الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط عبد الرحمن الداخل وبناء دولته الجديدة ح18
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله أحبتنا الكرام ونرحب بكم مجددا في إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير، ومع سلسلة حلقات الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط ....
حين استتب الأمر لعبد الرحمن الداخل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيا من أمر الثورات بدأ يفكر فيما بعد ذلك، فكان أن اهتم بالأمور الداخلية للبلاد اهتماما كبيرا، فبدأ بإنشاء جيش قوي وفي بنائه لجيشه الجديد اعتمد في تكوينة جيشه على العناصر التالية:-
أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولّدين، وهم الذين نشأوا- كما ذكرنا- نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس، وكانوا يمثلون غالبية بلاد الأندلس.
ب - اعتمد على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضم إليه كل الفصائل المضرية سواء أكانت من بني أمية أو من غيرهم، وضم إليه كل فصائل البربر، كما كان يضم إليه رؤوس القوم ويتألفهم فيكونون عوامل مؤثرة في أقوامهم، بل إنه ضم إليه اليمنيين مع علمه بأن أبا الصباح اليحصبي كان قد أضمر له مكيدة، الأمر الذي جعله يصبر عليه حتى تمكن من الأمور تماما ثم تخلص منه- كما ذكرنا- بعد إحدى عشرة سنة كاملة من توليه الحكم في البلاد.
ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة، وهم أطفال نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوروبا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئة إسلامية عسكرية صحيحة.
وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارس غير الرجّالة، مشكّل من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلت عماد الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.
أنشأ رحمه الله دورا للأسلحة، فأنشأ مصانعا للسيوف وأخرى للمنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طليطلة ومصانع برديل.
أنشأ أيضا أسطولا بحريا قويا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء كان منها ميناء طرطوشة وألمرية وأشبيليّة وبرشلونة وغيرها من الموانئ.
كان رحمه الله يقسم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام قسم ينفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامة من مؤن ومعمار ومرتبات ومشاريع وغير ذلك، والقسم الثالث كان يدخره لنوائب الزمان غير المتوقعة.
كما أنه أولى العلم والجانب الديني اهتماما بالغا فعمل على نشْر العلم وتوقير العلماء، وكان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قرطبة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمان خلفاء من بني أميّة، كما أنه اهتم بالقضاء وبالحسبة، واهتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما برز اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.
وكان أول من أنشأ دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس.
وأنشأ الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسسها جده هشام بن عبد الملك رحمه الله وقد أتى لها بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، والتي إن كانت تنجح زراعتها فإنها ما تلبث أن تنتشر في كل بلاد الأندلس.
كما قام بحماية ثغور دولته من أطماع الأعداء، وبالإضافة إلى إعداده جيشا قويا- كما وضحنا سابقا- وتأمينا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين.
المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشا ثابتة على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وأنشأ مجموعة من الثغور.
المرحلة الثانية: كان رحمه الله قد تعلم من آبائه وأجداده الفرض العظيم ونشر الإسلام، فكان لا بد من الجهاد المستمر وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتهرت الصوائف في عهده، حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف، وبصورة منتظمة وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قواد الجيش، وأيضا كان يُخرج الجيوش الإسلامية إلى الشمال كل عام بهدف الإرباك الدائم للعدو، وهو ما يسمونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.
لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرخون عن عبد الرحمن بن معاوية، وإنا لتعلونا الدهشة ويتملكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاما، أي في سن خريج جامعة في العصر الحديث.
ودعونا أحبتنا الكرام نستعرض وإياكم حديث ابن حيّان الأندلسي، ولنعي ما يقوله عنه، يقول ابن حيان مستعرضا بعضا من صفات عبد الرحمن الداخل.
كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغا مفوّها، شاعرا محسنا، سمحا سخيا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليّه وعدوّه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد إذا كان حاضرا، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى. انتهى كلامه رحمه الله.
شخصية تُشخِص الأبصار وتبهر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه رحمه الله، ومع شدته وحزمه وجهاده وقوته كان رحمه الله شاعرا محسنا رقيقا مرهف المشاعر.
ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلا أنه كان يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينه، فلم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم ودون حراس، حتى خاطبه المقربون في ذلك وأشاروا عليه ألا يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسطوا معه، ولكن كيف يمتنع عن الأمة وهو المحبوب بينهم والمقرّب إلى قلوبهم؟! ولقد صدق من قال حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.
فكان له حقا أن يأتي إلى هذه البلاد وحيدا مطاردا مطلوب الرأس، تجري وراءه قوى الأرض جميعا، فعباسيون في المشرق، وخوارج في المغرب، ومن بعدهم نصارى في الشمال، وثورات في الداخل، ثم هو يقوم وسط هذه الأجواء بتأسيس هذا البنيان القوي، وهذه الدولة الإسلامية ذات المجد التليد.
ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجة أمام أعين الحاضرين، فقضاها له ثم قال له إذا ألم بك خطب أو حَزَبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك؛ كي نستر عليك، وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا- عز وجهه- بإخلاص الدعاء وصدق النيّة.
إنها لتربية ربانية للناس، فهو يريد رحمه الله أن يربطهم بخالقهم، يريد أن يعلمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولا سبحانه وتعالى، يريد أن يعلمهم أنه سبحانه وتعالى يملكه ويملكهم جميعا، ثم مراعاة لعواصف النفس الداخلية، وحفظا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحد فيك.
وها هو رحمه الله يدخل عليه أحد الجنود ذات يوم كان قد انتصر فيه على النصارى، فتحدث معه الجندي بأسلوب فيه رفع صوت وإساءة أدب، فما كان منه رحمه الله إلا أن أخذ يعلمه خطأه ويقول له يا هذا، إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه؛ فعليك بالسكينة والوقار؛ فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر فأغضب عليك. فإذا بالجندي وقد وعى أمره يرد عليه ردا لبيبا ويقول له أيها الأمير، عسى الله أن يجعل عند كل زلة لي نصر لك فتغفر لي زلاتي. وهنا علم عبد الرحمن الداخل أن هذا ليس اعتذار جاهل؛ فأزاح الضغينة من قلبه وقرّبه إليه ورفع من شأنه.
نكتفي اليوم بهذا القدر، ونعود إليكم ومع حلقة جديدة الأسبوع القادم إن شاء الله، فانتظرونا، فإلى ذلك الحين، نستودعكم الذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتبته: أم سدين