الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط ح22 القضاء على ثورة صمويل بن حفصون
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، حياكم الله احبتنا الكرام، ونتابع وإياكم أحداث الأندلس والتغيير الذي أحدثه عبد الرحمن الناصر في فترة حكمه ...
بعد نحو شهرين فقط من توليه الحكم قاد عبد الرحمن الناصر أول حملة له لقتال المرتدين استرد فيها مدينة أستجه، وكانت من أحصن مدن الأندلس ثم بعد ذلك بنحو شهرين أو ثلاثة أشهر قاد بنفسه حملة كبيرة على صمويل بن حفصون استمر مداها طيلة ثلاثة أشهر كاملة، هي شعبان ورمضان وشوال من سنة ثلاثمائة من الهجرة من نفس العام الذي تولى فيه رحمه الله فاسترد جيان، وهي أيضا من المدن الحصينة جدا في الأندلس، ويكفي لمعرفة هذا أنه استرد فيها سبعين حصنا من حصون صمويل بن حفصون.
ما زالت قوة صمويل بن حفصون كبيرة جدا؛ فالمدد يأتيه من الشمال من دول النصارى، ويأتيه أيضا من الجنوب من الدولة الفاطمية، هذا فضلا عن إمدادات مدينة أشبيلية والتي كان عليها حاكم مسلم من أولاد ابن حجاج، لكنه كان متمردا على سلطة قرطبة، وكان يملك جيشا مسلما كبيرا.
فكر عبد الرحمن الناصر كثيرا في كيفية قطع هذه الإمدادات على صمويل بن حفصون، اهتدى أخيرا في أن يبدأ بالهجوم على مدينة أشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قرطبة؛ وذلك بمنطق النزعة الإسلامية التي غلبت عليه، حيث أمل إن هو ذهب إلى أشبيلية واستطاع أن يرغم حاكمها على الانضمام له أو الانصياع إليه بالقوة أن ينضم إليه جيش أشبيلية المسلم الكبير، وبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية، وتقوى شوكته.
وبالفعل وبعون من الله كان له ما أمل، حيث ذهب إلى أشبيلية بعد أقل من عام واحد من ولايته في سنة ثلاثمائة وواحد من الهجرة، واستطاع أن يضمها إليه؛ فقويت بذلك شوكته وعظم جانبه، فعاد إلى صمويل بن حفصون بعد أن قطع عنه المدد الغربي الذي كان يأتيه من أشبيلية، واسترد منه جبال رندة ثم شذونة ثم قرمونة، وهي جميعا من مدن الجنوب.
تعمق عبد الرحمن الناصر بعد ذلك ناحية الجنوب حتى وصل إلى مضيق جبل طارق فاستولى عليه، ويكون بذلك أيضا قد قطع الإمدادات والمساعدات التي كانت تأتيه من الجنوب من الدولة الفاطمية عن طريق مضيق جبل طارق، وسعى عبد الرحمن الناصر إلى أكثر من هذا حيث قطع أيضا طريق الإمدادات التي كانت تأتيه من الدول النصرانية في الشمال عن طريق المحيط الأطلسي، ثم مضيق جبل طارق، ثم البحر الأبيض المتوسط حتى تصله، وبذلك يكون عبد الرحمن الناصر قد قطع عن صمويل بن حفصون كل طرق الإمدادات والمساعدات التي كانت تمده وتقويه.
لم يجد صمويل بن حفصون بدا من طلب الصلح والمعاهدة من عبد الرحمن الناصر على أن يعطيه اثنين وستين ومائة حصنا من حصونه، ولأن البلاد كانت تشهد موجة من الثورات والانقسامات يريد عبد الرحمن الناصر أن يتفرغ لها، فضلا عن أنه سيضمن في يده اثنين وستين ومائة حصنا وسيأمن جانبه فقد قبل المعاهدة ووافق على الصلح من صمويل بن حفصون.
أصبحت قوة عبد الرحمن الناصر رحمه الله تضم قرطبة وأشبيلية وجيان وأستجة، وهي جميعا من مدن الجنوب، بالإضافة إلى حصون أخرى كثيرة وكل هذه المساحة كانت تمثل تقريبا سدس مساحة الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت، هذه واحدة.
الأمر الثاني أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصونا كثيرة ويسيطر سيطرة كاملة على الجنوب الشرقي من البلاد، لكن قطعت عنه الإمدادات الخارجية سواء من النصارى أو الدولة الفاطمية أو أشبيلية.
والأمر الثالث أنه كان هناك تمرد في طليطلة تقع في شمال قرطبة، ورابعا تمرد في سرقسطة في الشمال الشرقي، وخامسا تمرد في شرق الأندلس في بلنسية، وسادسا تمرد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجليقي.
أي أن الأندلس في عام اثنين وثلاثمائة من الهجرة كانت مقسمة إلى ستة أقسام، قسم واحد فقط في يد عبد الرحمن الناصر، ويضم قرطبة وأشبيلية وما حولها بما يقارب سدس مساحة الأندلس كما ذكرنا، والخمسة الأخرى موزعة على خمس متمردين، والمتوقع - إذن - هو أن يحاول عبد الرحمن الناصر من جديد مقاومة إحدى مراكز التمرد هذه إن لم تكن الأقرب إليه.
وإن المرء ليقف فاغرا فاه شاخصا بصره حين يعلم أن عبد الرحمن الناصر ترك كل هذه التمردات، واتجه صوب الشمال الغربي صوب مملكة ليون النصرانية مباشرة. ترك عبد الرحمن الناصر كل شيء وأخذ جنده من قرطبة وأشبيلية وصعد في اتجاه الشمال الغربي ليقابل قوات النصارى هناك، والتي كانت تهاجم منطقة من مناطق المتمردين غرب الأندلس.
ظل عبد الرحمن الناصر في حرب مع قوات النصارى تلك في أرض المتمردين عامين كاملين، عاد بعدها منتصرا محملا بالغنائم، تاركا البلاد راجعا إلى قرطبة وأشبيلية، وكأنه أراد أن يعلم الناس أمرا ويرسل إليهم برسالة في منتهى الوضوح كانت قد خفيت عليهم، مفادها الأعداء الحقيقيين ليسوا المسلمين في الداخل، إنما هم النصارى في الشمال، إنما هم في مملكة ليون، ومملكة نافار، ومملكة أراجون.
بهذا العمل استطاع عبد الرحمن الناصر رحمه الله إحراج المتمردين إحراجا كبيرا أمام شعوبهم، كما استطاع أن يحرك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه، وكذلك تتحرك عواطف الشعوب نحو من يدافع عن قضاياها الخارجية، ونحو من يحارب أعداءها الحقيقيين.
فقه الدرس ووعاه جيدا عبد الرحمن الناصر، وبعد عامين من مهاجمة النصارى في الشمال في واحدة هي من أكبر الحملات التي قادها رحمه الله والتي انتهت في سنة أربع وثلاثمائة من الهجرة عاد بجيشه القليل نسبيا محملا بالغنائم، وذلك بعد انتصارات عديدة على النصارى هناك.
كانت نتائج أخرى ليست أقل من سابقتها في انتظاره رحمه الله كانت أولاها أن أذعنت سرقسطة وانضمت إليه دون قتال، وكانت الثانية بمثابة هدية من رب العالمين لمن التزم دينه وجاهد في سبيله وثبت عليه، وهي موت صمويل بن حفصون مرتدا وعلى نصرانيته في سنة ست وثلاثمائة من الهجرة، عن عمر يناهز ست وستين سنة.
وفي سرعة يحسد عليها قام عبد الرحمن الناصر مستغلا هذا الحدث، وضم إليه كل مناطق الجنوب الشرقي، وفي خطوة تالية استتاب النصارى الذين كانوا قد ارتدوا مع صمويل من الإسلام إلى النصرانية ثلاثة أيام، فمن تاب منهم وعاد إلى الإسلام قبله في جيشه، ومن أبى إلا أن يظل نصرانيا قتله ردة، وكان من هذا الصنف الأخير ابنة عمر أو صمويل بن حفصون، وقد كانت تحفز الناس على ألا يتركوا دين الآباء ودين النصرانية.
كتبه للإذاعة : الأخت أم سدين