- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
هل يتدخل الله سبحانه وتعالى في سير أحداث العالم وأعمال الناس والعلاقات بينهم؟
مع انتشار أخبار الحرائق في لوس أنجلوس بكاليفورنيا في الولايات المتحدة في 7 كانون الثاني 2025، وتمددها بشكل واسع وقوي، والتهامها مساحات شاسعة من الأراضي والمنشآت بشكل لفت أنظار العالم، انتشرت آراء بأن هذه الحرائق عقوبة إلهية لأمريكا بسبب مجازرها ووحشيتها وظلمها في العالم، وبخاصةٍ في غزة حيث قارن كثيرون بين ما خلفته هذه الحرائق وأوضاع غزة وأهلها. وتجددت أسئلة ونقاشات حول هذا الأمر: هل هذه الحرائق فعلاً عقوبة وانتقام من الله؟ أم أنها أحداث تجري وفقَ خصائص الأشياء والعلاقات ووفق السنن الكونية في الأسباب والمسببات؟
هذا موضوع قديم ويتجدد باستمرار، وموجود في مختلف الثقافات، وليس خاصاً بدين معين أو فئات من الناس. وله ارتباط بموضوع الكرامات، أي بتدخل الله سبحانه وتعالى في سير الأحداث وأفعال الناس إنقاذاً وإعانة، أو تأييداً ونصراً وتوفيقاً لبعضهم في الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم، أو انتقاماً وتعذيباً لأعدائهم وانتقاماً منهم بسبب فجورهم وظلمهم. وينطبق بحث هذا الأمر على الكرامات سواء أكانت بمعنى جريان الأحداث وَفق الأسباب والمسببات من غير خرق للسنن، أو بإجراء أحداث خارقة للسنن.
وبعد تتبع تفاصيل هذه النقاشات تبيّن أنَّ من الباحثين من يجعل فكرة تدخل الله سبحانه وتعالى في سير الأحداث في الدنيا هي من قبيل خرق السنن، ويضيف إلى ذلك أنه لا وجود للخوارق بعد بعثة النبي ﷺ. وعليه، فإن هذا الرأي ينفي فكرة تدخل الله، ويرى أن الأحداث تسير فقط وفق السنن والقوانين أو الخصائص التي جعلها الله في مخلوقاته. وهو بالتالي ينفي وجود الكرامات نهائياً، فينفي تبعاً لذلك أي ربط لحرائق لوس أنجلوس بما جرى في غزة أو غيرها. وتبيّن أيضاً وجودُ تقبُّلٍ واسع عند الناس لفكرة ربط حرائق لوس أنجلوس بالمجازر في غزة، حيث عدّوها شعورياً وبغير أيّ دليل انتقاماً إلهياً.
وقبل بحث الربط بين حرائق لوس أنجلوس والمجازر في غزة ينبغي بحث مسائل: هل يمكن حصول خوارق لغير الأنبياء، أو كرامات بمعنى خرق سنن الكون؟ وهل يتدخل الله سبحانه وتعالى في سير الأحداث والعلاقات بين الناس كالحروب مثلاً، وكالمكر والمكائد لإيجاد وقائع أو نتائج معينة، سواء بإحداث خرقٍ للسنن أو بغير خرق؟ أم أنه سبحانه خلق السماوات والأرض وما فيهن، وقدَّر في كل شيءٍ خصائصه، والكونُ بما فيه جارٍ بعد ذلك وَفق تلك الخصائص بغير تدخل منه سبحانه وتعالى؟
لا جدال بأنّ الخوارق ليست بمقدور أحد سوى الله سبحانه وتعالى. وقد حصلت قطعاً مع الأنبياء ومع غير أنبياء قبل بعثة النبي محمد ﷺ. والله سبحانه وتعالى يفعلها بإرادته إذا شاء. والقول بأنه لا يفعلها بعد ذلك، أي بعد النبي محمد، يحتاج لدليل من الوحي، ولا دليل. ولذلك لا يمكن نفي حصول خوارق، وأمرها لله في كل حين، يفعلها إذا شاء أن يفعلها، ولا يفعلها إذا شاء أن لا يفعلها. والأمر ينطبق على الكرامات بأيِّ معنى كانت، يعطيها سبحانه أو يُكرم بها أيَّ أحد أو جماعة كما يشاء. وعلى ذلك لا يمكن نفي حصول الكرامات أو الخوارق في أي زمن، لا عقلاً ولا شرعاً، لأن الأمر لله سبحانه وفي قدرته وبحسب مشيئته.
ولكن، هل نأخذ أو نصدق أي قول بخارقة أو كرامة لأي أحد أو جهة، بناءً على أن الأمر مقدورٌ لله سبحانه، وعلى أنّ ظاهر تلك الجهة الصلاح والتقوى؟ والجواب أن هذا لا يصح، بل هو طريق انحطاط وضلال. ولا يصح أن يُصدَّق أي ادعاء يتعارض مع خصائص الأشياء وسنن الأسباب والمسببات إلا بأن يثبت ثبوتاً قطعياً، لأنه يتعارض مع السنن المستقرأة والثابتة قطعاً. فإذا ثبتت دعوى أي خارقة ثبوتاً قطعياً فحينئذٍ يجب تصديقها. ولهذا لم يرسل سبحانه رسولاً إلى أي قوم ليؤمنوا به إلا ومعه دليلٌ قطعيٌ على ذلك، وكان دليله خرقاً للسنن، أي فعلاً ليس بمقدور أحد إلا الله سبحانه. وعلى ذلك، لا يمكن نفي وجود خوارق أو كرامات بإذن الله سبحانه، ولا نفي أنه يفعلها سبحانه إذا شاء في أي زمن. ولكن لا يصح تصديق أي زعم بحصولها إلا بدليل قطعي.
وعلى ذلك أيضاً، لا يصح القول بأن الكون بما فيه من مخلوقات يجري فقط وفق ما جعل الله فيه من خصائص عندما خلقه، وأنه سبحانه لا يتدخل في ذلك أبداً. كما أنه لا يثبت أيُّ زعم عن أي حدث بعينه في العالم، بأنه حصل بتدخل من الله سبحانه لأن هذا يحتاج لدليلٍ من الوحي، والوحي انقطع، فلا يثبت هكذا زعم. وعليه، لا يمكن القول بأن حرائق كاليفورنيا عقوبة من الله، أو انتقامٌ لأجل غزةَ أو غيرها، كما أنه لا يمكن نفي ذلك، والأمر في علم الله وحده. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المصائب والابتلاءات أو أيَّ عذاب في الدنيا، لا يحصل فقط عقوبةً من الله أو انتقاماً، بل يحصل ابتلاءً أيضاً واختباراً، وحطاً للذنوب وغيرَ ذلك، وهو يحصل للمؤمنين والكافرين. قال ﷺ: «عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ» رواه مسلم.
وبذلك تثبت إمكانية حصول كرامات مما هي خرق للسنن في أي زمن. ويتبيّن أيضاً خطأ نفي أن الله سبحانه وتعالى يتدخل في سير الأحداث بين الناس في الدنيا، لأنه لا دليل على هذا النفي.
بل إن القرآن الكريم يبين في نصوص وقصص كثيرة وقاطعة، أن الله سبحانه وتعالى يتدخل في أفعال الناس وسير الأحداث في الدنيا، فينصر ويخذل ويستجيب الدعاء ويهدي السُبُل في الدنيا، ويفرج الكرب ويهيئ المخرج لمن يتقيه... والعجب كل العجب من مسلمين يتساءلون بشأن هذا الأمر أو يترددون فيه، بناءً على قواعد لديهم بأن كل حركة أو تغيير في الكون وعلاقات الناس لا تحصل إلا وفق قوانين الأسباب والمسببات المادية التي قدرها الله في كل شيءٍ خلقه. وفيما يلي بعض هذه الأدلة:
قال سبحانه وتعالى في آيات كثيرة إنه يكشف الضر بعد دعاء الناس إياه، وأنه يأخذهم بالشدائد ليُقبِلوا عليه، ومن ذلك: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [سورة الأنعام: 41، 42]. وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، [سورة الأعراف: 96- 99]. وقال سبحانه: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، [سورة الأنفال: 9- 13]. وقال أيضاً: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ [سورة الأنفال: 17، 18]. وقال: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾، [سورة الطلاق: 2، 3]. وقال: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾، [سورة التوبة: 26]. وقال: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾، [التوبة: 52]. وقال: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾، [سورة التوبة: 101]. وقال: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾، [سورة النحل: 41]. وقال: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، [سورة النحل: 45- 47]. وقال: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾، [سورة الأنبياء: 41]. وقال: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾، [سورة الحج: 38]. وقال: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾، [سورة القصص: 81]. وقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، [العنكبوت: 69]. وقال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾، [سورة غافر: 51]. وغيرها كثير مما يطول ذكره.
وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الله سبحانه وتعالى يتدخل في الأحداث ومجريات العلاقات والصراعات وإن بدا أنها جارية وفق السنن والأسباب المادية. إلا أنه ينبغي التنبيه إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف عن أي فعل أو حدث إن كان بتدخل خاص من الله وتسيير للأحداث وفقَ ما دلت عليه الآيات التي تقدم ذكرها، أو أنه بمحض الخصائص والقوانين التي أودعها الله في الأشياء. وعليه، فإن أحداثاً مثل حرائق كاليفورنيا أو غيرها من الكوارث، لا يمكن للإنسان أن يحكم عليها بأنها غضبٌ من الله وانتقام أو غير ذلك.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الدكتور محمود عبد الهادي