة، والصراع الفكري لكل فكر دخيل يناقض أفكار الإسلام، والثبات على مبدأ الإسلام مع تسارع طلب النصرة من أصحابها، ومع التوكل على الله - سبحانه وتعالى- والثقة بنصره ووعده، وأننا نستطيع أن نجعل من دولة الخلافة مشروعا حضاريا ماثلا للعيان يرضى عنه ساكن الأرض والسماء، وما ذلك على الله بعزيز.

 

 


أبو تميم - بيت المقدس

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع