- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الفلاح الحقيقي: رحلة تبدأ في رمضان
(مترجم)
مع دخول شهر رمضان إلى حياتنا كل عام، فإنه يحمل معه تحولاً؛ لحظة من الوضوح حيث نبتعد عن روتيننا اليومي ونطرح على أنفسنا أسئلة أعمق. إنه شهر نعيد فيه تقييم علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، وأولوياتنا، واتجاه حياتنا. في هذا الوقت المقدس، نبدأ في التفكير: ماذا يعني الفلاح حقاً؟
لفترة وجيزة، يبدو أن ملهيات الدنيا تتلاشى. نصوم، ونزيد من العبادة، ونتصدق، ونطلب المغفرة. فجأة، نشعر أن الأشياء التي استهلكت وقتنا ذات يوم - المكانة المجتمعية، وطموحات العمل، والممتلكات المادية - أقل أهمية. بدلاً من ذلك، نشعر بإحساس عميق بالإنجاز في عبادتنا، وفي ارتباطنا بالقرآن، وفي لحظات الإخلاص مع الله سبحانه وتعالى.
ولكن بمجرد انتهاء شهر رمضان، يبدأ الاختبار. يبدأ الهيكل والانضباط الذي بنيناه في التراخي، وسرعان ما تستعيد الدنيا قبضتها علينا. لذلك يصبح السؤال الحقيقي: كيف نتمسك بالعقلية التي يغرسها رمضان فينا؟ كيف نحافظ على التركيز على الفلاح الحقيقي - الفلاح كما حدده الإسلام - ليس فقط خلال شهر رمضان، ولكن طوال حياتنا؟
ما هو الفلاح الحقيقي؟
يعلمنا العالم من حولنا أن الفلاح يقاس بما نمتلكه، أو مقدار ما نكسبه، أو الألقاب التي نحققها، أو الثناء الذي نتلقاه من الآخرين. لكن الله سبحانه وتعالى يعرف الفلاح بشكل مختلف تماماً: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.
هذه الآية تجبرنا على إعادة النظر في كل ما تم تدريبنا على تصديقه بشأن الفلاح. إذا كانت كل جهودنا تركز على الدنيا - حياتنا المهنية، ثروتنا، سمعتنا - ولكنها لا تقربنا من الجنة، فإنها في النهاية لا معنى لها.
فالفوز الحقيقي هو النجاة من النار ودخول الجنة.
خلال شهر رمضان، تصبح هذه الحقيقة أكثر وضوحاً. نختبر بشكل مباشر أن الرضا لا يأتي من تراكم الثروة أو المكانة المجتمعية، بل من التقرب من الله. الاختبار الحقيقي هو ما إذا كنا نسمح لهذا الفهم بإعادة تشكيل نهجنا بالكامل في الحياة بعد انتهاء شهر رمضان.
كيف نحقق الفلاح كمسلمين؟
إذا كان الفلاح الحقيقي هو نوال رضا الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يكون مفهوماً نحدده بشروطنا الخاصة. يجب أن يكون متجذراً في طاعة الله في كل جانب من جوانب الحياة - عبادتنا، حياتنا الأسرية، معاملاتنا المالية، سلوكنا المجتمعي، ودورنا في الأمة.
يحصر كثير من الناس فكرة العبادة في مجرد أعمال العبادة الفردية - الصلاة والصيام والذكر - متناسين أن العبودية الحقيقية لله أوسع من ذلك بكثير. إن الفلاح يكمن في العيش وفقاً لما أمر به الله، وليس فقط في الممارسات الشخصية، بل في كيفية تعاملنا مع العالم من حولنا. ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾.
تذكرنا هذه الآية أن الفلاح ليس مجرد اعتقاد بل هو عمل. إنه يتعلق بالعيش طوال حياتنا وفقاً لأحكام الله، وتنفيذ أوامره في علاقاتنا، وعملنا، ومعاملاتنا المالية، وفي مسؤولياتنا تجاه المجتمع.
قال النبي محمد ﷺ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ» (رواه البيهقي)
يؤكد هذا الحديث أن العبادة لا تقتصر على الصلاة والصيام، بل تشمل أداء جميع الواجبات في الحياة - العمل، والأسرة، وخدمة الأمة - بإخلاص وإتقان. الفلاح هو أن يتماشى كل قرار مع ما يرضي الله، سواء أكان في الزواج، أو تربية الأطفال، أو كسب الثروة، أو فرض العدل في المجتمع.
الفلاح الحقيقي لا يوجد في حالة مؤقتة من الروحانية المتزايدة، بل يوجد في الخضوع لأوامر الله في كل جزء من الحياة، في كل يوم من أيام السنة.
غالباً ما يعزز شهر رمضان الروابط العائلية؛ نفطر معاً، نصلي معاً، يشجع بعضنا بعضاً على الأعمال الصالحة، ولكن بمجرد انتهاء الشهر، نعود إلى روتيننا المعتاد، وتصبح هذه اللحظات نادرة.
الفلاح لا يتعلق فقط بتأمين الآخرة؛ بل يشمل توجيه أسرنا نحو الصلاح. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.
الفلاح الحقيقي يوجد في تربية الأسر التي تعطي الأولوية للإسلام، والتي تركز حياتها حول طلب رضا الله، والتي تدرك أن هذه الدنيا مؤقتة.
يقضي الكثير من الناس حياتهم في مطاردة الوظائف، معتقدين أن الاستقرار المالي يساوي الفلاح. لكن رمضان يذكرنا بشيء أعمق، وهو أن الثروة لا تكون ذات قيمة إلا إذا تم استخدامها في سبيل الله.
قال النبي ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِعَبْدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ». (رواه أحمد وابن ماجه)
الفلاح ليس في جمع المال، بل في كسبه وإنفاقه فيما يرضي الله. إذا كان نجاحنا المالي يأتي على حساب المساس بقيمنا، أو إهمال عبادتنا، أو إيذاء الآخرين، فهذا ليس فلاحا، بل هو إلهاء.
إن الإسلام لا يشجع على تعريف فردي للفلاح، ففلاح المؤمن مرتبط بفلاح الأمة. ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾.
إن من يهتم بنجاحه الشخصي فقط ويتجاهل حالة الأمة قد أساء فهم الإسلام. إن الفلاح الحقيقي يعني الدفاع عن العدالة وإحياء الدين والعمل على عودة الإسلام كأسلوب حياة.
إن الاختبار الحقيقي للفلاح ليس رمضان نفسه بل ما يحدث بعده. كثير منا يعودون إلى الروتين القديم، ويفقدون التركيز والوضوح الذي جلبه لنا رمضان. ولكن إذا فهمنا الفلاح حقاً على أنه طلب رضا الله، فإن رمضان سيكون نقطة البداية وليس الذروة.
قال النبي ﷺ: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ» (رواه النسائي)
إن الفلاح لا يوجد في لحظات النشوة الروحية، بل في الالتزام بالإسلام مدى الحياة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنحنا الفلاح الحقيقي، ليس فقط في رمضان، ولكن في كل لحظة تليه. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى، آمين.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
ياسمين مالك
عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير