الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط -ح3- موسى بن نصير القائد بن القائد
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، ونطل عليكم من جديد وسلسلتنا المتتابعة الأندلس الفردوس المفقود ، وسنتحدث اليوم عن قائد بارع ألا وهو موسى بن نصير :
عندما تكون عقلية المرء ونفسيته منطلقة من نفس القاعدة الفكرية ، وحين تكون هذه القاعدة أساسها اتباع اوامر الله واجتناب نواهيه ، فإن الشخصية تكون متميزة ، سلوك صاحبها يدل على رقي فكره الذي يحمله ، وهكذا كان موسى بن نصير ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبت أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الإفريقي، وهو من التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة.
أما أبوه فهو نصير ذلك الغلام النصراني الذي أسره خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة عين التمر، وكان قبلها يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في الكنيسة، وفي الأسر عرف الإسلام وأعجب به، فأسلم وهو ابن ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاما، وكان معه وعلى شاكلته سيرين أبو محمد بن سيرين التابعي المشهور.
وهنا وقفة لطيفة نشير إليها في معرض هذا الحديث، وهي تلك الثمرة التي هي من ثمار ومن تبعات الفتوحات الإسلامية، ومصداقا لقوله تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ]{فصِّلت:33} . تلك الثمرة التي منّ الله بها على نُصير وعلى ولده من بعده، ومن ثم على المسلمين أجمعين.
أما نُصير، فلما أسلم ازداد حبه للإسلام، فأخذ ينهل منه ويتعلم حتى أصبح عالما، وفي ذات الوقت كان من الفرسان الأشداء والمجاهدين الأكفاء، وظل يترقى من حال إلى حال حتى صار في زمن الدولة الأموية قائد جيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وظل في هذه القيادة سنوات طويلة،
وفي هذا الوقت كان ابنه موسى يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الخلفاء، فنشأ موسى بن نصير على حب الجهاد في سبيل الله ونشر الدين، حتى أصبح شابا يافعا يتقلد الرتب والمناصب، فتقلد قيادة جيوش الأمويين في مصر في عهد عبد العزيز بن مروان الأموي، ثم بعد ذلك واليا على إفريقيا وذلك في سنة خمس وثمانين من الهجرة.
ومنذ ذلك الحين أصبح كل همه البحثعن سبب أرتداد بعض الناس بين الحين والآخر عن الإسلام بعد أن يكونوا قد دخلوا فيه؟! بل كيف يعودون ويقاتلون المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟! ومن هنا فقد أراد أن يجد حلا لهذه الأمور، ويعمل على تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم الذي كان قد فتحه عقبة بن نافع رحمه الله، والذي اغتيل في القيروان من هذا الإقليم على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى.
وفي بحثه عن معرفة أسباب هذه الردة المتكررة وجد موسى بن نصير خطأين وقع فيهما من سبقوه.
الخطأ الأول: وهو أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحا سريعا، ويتوغلون داخلها طمعا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن يحموا ظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها، ومن ثم كانت النتيجة أن البربر فقهوا هذا الأمر واستغلوه جيدا، فانقلبوا على عقبة وأحاطوا به وقتلوه،
وفي تغلبه على هذا الأمر بدأ موسى بن نصير يفتح البلاد في أناة شديدة، وفي هدوء وحذر كحذر خالد بن الوليد، فبدأ يتقدم خطوة ثم يُأَمّن ظهره، ثم خطوة فيأمّن ظهره، حتى أتم فتح هذا الإقليم في سبع سنين أو في ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورا معدودات.
أما الخطأ الثاني فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلموا الإسلام جيدا ولم يعرفوه حق المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلموهم الإسلام ويعرفونهم به، فأقبل السكان على الإسلام وأحبوه ودخلوا فيه أفواجا، حتى أصبح البربر الذين يحاربون المسلمين أصبحوا جند الإسلام وأهله، وهكذا عمل موسى على تثبيت دعائم الإسلام وتوطيده في الشمال الإفريقي، وأتم فتح الإقليم بكامله عدا مدينة واحدة وهي مدينة سبتة (مدينة سبتة الآن من مدن المغرب العربي التي تحتلها إسبانيا، وتقع على مضيق جبل طارق)، فقد فتح ميناء طنجة ولم يفتح ميناء سبتة المماثل له في الأهمية، وللموقع الاستراتيجي لمدينة سبتة ولّى موسى بن نصير على ميناء طنجة أمهر قواده طارق بن زياد رحمه الله، وطارق بن زياد لم يكن عربيا، بل كان من قبائل البربر التي استوطنت الشمال الإفريقي والتي كان يميزها اللون الأبيض والعيون الزرقاء والشعر الأشقر، بعكس ما يُتخيل من كونهم يشبهون الزنوج، حتى إن البعض ينسبونهم إلى أصول أوروبية، وقد حمل طارق بن زياد القائد الفذ هذه الصفات الشكلية، إضافة إلى ضخامته الجسمية ووسامته الشديدة، تلك التي لم تمنعه عن الانشغال بحب الجهاد في سبيل الله، ونشر هذا الدين.
لم تكن فكرة فتح الأندلس وليدة أيام موسى بن نصير، بل إنها فكرة قديمة جدا، فمنذ أن استعصت القسطنطينية على الفتح زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه - وكانت الحملات الإسلامية قد وصلت إليها - قال قولته: إن القسطنطينية إنما تفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر.
فكان عثمان رضي الله عنه يعني أن المسلمين سيفتحون الأندلس أولا (غرب أوروبا) ثم يتوجهون منها صوب القسطنطينية (شرق أوروبا) فيفتحونها من قِبَل الغرب لا من قِبَل الشرق، من جهة البحر الأسود في ذلك الوقت،
لكن المسلمين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المنطقة من المغرب العربي إلا في أيام بني أمية وفي فترة حكم موسى بن نصير على الشمال الإفريقي.
أخذ موسى بن نصير الفكرة وهيأ نفسه لبلاد الأندلس تلك التي تلي الشمال الإفريقي مباشرة ، ولكن واجهته بعض العقبات ، فما هي هذه العقبات وكيف استطاع موسى بن النصير التغلب عليها ، هذا ما سنراه في الحلقة القادمة بإذنه تعالى ، فإلى ذلك الحين نترككم في رعاية الله وحفظه وأمنه ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته