القضاء في الإسلام-الأستاذ أبو أنس جاد الله
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد بن عبد الله وعلى أله وصحبه ومن والاه, ومن اتبعه, وسار على دربه, واهتدى بهديه, وانتهج نهجه, واستن بسنته, وحكم بحكمه, وقضى بقضائه بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
إن رسالة الإسلام رسالة عالمية شاملة كاملة للبشرية جمعاء, أنزلها الله رحمة للعالمين, فقد أرسل الله تعالى كل نبي إلى قومه خاصة, وأرسل محمداً إلى الناس كافة, قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ....}الأعراف158 فكانت رسالة الإسلام رسالة خاتمة، رسالة شاملة عامة تعالج شؤون الناس جميعاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبما أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه, يعيش في جماعات مبتعداً عن العزلة والوحدة, ونظراً لاختلاف وجهات النظر, وتضارب المصالح عند بني البشر, واختلاف مقاييسهم وتقديرهم للمنافع, كان لا بد من نظام يسيرون به أمور حياتهم, ويعالجون به مشكلاتهم, ويفضون بموجبه نزاعاتهم واختلافاتهم التي تنشأ عن اجتماعهم؛ فكان القضاء في الإسلام نظاماً شاملاً كاملا يعالج ذلك كله بما يحقق العدل وأكثر منه الرحمة والإحسان بين بني الإنسان, بل بين كل الكائنات؛ لتنعم في ظل الإسلام بطمأنينة وسلام في حياة ترضي الرحمن, فيفوز بالجنان أهل الطاعة والإيمان, ويبوء أهل الكفر والعصيان بالخسران والنيران.
تعريف القضاء ومشروعيته
القضاء في الإسلام هو الإخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام, وهو يفصل في الخصومات بين الناس, أو يمنع ما يضرُّ حق الجماعة, أو يرفع النزاع الواقع بين الناس وأي شخص ممن هو في جهاز الحكم: حكاماً أو موظفين, خليفة كان أو من هو دونه.
أما مشروعية القضاء فالأصل فيها الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ.....}المائدة49 وقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }النور51
وأما السنة فأدلتها:
أولاً: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم, فقد تولى القضاء بنفسه الشريفة, وقضى بين الناس, ومن ذلك: قضاؤه بين سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة, حين اختلفا في ابن وليدة, قال سعد: إنه ابن أخي. وقال عبد بن زمعة: هو أخي, وابن وليدة أبي, ولد على فراشه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد بن زمعة». ثم قال: «الولد للفراش, وللعاهر الحجر».
ثانياً: قلد النبي صلى الله عليه وسلم القضاء لأصحابه:
أ. فقد قلد عمرو بن العاص القضاء في قضية واحدة.
ب. قد عيَّن عبد الله بن نوفل قاضياً على المدينة.
ج. قلد علياً كرم الله وجهه قضاء اليمن, وأوصاه قائلاً: «إذا تقاضى إليك رجلان, فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر, فسوف تدري كيف تقضي» رواه الترمذي وأحمد.
د. قلد معاذ بن جبل قضاء الجَـنَد (ناحية من اليمن).
أنواع القضاة
القضاة في الإسلام ثلاثة: أحدهم: القاضي (قاضي الخصومات) وهو يتولى الفصل في الخصومات بين الناس في المعاملات والعقوبات.
والثاني: المحتسب: وهو الذي يفصل في المخالفات التي تضرُّ حقَّ الجماعة.
والثالث: قاضي المظالم: الذي يتولى الفصل في المنازعات الواقعة بين الناس وأي شخص ممن هو في جهاز الحكم, حكاماً كانوا أو موظفين, خليفة كان أو من هو دونه.
شروط القضاة
يشترط فيمن يتولى القضاء سبعة شروط هي أن يكون: 1. مسلماً. 2. حراً. 3. بالغاً. 4. عاقلاً. 5. عدلاً. 6. فقيهاً. 7. مدركاً لتنزيل الأحكام على الوقائع.
ويشترط فيمن يتولى قضاء المظالم زيادة على هذه الشروط شرطان هما:
1. أن يكون رجلاً.
2. وأن يكون مجتهداً, كقاضي القضاة؛
لأن عمله قضاء وحكم, فهو يحكم على الحاكم, وينفذ الشرع عليه؛ ولذلك يشترط أن يكون رجلاً, وعلاوة على باقي شروط القاضي أن يكون مجتهداً؛ لأن من المظالم التي ينظر فيها أن يكون الحاكم قد حكم بغير ما أنزل الله, أي أن يحكم بحكم ليس له دليل شرعي, أو أن لا ينطبق الدليل الذي استدل به على الحادثة, وهذه المظلمة لا يستطيع أن يفصل فيها إلاَّ المجتهد, فإذا كان قاضي المظالم غير مجتهد كان قاضياً عن جهل, وهذا حرام ولا يجوز.
تقليد القضاة
يجوز أن يقلد القاضي والمحتسب وقاضي المظالم تقليداً عاماً في القضاء بجميع القضايا في جميع البلاد, ويجوز أن يقلدوا تقليداً خاصاً بالمكان وبأنواع القضايا، أخذاً من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قلد علياً كرم الله وجهه قضاء اليمن, وقلد معاذ بن جبل قضاء الجَـنَد من اليمن, وقلد عمرو بن العاص القضاء في قضية واحدة معينة.
رزق القضاة
قال الإمام الحافظ في الفتح: (( الرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين )). والقضاء مما يجوز أخذ الرزق عليه من بيت مال المسلمين, فهو من مصالح المسلمين التي يجوز الاستئجار عليها, وللقائم عليها أجر سواء أكانت عبادة أم غير ذلك. قال تعالى في شأن مصارف الزكاة: {... وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ..}التوبة60
وروى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين, وما فقه الذهبي عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما عامل استعملناه, وفرضنا له رزقاً, فما أصاب بعد رزقه فهو غلول».
وقد استعمل عمر رضي الله عنه شريحاً على القضاء, وجعل له مئة درهم رزقاً في الشهر. ولما آلت الخلافة لعلي كرم الله وجهه استعمله, وجعل له خمسمائة درهم رزقاً في الشهر. وروى ابن سعد في الطبقات عن نافع قال: (( استعمل عمر بن الخطاب زيد بن ثابت على القضاء, وفرض له رزقاً )). وقد أجمع الصحابة على جواز أخذ الرزق على القضاء.
تشكيل المحاكم
لا يجوز أن تتألف المحكمة إلاَّ من قاض واحد له صلاحية الفصل في القضاء, ويجوز أن يكون معه قاض آخر أو أكثر, ولكن ليست لهم صلاحية الحكم, وإنما لهم صلاحية المشاورة, وإعطاء الرأي, ورأيهم غير ملزم له, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين للقضية الواحدة قاضيين, وإنما عيَّن قاضياً واحداً للقضية الواحدة.
وأيضاً فإن القضاء هو الإخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام, والحكم الشرعي في حق المسلم لا يتعدد, وهو حكم الله, وحكم الله واحد. صحيح قد يتعدد فهمه, ولكنه في حق المسلم عند التطبيق واحد لا يتعدد مطلقاً, ولهذا لا يصلح أن يكون القاضي للقضية الواحدة أي في المحكمة الواحدة متعدداً. ولكن يجوز أن يكون أكثر من محكمة في البلدة الواحدة حسب الحاجة. ولكن كل محكمة منفصلة عن غيرها. فالقضاء كالوكالة يجوز التعدد فيها؛ لذلك جاز تعدد القضاة في البلدة الواحدة. وعند تجاذب الخصوم بين قاضيين أو أكثر في مكان واحد, يرجَّح جانب المدَّعي, ويكون النظر للقاضي الذي يطلبه؛ لأنه طالب حق, وهو أرجح من المطلوب منه.
أنواع القضاء
أولاً: قضاء الخصومات: قضاء الخصومات هو الإخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام فيما يحصل فيه خلاف بين أفراد الرعية في المعاملات والجنايات والنفقات, وغير ذلك. وأدلة قضاء الخصومات هي أدلة القضاء بعامة الواردة في مشروعية القضاء.
هذا ولا يجوز أن يقضي قاضي الخصومات إلاَّ في مجلس قضاء, ولا تعتبر البينة واليمين إلاَّ في مجلس القضاء, وذلك لما روي عن عيد الله بن الزبير قال: « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم». رواه أبو داود وأحمد, وهذا الحديث يبيِّن الهيئة التي يحصل فيها القضاء, وهي هيئة مقصودة لذاتها, وهي شرط لصحة قضاء الخصومات, ويؤيِّد ذلك حديث علي رضي الله عنه حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا جلس إليك الخصمان, فلا تكلـَّم حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول». وكذلك الأمر بالنسبة للبينة واليمين لا اعتبار لأحدهما خارج مجلس القضاء, وذلك للحديث الذي رواه البيهقي: « ولكن البينة على من ادَّعى, واليمين على من أنكر» ولا تكون هذه الصفة إلاَّ في مجلس القضاء.
هذا ولا يوجد في الإسلام محاكم استئناف, ولا محاكم تمييز كما في القضاء في الأنظمة الوضعية. فالقضاء من حيث البت في القضية درجة واحدة, فإذا نطق القاضي بالحكم, فحكمه نافذ ولا ينقضه حكم قاض آخر.
والقاعدة الفقهية تـنصُّ على أن ((الاجتهاد لا ينقض بمثله)) فليس أيُّ مجتهد بحجة على مجتهد أخر. فلا يصحُّ وجود محاكم تناقض أحكام محاكم أخرى. إلاَّ أن القاضي إن ترك الحكم بأحكام الشريعة الإسلامية, وحكم بأحكام الكفر, أو إن حكم بحكم يخالف نصاً قطعياً من الكتاب أو السنة أو إجماع الصحابة. أو حكم حكماً مخالفاً لحقيقة الواقع, كأن حكم على شخص بالقصاص على أنه قاتل عمد, ثمَّ ظهر القاتل الحقيقي, فإنه في هذه الحالات وأمثالها يُـنقَضُ حكم القاضي, وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». رواه البخاري ومسلم. ولما روى جابر بن عبد الله أنَّ رجلاً زنا بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجُـلد. ثمَّ أخبر أنه محصن فأمر به فرُجم».
وأخبر عبد الرزاق عن الإمام الثوري قال: ((إذا قضى القاضي بخلاف كتاب الله أو سنة رسوله أو شيء مجمع عليه, فإنَّ القاضي بعده يردُّه)). والذي له صلاحية نقض هذه الأحكام هو قاضي المظالم.
ثانياً: قضاء الحسبة: قضاء الحسبة هو الإخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام في المخالفات التي تضر حق الجماعة. ودليل قضاء الحسبة من السنة:
1. فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: وهو ما ورد في حديث صَبُرَة الطعام: ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صَبُرَة طعام في السوق, فأدخل يده فيها فنالت بللاً, فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» فقال: أصابته السماء يا رسول الله. فقال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشَّ فليس مني».
2. استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سوق مكة بعد الفتح سعيد بن العاص, كما جاء في طبقات ابن سعد, وفي الاستيعاب لابن عبد البَرِّ, ولهذا فإنَّ دليل الحسبة هو السنة.
تطبيقات قضاء الحسبة
1. استعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تدعى الشفاء بنت عمرو قاضي حسبة على سوق النساء بالمدينة.
2. كما استعمل عبد الله بن عتبة قاضي حسبة على سوق المدينة, كما نقل ذلك مالك في الموطأ, والشافعي في مسنده رحمهما الله تعالى.
3. وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم بنفسه بقضاء الحسبة, فكان يطوف بالأسواق كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4. ظل الخلفاء يقومون بالحسبة إلى أن جاء الخليفة المهدي فجعل للحسبة جهازاً خاصاً, فصارت من أجهزة القضاء.
5. وفي عهد الرشيد كان المحتسب يطوف بالأسواق, ويفحص الأوزان والمكاييل من الغش, وينظر في معاملات التجار والتعديات على طريق الناس.
صلاحيات قاضي الحسبة
يملك قاضي الحسبة أو من ينيبه صلاحية الفصل ((الحكم)) في المخالفة التي تضرُّ حق الجماعة فور العلم بها في أي مكان دون الحاجة لمجلس قضاء. فمتى وأين وجدت المخالفة حكم فيها سواء أكان في السوق أو في البيت أو في الطريق في الليل أو النهار؛ لأنه لا يوجد مدَّع أو مدعى عليه, بل يوجد حق عام اعتدي عليه, أو مخالفة للشرع.
فالرسول عليه الصلاة والسلام حين نظر في أمر صَبُرَة الطعام نظر فيها وهو سائر في السوق, وكانت معروضة للبيع, ولم يستدع صاحبها عنده, بل بمجرَّد أن رأى المخالفة نظر فيها في مكانها, مما يدلُّ على أنه لا يشترط مجلس قضاء في قضايا الحسبة.
ومن صلاحياته أن يختار نواباً عنه تتوافر فيهم شروط المحتسب يوزعهم في الجهات المختلفة حسب الحاجة, وتكون صلاحياتهم القيام بوظيفة المحتسب في المنطقة أو المحلة التي عُـيِّنت لهم في القضايا التي فوضوا فيها, وهذا مقيد بما إذا كان عقد تعيين المحتسب يشتمل على ذلك وإلاَّ فلا, ويكون تحت إمرته نفر من الشُرَط , ومع من ينيبهم لتنفيذ أوامره وأوامرهم في إزالة المخالفة, ومعاقبة الممتنعين.
ثالثاً: قضاء المظالم: يختص قضاء المظالم برفع الظلم عن الحاصل من الدولة على أي شخص يعيش تحت سلطانها سواء أكان من رعاياها أم من غيرهم, وسواء أحصلت هذه المظلمة من الخليفة أم ممن هو دونه من الحكام أو الموظفين.
ودليل قضاء المظالم من الكتاب والسنة:
أولاً: من الكتاب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }النساء59
فالنزاع بين الرعية وأولي الأمر يجب ردُّه إلى الله ورسوله. أي إلى حكم الله وحكم رسوله, وهذا يقتضي وجود قاض يحكم في هذا النزاع وهو قاضي المظالم.
ثانياً: من السنة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله:
أ. فعله عليه الصلاة والسلام: فقد عيَّن راشد بن عبد الله قاضياً للمظالم.
ب. ومن قوله عليه الصلاة والسلام:
1. «من أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه, ومن جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتصَّ منه».
2. روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله! لو سعرت, فقال: «إنَّ الله هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعِّر, وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحدٌ بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال». فاعتبر التسعير مظلمة؛ لأنه لو سعَّر يكون قد فعل شيئاً لا حق له به.
تعيين القضاة وعزلهم
يعين القضاة بأنواعهم ويعزلون من قبل الخليفة أو من قبل قاضي القضاة لما ثبت أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يعين القضاة بأنواعهم, وبذلك فإنَّ الخليفة هو الذي يعين القضاة بأنواعهم.
ويجوز لقاضي القضاة تعيين القضاة بأنواعهم ومن ضمنهم قاضي المظالم إذا جعل الخليفة له ذلك في عقد التقليد, ويجوز أن يقتصر عمل محكمة المظالم الرئيسة في المركز ((عاصمة الخلافة)) على النظر في المظلمة من الخليفة ووزرائه وقاضي قضاته, وأن تنظر فروع محكمة المظالم في الولايات في المظالم من الولاة والعمال وموظفي الدولة الآخرين.
وللخليفة أن يعطي محكمة المظالم المركزية ((في العاصمة)) صلاحية تعيين وعزل قضاة المظالم في محاكم المظالم في فروع الولايات التابعة لمحكمة المظالم المركزية. والخليفة هو الذي يعين ويعزل أعضاء محكمة المظالم الرئيسة ((في عاصمة الخلافة)).
هذا بشكل عام ويستثنى من ذلك إذا كان قاضي المظالم ينظر في قضية مرفوعة ضد الخليفة أو أحد وزرائه أو قاضي قضاته ((إذا كان الخليفة قد جعل له صلاحية تعيين وعزل قاضي المظالم)) وذلك لأنَّ بقاء صلاحية العزل بيد الخليفة في هذه الحالة سيؤثر في حكم قاضي المظالم, وبالتالي يحدُّ من قدرته على عزل الخليفة أو أحد أعوانه مثلاً, وتكون صلاحية العزل هذه وسيلة إلى الحرام, أي أنَّ صلاحية عزل قاضي المظالم بيد الخليفة في هذه الحالة حرام, وأما باقي الحالات فإنَّ الحكم باق على أصله أي أنَّ صلاحية عزل قاضي المظالم هي للخليفة كتوليته سواء بسواء.
صلاحيات قضاء المظالم
تملك محكمة المظالم صلاحية النظر في أية مظلمة من المظالم سواء أكانت متعلقة بأشخاص من جهاز الدولة أم متعلقة بمخالفة الخليفة لأحكام الشرع أم بمعنى نص من نصوص التشريع في الدستور والقانون وسائر الأحكام الشرعية ضمن تبني الخليفة, أم متعلقة بفرض ضريبة من الضرائب أم غير ذلك.
ولا يشترط في قضاء هذه المظالم وأمثالها مجلس قضاء, ولا دعوة المدَّعى عليه, ولا وجود مدَّع, بل لها حق النظر في المظلمة ولم يدَّع بها أحد.
هذا وإن وجود مبان ضخمة للمحاكم عامة, ولمحكمة المظالم خاصة تظهر هيبة الدولة وعزتها من المباحات أصلاً, ويصبح هذا المباح واجباً إذا لم تستطع الدولة رعاية شؤون المسلمين إلاَّ به أخذاً بالقاعدة الأصولية: (( إنَّ ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب)).
تعدُّ العقود والمعاملات والأقضية التي أبرمت قبل قيام دولة الخلافة صحيحة بين أطرافها حتى انتهاء تنفيذها قبل الخلافة, ولا ينقضها قضاء الخلافة, ولا يحركها من جديد, وكذلك لا تقبل الدعاوى حولها من جديد بعد قيام الخلافة, يستثنى من ذلك حالتان:
1. إذا كان للقضية التي أبرمت وانتهى تنفيذها أثرٌ مستمرٌ يخالف الإسلام, مثل الربا, فما بقي من الربا فهو موضوع. ومثل زواج مسلمة من ذمي يفسخ العقد, ويفرَّق بينها وبينه.
2. إذا كانت القضية تتعلق بمن آذى الإسلام والمسلمين لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة المكرمة أهدر دم بضعة نفر من المشركين كانوا يؤذون الإسلام والمسلمين في الجاهلية, فأهدر دمهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة, علماً بأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام يجب ما قبله». رواه أحمد والطبراني عن عمرو بن العاص. أي أنَّ من آذى الإسلام والمسلمين مستثنى من هذا الحديث.
من أمجاد القضاء في الإسلام
1. عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه ينصف القبطي من محمد بن عمرو بن العاص عندما ضربه وقال له: ((خذها وأنا ابن الأكرمين!)) في سباق الخيل بمصر, فاقتص منه عمر بالدرَّة, والصحابة يشهدون, وعمر يقول للقبطي: ((اضرب ابن الأكرمين!)) ثمَّ قال: ((أجلها ـ أي الدرَّة ـ على صلعة عمرو؛ فإنما ظلمك بسلطان أبيه!)) ثمَّ قال عمر قولته المشهورة: (( يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!)).
2. القاضي شريح يقضي ليهودي على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه, في درع لعلي وجدها اليهودي, ولا بينة لعلي, ولكن القاضي يكنِّي علياً, وينادي علياً باسمه فيقول: (( قف يا أبا الحسن بجوار خصمك!)) فيعترض أمير المؤمنين قائلاً: ((هذا أول الجور, أكنَّيتني وتنادي اليهودي باسمه!)) فلما رأى اليهودي وسمع وعايش هذا الموقف أسلم وقال: ((الدِّرع عندي ولا أتهم أمير المؤمنين!)).
3. قضية سمرقند المشهورة: دخل الجيش الإسلامي سمرقند عنوة دون أن يعرض القائد الأمور الثلاثة: الإسلام أو الجزية أو القتال. فذهب وفد من أهل سمرقند إلى دمشق عاصمة الخلافة في عصر بني أمية, وتظلم للخليفة عمر بن عبد العزيز, فأرسل معهم قاضياً يبحث القضية, ويحكم فيها, وبعد التحري والبحث حكم القاضي بخروج الجيش بعيداً عن أسوار المدينة بحيث لا تصلها قذائف المنجنيقات, وبعد إصدار الحكم طلب أهل سمرقند بقاء الجيش فيها, فأصرَّ القاضي على تطبيق الحكم الشرعي, خرج الجيش امتثالاً للحكم الشرعي, وعرض القائد على أهل سمرقند الإسلام, فأسلموا راغبين بعد أن رأوا عدالة الإسلام!
4. القاضي شريك بن عبد الله ينصف امرأة من أمير الكوفة موسى بن عيسى عمِّ أمير المؤمنين المهدي. كان الأمير قد اشترى حصة إخوانها من بستان في الكوفة على شط الفرات ورثوه عن أبيهم, وطلب من المرأة أن تبيعه حصتها فأبت عليه ذلك, فما كان منه إلاَّ أن هدم الجدار وضمَّ أرضها إلى أرضه, فاشتكته إلى القاضي شريك, فطلبه للمثول بين يديه أو إرسال وكيل عنه فرفض. فأرسل قائد الشرطة يتوسط له عند القاضي فسجنه, ثمَّ أرسل وجهاء الكوفة فسجنهم؛ لأنَّ في توسطهم إعاقة للعدالة, واعتداء على حقوق الضعفاء. فذهب الأمير بغلمانه إلى السجن وأخرج من فيه عنوة, فحمل القاضي متاعه وانطلق إلى بغداد ليستعفي من القضاء, فتنبَّه الأمير لذلك وأعاد قائد الشرطة والوجهاء إلى السجن, وحضر إلى مجلس القضاء, فقضى القاضي للمرأة, وأعاد الأمير الأمر كما كان, وأمر القاضي بإخراج من كان بالسجن, فأنصف المرأة وأقام العدل!
وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يعجل بقيام دولة الخلافة التي تطبق الإسلام كاملاً, وتحمله إلى الناس كافةً بالجهاد, فتقيم العدل وتنشر الإسلام في ربوع العالم, ويتحقـق قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ .... }النساء58. عجل الله قيامها وجعلنا من شهودها وجنودها الأوفياء المخلصين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو أنس جاد الله