بَعدَ إِعلانِها خلافةً على منهاجِ النُبوة الحلقة الثانية الدولة الواحدة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد فقدَ المسلمونَ بعدَ هدمِ الخلافةِ "الدولةَ الواحدةَ"، ووقعوا في الفُرقةِ كما خطّطَ الأعداءُ لهم، وقُسِّمتْ دولةُ الخلافةِ إلى دويلاتٍ وكياناتٍ ضعيفةٍ هزيلة، تحتَ اتفاقيةِ سايكس بيكو، فبعدَ هدمِ الخلافةِ سقطَ التاجُ عن رؤوسِ المسلمين، وهُدِمَ البُنيانُ الذي كانَ يؤويهم، وانفرطَ عِقدُ الأمةِ الإسلاميةِ، ومزَّقها الكُفارُ إلى عِرقياتٍ متعددة، وأقاليمَ متفرقةٍ كي تَسهُلَ الهيمنةُ عليها، وإِذلالُ شعوبِها، ونهبُ خيراتِها، تحتَ شِعار "فرِّق تَسُد".
ففلسطين عندما كانت جُزءاً مِن الدولةِ الإسلاميةِ في زمنِ الخلافةِ العُثمانية، لَم يستطِع أحدٌ السيطرةَ عليها واحتلالَها، ولكن عِندما سقطتْ دولةُ الخِلافةِ وجُعلتْ فِلسطين دولةً مستقلةً سَهُلَ السيطرةُ عليها، ووقعتْ تَحتَ الانتدابِ البريطاني، وكما قالَ الخليفةُ عبد الحميد الثاني: "انصَحُوا الدكتور (هرتزل) بألاَّ يتَّخذ خطواتٍ جديةً في هذا الموضوع، فإني لا أستطيعُ أن أتخلَّى عن شِبرٍ واحدٍ من أرضِ فلسطين، فهي ليستْ مِلكَ يَميني، بل مِلكُ الأمَّةِ الإسلامية، ولقد جاهَدَ شَعْبي في سبيلِ هذه الأرض ورَواها بدَمِه، فليحتفظِ اليهودُ بملايينِهم، وإذا مُزِّقت دولةُ الخلافةِ يوماً فإنهم يَستطيعونَ آنذاكَ أن يأخذوا فِلسطينَ بِلا ثمن، أما وأنا حي فإنَّ عملَ المِبضعِ في بدني لأهونُ عليَّ مِن أن أرى فلسطينَ قد بُترت مِن دولةِ الخلافةِ وهذا أمرٌ لا يكون. إني لا أستطيعُ الموافقةَ على تشريحِ أجسادِنا ونحنُ على قيدِ الحياة". وفعلاً هذا ما حدثَ، مُزِّقتْ دولةُ الخلافة وأُخذت فلسطينُ بلا ثمن, أمامَ مَرأى الناس.
وهذا الإنجليزي "لورانس" (الذي خططّ لما يُسمى بالثورةِ العربيةِ مِن أولها لآخرها)، ماذا يقول؟ يقول: "إنَّ نشاطَ الحسين (جدِّ ملكِ الأردنِ السابق) مهمٌ لنا، إذ أنه ينسجمُ مع أهدافِنا المباشرةِ، وهي تفكيكُ الرابطةِ الإسلاميةِ، وهزيمةُ الإمبراطوريةِ العثمانية"، ثمَّ يضيفُ: "فإذا تمكّنا من التحكمِ بهم فإنهم سيبقونَ مُنقسمينَ سياسياً إلى دويلاتٍ تحصدُ بعضها بعضا، ولا يمكِنُ لها أن تتوحد". فهل هناك اعترافٌ أشدُ وضوحاً وأكثرُ صراحةً مِن هذا؟
فكيفَ يحتفلُ المسلمونَ بَعدَ هذا بأعيادِ الاستقلال؟! وكيفَ يرفعونَ راياتِ دويلاتِ الضرار، التي أقامها الكافرُ المُستعمر؟! إِنها جريمةٌ ما بعدها جريمة.
لقد أصبح المسلمونَ لِلأسفِ يُنادون بأوطانِهم، وتقديسِ التبعيةِ للوطن، فهذا يُنادي باسم فلسطين، وذاك بِاسم الأردن، وذاك باسم العراق... واعتُبرت شئونُ كلُ بلدٍ شأناً داخلياً لا علاقةَ لِمن يعيشُ خارجها به!
وهذهِ الحدودُ تمنعُ تنقُلَ الناسِ مِن وإلى تلكَ البلادِ إلا بتأشيرةِ دخول وتَعتبِرُ الداخلَ إليها بالتأشيرةِ أجنبياً عنها؛ فيُصبِحُ اليمني في بلادِ الحجازِ أجنبياً، والسوريُّ في اليمنِ أجنبياً، وكذلك كلُ أبناءِ الأمةِ الواحدة.
لذلك كانَ لا بُدَّ من الجدِّ في إزالةِ الحواجزِ الماديةِ والمعنوية، التي تقفُ حائِلاً بينَ المُسلمينَ وتحقيقِ الجماعة؛ لأنَّ الذي يوحِّدُ رأيَ المُسلمينَ ويجمعُ كلمتَهم، ويوحِّدُ موقِفهم السياسيّ، ويجعلُ مِنهم أُمةً تُرهِبُ عدوَّ اللهِ وعدوَّهم هي الخلافةُ الراشدةُ لا غير، الخلافةُ التي يرتفِعُ مع قيامِها قولُ الحق: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"، وتتهاوى بقيامِها عروشُ الباطلِ، عروشُ الخونةِ والعملاء، التي ظنوا أنها قويةٌ منيعةٌ وهيَ في حقيقتِها أوهنُ من بيوتِ العنكبوت.
إنَّ دولةَ الخلافةِ ليس لها حدودٌ ثابتةٌ تقِفُ عِندها ولا تتعداها، وهيَ مكلَّفةٌ شرعاً بِوجوبِ حَملِ الإسلامِ إلى الناسِ كافّة، وتطبيقهِ عليهم، سواءٌ أَسلموا أم لم يُسلِموا، فحدودُها مُنذ أن أنشأَها رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) في المدينةِ المنورةِ حدودٌ متحركة، تضمُ إليها أرضَ كلِ مَن خضعوا لها، سلماً كان أم حرباً، ترعاهُم بِأحكامِ الإسلام، ليصبحوا جزءاً لا يتجزأُ مِنها، قالَ تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً"، وقال تعالى: " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ"، وقال عليه الصلاة والسلام: " أمرت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا" رواهُ البخاري ومسلم.
وحدودُ هذهِ الدولةِ مفتوحةٌ لِجميعِ المسلمينَ وحاملي التابعية، يدخلونَ عليها ويخرجونَ مِنها متى أرادوا، ولهم حقُ حملِ تابعيةِ الدولة، إلا ما استثناهُ الشرعُ مِن حالات.
فبذلِكَ ستكونُ بِلادُ المسلمينَ بِعودةِ الخلافةِ دولةً واحدةً موحّدة، لا تُفرِّقُها الحدودُ والأعلام، وتجمعُها التبعيةِ لِدار الإسلام. هذا الشكل الذي ستكونُ عليهِ دولةُ الخلافةِ "دولةٌ واحدة"، منقطعةُ النظير.
لذلك كانَ على المسلمينَ العملُ بجدٍّ لإعادةِ إقامةِ دولةِ الخلافة، التي ستزيلُ الحواجِزَ الماديةَ بينَ الدول، وتجمعُ أمةَ الإسلامِ في دولةٍ واحدة، لا فرقَ بين فلسطينيٍّ وأردني، عِراقيٍّ ويمني، ما داموا يحملونَ التابعية.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أبو يوسف