الخلافة كيف تنعقد - وبِمَن - ج3
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
انعقاد الخلافة
الخلافة عقد مراضاة واختيار، لأنّها بيعة بالطاعة لمن له حقُّ الطاعة من ولاية الأمر. فلا بدّ فيها من رضا مَن يُبَايَع ليتولّاها، ورضا الـمُباِيعين له. ولذلك إذا رفض أحد أن يكون خليفة وامتنع من الخلافة لا يجوز إكراهه عليها، فلا يُجبَر على قبولها، بل يُعدَل عنه إلى غيره. وكذلك لا يجوز أخذ البيعة من الناس بالإجبار والإكراه، لأنّه حينئذٍ لا يصحّ اعتبار العقد فيها صحيحًا، لمنافاة الإجبار لها، لأنّها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار كأيّ عقد من العقود. إلّا أنّه إذا تمّ عقد البيعة مِمَّن يُعتدّ ببيعتهم فقد انعقدت البيعة، وأصبح المبايَع هو وليّ الأمر، فوجبت طاعته. وتصبح البيعة له بعد ذلك من بقيّة الناس بيعة على الطاعة، وليست بيعة لعقد الخلافة. وحينئذٍ يجوز له أن يجبر الناس الباقين على بيعته، لأنّها إجبار على طاعته، وطاعته واجبة شرعًا على الناس. وعلى ذلك فالبيعة ابتداءً عقدٌ لا تصحّ إلّا بالرضا والاختيار. أمّا بعد انعقاد البيعة للخليفة فتصبح طاعة، أي انقيادًا لأمر الخليفة، ويجوز فيها الإجبار تنفيذًا لأمر الله تعالى. ولـمّا كانت الخلافة عقدًا فإنّها لا تتمّ إلا بعاقد، كالقضاء، فلا يكون المرء قاضيًا إلّا إذا ولاّه أحد القضاء. وكالإمارة، لا يكون أحد أميرًا إلّا إذا ولاّه أحد الإمارة. وكذلك الخلافة، لا يكون أحد خليفة إلّا إذا وُلّي الخلافة. ومن هنا يتبيّن أنّه لا يكون أحد خليفة إلّا إذا ولّاه المسلمون، ولا يملك صلاحيات الخلافة إلّا إذا تمّ عقدها له، ولا يتمّ هذا العقد إلّا من عاقدَيْن، أحدُهما طالِبُ الخلافة أو المطلوبُ لها، والثاني المسلمون الذين رضوا به أن يكون خليفة لهم. ولهذا كان لا بدّ لانعقاد الخلافة من بيعة المسلمين.
مَنْ تنعقد بهم الخلافة.
إنّ الشارع قد جعل السلطان للأُمّة، وجعل نصب الخليفة للمسلمين عامّة، ولم يجعله لفئة دون فئة، ولا لجماعة دون جماعة، فالبيعة فرض على المسلمين عامّة:
قال عليه الصلاة والسلام: «...مَنْ مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» رواه مسلم، وهذا عامّ لكلّ مسلم. إلّا أنّه ليس شرطًا أن يباشر جميع المسلمين هذا الحقّ، لأنّه حقّ لهم، وهو وإن كان فرضًا عليهم، لأنّ البيعة فرض، ولكنّه فرض على الكفاية، وليس فرض عين، فإذا أقامه البعض سقط عن الباقين. وليست المسألة قيام جميع المسلمين بهذا الفرض بالفعل. لأن الفرض الذي فرضه الله هو أن يَـجري نصبُ الخليفة من المسلمين برضاهم، لا أن يُـجريَه جميعُ المسلمين.
إلا أنّه لا يتمّ نصب الخليفة إلّا إذا قام بنصبه جماعة يتحقّق في نصبهم له رضا جمهرة المسلمين، أي أكثريّتهم، مهما كان عدد هذه الجماعة. ومن هنا جاء قول بعض الفقهاء: يَـجري نصبُ الخليفة ببيعة أهل الحلّ والعقد له. إذ يَرَون أهلَ الحلّ والعقد الجماعةَ التي يتحقّق رضا المسلمين بما تقومُ به من بيعةِ أيّ رجل حائز على شروط انعقاد الخلافة. فبيعة أهل الحلّ والعقد أَمارة مِنَ الأَمارات الدالّة على تحقُّق رضا المسلمين بهذه البيعة، لأنّ أهل الحلّ والعقد كانوا يُعَدّون الممثّلين للمسلمين. وكلّ أَمارة تدلُّ على تحقُّق رضا المسلمين ببيعة خليفة، يتمُّ بها نَصبُ الخليفة ويكون نصبُه بها نصبًا شرعيًّا. ويتضح الأمر في بيعة الخلفاء الراشدين، وما أجمع عليه الصحابة. ففي بيعة أبي بكر رضي الله عنه اكتُفِيَ بأهل الحَلّ والعقد من المسلمين الذين كانوا في المدينة وحدها، ولم يؤخذ رأي المسلمين في مكّة وفي سائر جزيرة العرب، بل لم يُسألوا. وكذلك الحال في بيعة عمر رضي الله عنه. أمّا في بيعة عثمان رضي الله عنه فإنّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخذ رأي المسلمين في المدينة، ولم يقتصر على سؤال أهل الحَلّ والعقد. وفي عهد عليّ رضي الله عنه اكتُفِيَ ببيعة أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة، وأُفرِدَ هو بالبيعة.
وعلى ذلك فالحكم الشرعي هو أن يقوم بنصب الخليفة جمعٌ يَتحقَّقُ في نصبهم له رضا المسلمين، بأيّ أمارة مِنْ أمارات التحقُّق، سواء أكان ذلك بكون المبايعين أكثر أهل الحلّ والعقد، أم بكونهم أكثر الممثِّلين للمسلمين، أم كان بسكوت المسلمين عن بيعتهم له، أم مسارعتهم بالطاعة بناء على هذه البيعة، أم بأيّ وسيلة من الوسائل، ما دام متوفرًا لهم التمكين التامّ من إبداء رأيهم. فالحكم الشرعي كون بيعتهم يتحقَّق فيها الرضا مِنْ قِبَل جمهرة المسلمين، بأيّة أمارة مِن الأمارات، مع تمكينهم مِنْ إبداء رأيهم تمكينًا تامًّا.
والمراد بجميع المسلمين أو جمهرتهم المسلمون الذين يعيشون في البلاد الخاضعة للدولة الإسلامية، أو القطر الذي قامت فيه الخلافة ابتداء. أمّا غيرهم من المسلمين فلا تُشترط بيعتهم، ولا يشترط رضاهم. لأنّهم إمّا أن يكونوا خارجين على سلطان الإسلام، أو أن يكونوا يعيشون في دار كفر ولا يتمكّنون من الانضمام إلى دار الإسلام. وكلاهما لا حقَّ له في بيعة الانعقاد، وإنّما عليه بيعة الطاعة، لأنّ القسم الأوّل - أي الخارجين على سلطان الإسلام - فحكمهم حكم البغاة. ولأنّ القسم الثاني - أي الذين في دار الكفر ولا يتمكّنون من الانضمام إلى دار الإسلام - لا يتحقَّق بهم قيام سلطان الإسلام، حتّى يقيموه بالفعل، أو يدخلوا فيه. وعلى ذلك فالمسلمون الذين لهم حقّ بيعة الانعقاد ويُشترط تحقُّق رضاهم حتّى يكون نصب الخليفة نصبًا شرعيًا، هم الذين يقوم بهم سلطان الإسلام بالفعل.
ولقائل أن يقول: هذا إذا كان هنالك خليفة مات أو عزل في وجود دولة الخلافة، ويُراد إيجاد خليفة مكانه. أمّا إذا لم يكن هنالك خليفة مطلقًا ولا دار إسلام، وأصبح فرضًا على المسلمين أن يقيموا خليفة لهم، لتنفيذ أحكام الشرع، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، كما هي الحال منذ زوال الخلافة الإسلامية في اسطنبول سنة 1342 هجرية الموافق سنة 1924 ميلادية، فإنّ إقامة الخلافة فرض كفاية، والذي يقوم بذلك الفرض على وجهه الصحيح يكون قام بالشيء المفروض. ولأن اشتراط أكثر أهل الحلّ والعقد إنّما يكون إذا كانت هنالك خلافة موجودة، يُراد إيجاد خليفة فيها مكان الخليفة المتوفَّى أو المعزول. أمّا إذا لم تكن هنالك خلافة مطلقًا، ويُراد إيجاد خلافة، فإنّه بمجرّد وجودها على الوجه الشرعي، تنعقد الخلافة بأيّ خليفة يستكمل شروط الانعقاد، مهما كان عدد المبايعين الذين بايعوه.
فنقول هذا الكلام صحيح، ونحن نقول به. إلّا أنّ هذا لا يعني إسقاط كافّة الشروط المعتبرة في طرفي العقد، أي المبايِع والمبايَع. فالشخص المبايَع لا بدّ أن تتوفّر فيه شروط الانعقاد حتمًا، ولا يُسقطها أيُّ ظرف من الظروف. ومن هذه الشروط أن يكون عدلًا بشهادة العدول. وكذلك من أعطَوه البيعة، لا بدّ أن تتوفّر فيهم الشروط التي تجعل بيعتهم بيعة انعقاد شرعية. وبيعة الانعقاد إنّما تكون من الناس في البلد الذي أُعلنت فيه الخلافة بيعة انعقاد بالرضا والاختيار، وليس بالإكراه والإجبار، وبشروط البيعة الشرعية. ولا تكون بيعة الانعقاد من المجموعة التابعة أصلًا للشخص المبايَع. فمن يُعطُون البيعة يجب أن يتوفَّر فيهم شرط النيابة والتعبير عن غالبية المسلمين الذين يعيشون في القطر الذي بويع فيه، لأن السلطان في الأصل هو للأمّة، فإن مُنح هذا السلطان لشخص من طريق بيعة أشخاصٍ لا يمثّلون المسلمين ولا ينقاد المسلمون لهم ولا لبيعتهم فإنّ هذه البيعة باطلة ولا تنعقد بها خلافة البتّة. ودليل ذلك بيعة أهل المدينة، دار الإسلام الأولى، للنبيّ عليه الصلاة والسلام.
فعلى الرغم من أنّه عليه الصلاة والسلام رسولُ الله، وأنّ طاعته واجبة على المسلمين مطلقًا، بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، وغيرهما الكثير من الآيات التي تأمر بطاعته عليه الصلاة والسلام، على الرغم من ذلك كان عليه الصلاة والسلام حريصًا على أخذ البيعة على الحكم - وهي بيعة العقبة الثانية - من أهل المدينة الذين سمّاهم الله تعالى الأنصار. وقد مرّت معنا النصوص في هذه البيعة من قبل. وكلُّ تلك النصوص تشير إلى أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم يطلب البيعة من المهاجرين الذين جعلهم الله تعالى أُولي الفضل على سائر المسلمين إلى يوم القيامة، وإنّما طلبها من أهل المدينة الذين آوَوا ونصروا، لأنّهم هم أهل الدار التي قامت فيها الدولة الإسلامية. وكان بإمكان الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغني عن هذه البيعة بأمر الله تعالى المؤمنين بطاعته عليه الصلاة والسلام، أو بأن يأخذ البيعة من صحبه المهاجرين قبل الهجرة أو عندها أو بعدها. ولو كانت بيعة الانعقاد تتمّ ببيعة أيّ مجموعة من الناس لاكتفى الرسول عليه الصلاة والسلام بأخذها من الأوَّلين الذين آمنوا بدعوته واتّبعوه منذ بداية بعثته، ومن ثَمَّ لألزم الأنصار من أهل المدينة الذين آووا ونصروا بيعةَ الطاعة. ولكنّه لم يفعل عليه الصلاة والسلام.
وعليه فإنّ الشخص الذي أَعلنه (تنظيمُ الدولة) خليفةً للمسلمين بمجرّد بيعةِ مجموعةٍ من أتباعه الذين لا يعرفهم الناس ولا يعبِّر أحدٌ منهم عن إرادة المسلمين، ليس بخليفة في حال من الأحوال، وبيعته باطلة ولا يتوفّر فيها شيء من الشروط الشرعية، فلا قيمة لها...يتبع
أعدها: الأستاذ أحمد القصص
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
في الخامس عشر من رمضان المبارك 1435هـ