كتيب التقرب إلى الله ح12 الصبر عند الابتلاء
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
في حمل الدعوة ومقارعة الكفر وأعوانه يكون الابتلاء أمرا غالبا، ولا يظن حامل دعوة أنه لا يفتن ويبتلى مهما كانت درجة الابتلاء، يقول الله سبحانه وتعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) العنكبوت، ويقول: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) آل عمران (186). والابتلاء بحسب الدين والإيمان لما رواه الشيخان: "أشد الناس ابتلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة ابتلي على قدر ذلك، وإن كان فيه رقة، هون عليه، فما يزال البلاء بالرجل حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة".
والمسلم حتى يكون قادرا على مواجهة الابتلاء لا بد أن يؤمن بالقدر فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء كتبه الله عليه، وهذه العقيدة تستقر في أعماق أعماقه وتصبح قناعة يسلم بها فتضبط سلوكه في الحياة وتجعل منه إنسانا شجاعا مقداما يندفع للقيام بأعباء الدعوة دون تردد أو وجل.
روى أبو داود في سننه عن الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه عند الموت: "يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك" سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: رب وماذا اكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني".
وحتى يواجه الابتلاء لا بد أن يستعين بالصبر والصلاة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة (153)، وهو يوصي غيره بالصبر وإلا كان من الخاسرين (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) العصر، وهو يدعو ربه أن ينعم عليه بالصبر (وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين) الأعراف (126)، وهو يصبر صبرا جميلا كما أمر الله تعالى وهو الصبر بلا شكوى إلى المخلوق كما يقول ابن تيمية رحمه الله، وهو يعلم أن ثواب الصابرين عظيم (أُوْلَئِك ُيجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً) الفرقان (75) وقد ورد عن رسول الله قوله: "عجبا للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"، ومما ينسب إلى علي كرم الله وجهه: "إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور".
وشباب الدعوة يوقنون بأن الصبر هو السبيل إلى نصر الله قال تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) الأنعام (34)، وقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) الروم (60).
ولقد ابتلي المخلصون من حملة الدعوة قديما وحديثا بشتى أنواع البلاء من القتل والتعذيب والضرب والتجويع والاستهزاء والدعايات الكاذبة والطرد من الأوطان والسجن والملاحقة، فما لانت لهم قناة ولا فترت لهم همة، وما نال منهم أعداؤهم نيلا يرضي غرورهم أو يشفي صدورهم.
هذا خبيب بن عدي ينشد حين بلغه أن القوم قد اجتمعوا لصلبه:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هملت عيناي من غير مجزع
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
فلست بمبد للعدو تخشعا ولا جزعا إني إلى الله مرجعي
وهذا خباب بن الأرت يقول عنه الشعبي: "لقد صبر خباب ولم تلن له بين أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه" وكانت أم أنمار سيدة خباب تأخذ الحديد المحمى الملتهب وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخباب يتلوى من الألم، وقد مر به رسول الله يوما فطار قلبه رحمة وحنانا وأسى فلم يملك يومها إلا أن يثبته ويدعو له قائلا: "اللهم انصر خبابا".
وهذا عمار بن ياسر يقول عنه عمرو بن ميمون: "أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمر به، ويمرر يده على رأسه ويقول: "يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم" وكان عمار يقول تحت العذاب: "يا رسول الله لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ" فناداه الرسول الكريم: "صبرا أبا اليقظان، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة".
يقول الزبير رضي الله عنه: "كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوا، قال: دعوني فإن الله سيمنعني، فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها فقام عند المقام ثم قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ــ رافعا بها صوته ــ (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)) الرحمن، ثم استقبلهم يقرؤها، فتأملوه قائلين: ماذا يقول ابن أم عبد!! إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو ماض في قراءته، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم عاد إلى أصحابه، مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشيناه عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا له: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون".
لما عجز ملك الروم عن إغراء عبد الله بن حذافة السهمي في ترك الإسلام ودخول النصرانية وذلك بإشراكه في ملكه وتزويجه ابنته، أمر بقدر من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه النصرانية فأبى فأمر به أن يلقى في القدر فرفع ليلقى فيها فبكى فطمع فيه الملك ودعاه فقال عبد الله: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله فقال له الملك: قبل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
يصف الإمام ابن القيم الجوزية حال شيخه ابن تيمية وهو محبوس في قلعة دمشق ــ يقول: "قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري ــ يعني بذلك: إيمانه وعمله ــ أين رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، ولو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير" وقد بقي الشيخ محبوسا حتى مات في السجن رحمه الله.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن حالهم حين المقاطعة:
" خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ورضضتها بالماء، فقويت بها ثلاثا".
هذه بعض مواقف الرجال وهي غيض من فيض في تاريخ المسلمين، وفي هذه الأيام ابتلي الكثير من حملة الدعوة الإسلامية في أنفسهم وأموالهم بالسجن والتعذيب والتشريد والملاحقة والمحاربة في الأرزاق وتعطيل المصالح والمنع من السفر وحتى القتل والإعدام في بعض أقطار الإسلام، فنسأل الله لهم المغفرة وجزيل الثواب ونرجوا الله تعالى أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب (23).
فوزي سنقرط