- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الطّريق إلى الفلاح
لسائل أن يتساءل: كيف لأمّة عظيمة عريقة كأمّة الإسلام أن تصبح في ذيل الأمم؟ كيف لأمّة حباها الله بأعظم ما نزّل من تشريع أن تنحدر وتسقط في ظلمات الجهل فيقودها أعداؤها لتدخل وراءهم، مسلوبة الإرادة، جحر الضّبّ وتتّبٍعَ أهواءَهم؟!
لا يمكن بحال أن تتحّول هذه الأمّة من القوّة إلى الضّعف إلّا إذا حادت عن طريق الحقّ وابتعدت عمّا رضيه الله لها وتغيّرت بوصلتها وصارت تحتكم إلى غير ما أنزل الله. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كنّا أذلّ أمّة فأعزّنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله".
وحين نرى ما آل إليه حالها لا يسع كلّ فرد منّا إلّا أن يسعى جاهدا ليغيّره ويرضي ربّه فيعمل على أن يعيدها إلى ما رسمه الله لها من طريق وما ارتضاه لها من سبيل حتّى تعود خير أمّة أخرجت للنّاس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. قال الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا بما صلح به أوّلها".
فأن نطيع الله معناه أن نلتزم بكلّ أحكامه طاعة تامّة فلا نسقط حكما واحدا من أحكامه. نطبّقها في حياتنا دون نقصان ولا تبديل. نطبّقها تطبيقا فرديّا وجماعيّا ومجتمعيّا بكلّ ما في هذا المجتمع من أفراد وأفكار ومشاعر وأنظمة حتّى يكون مجتمعا إسلاميّا تسوده قوانين الله وأحكامه. وهذا لن يكون إلّا في ظلّ دولة الخلافة التي يجب على المسلمين جميعا العمل لإعادتها حتّى تنفّذ فيهم ما رضيه الله لهم. ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾.
فما تعيشه الأمّة اليوم من غربة، بعد أن هدمت دولة الخلافة، وما تعيشه من ضعف وضياع وتشتّت، بعد أن صاروا وليمة على موائد اللّئام، لا بدّ أن يعالج... ولا بدّ أن تبرأ أمّة الإسلام من هذا الدّاء الذي أنهك جسدها حتّى تتبوّأ مكانتها الحقيقيّة وتقود الأمم نحو الخير والصّلاح والفلاح.
هذا العمل الجليل، ونقصد حمل هذه الدّعوة المباركة لاستئناف الحياة بالإسلام، يتطلّب العزيمة والصّبر والثّبات وتحمّل التّبعات. هذا العمل يستدعي من القائمين عليه حسن الظّنّ بالله والتّوكّل عليه والثّقة بوعده مهما اختلفت الأحوال وقست الظّروف فالرّغبة القصوى في بلوغ مرتبة الفلاح والخلود في الجنّات تدفع كلّ مسلم مخلص إلى التّنافس في طاعة الله سبحانه ورسوله ﷺ وتحصيل الأجور والحسنات.
قال أبو جعفر في تفسيره لـ ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾: يعني جلّ ثناؤه بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ قد أدرك الذين صدّقوا الله ورسوله محمداً ﷺ، وأقرّوا بما جاءهم به من عند الله، وعملوا بما دعاهم إليه... الخلود في جنَّات ربّهم وفازوا بطلباتهم لديه.
هذا هو الفلاح الذي يفوز به كلّ مسلم أطاع ربّه في الأحكام التي أنزلها لعباده وصبر وثبت وضحّى بكلّ ما لديه، لا يبدّل تبديلا ولا يحيد عن السّبيل الذي رسمه الله لعباده الصّالحين... إنّه النّجاح الذي تهفو إليه كلّ نفس مؤمنة لتلقى ربّها وهو راض عنها فتحيا في هذه الدّنيا تعبد الله وحده وتعمل بما أمر وتنتهي عمّا نهى آملة الفوز برضوان الله والخلود في جنّته.
إنّ العيش في هذه الدّنيا الفانية يفرض على المرء خوض معارك عظيمة ضدّ أعداء كثر: بدءا بالشّيطان الذي تحدّى الله جهرة وقال ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾، مرورا بالنّفس الأمّارة بالسّوء والتي تدفع بالمرء إلى المهالك واتّباع الشّهوات، وصولا إلى إخوة الشّيطان من بني البشر الذين ينشرون الفساد في الأرض فيتجبّرون ويسعون إلى نشر الظّلم والظّلمات.
لقد أكّد الله سبحانه في كتابه الكريم أنّ الدّنيا دار ابتلاء ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ فعلى المسلم أن يعي ذلك وعليه أن يحيا هذه الحياة كما يريد الله له أن يحياها لا كما يريد هو أن يحياها. عليه أن يعيشها في سرّائها وضرّائها ولا همّ له سوى أن يكون الله راضياً عنه في كلّ حال يكون فيه وعليه.
قال الله سبحانه وتعالى في من صدقه من المؤمنين: ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ هذه الفئة التي صدقت الله منها من قضى نحبه ولم ينل أيّ جزاء في هذه الدّنيا، ولكن نحسبه عند الله من الفائزين المفلحين بإذن الله... ومنها من ينتظر رغم ما يلقى من تضييق وتنكيل وتعذيب فتراه صامدا ثابتا يرجو من الله الرّضوان ويأمل في الجزاء والعطاء.
تعمل هذه الفئة من المؤمنين من أجل الدّار الباقية لا يعنيها ما في هذه الدّنيا الفانية من جاه ومال ومنصب ومكانة. وحتّى إن كتب الله لها التّمكين في هذه الدّنيا ونصرها على أعدائه وأعدائها فإنّ الفلاح كلّ الفلاح هو الخروج من هذه الفانية وقد تعلّق القلب بالباقية واستبشرت النّفس بكرم ربّها وعطائه وعفوه فتلقى منه القبول والغفران فيرزقها جنّته وتفوز الفوز العظيم، فللّه درّ أولئك الرّجال الذين عرفوا لماذا خُلِقوا، ومن أجل أيّ شيء وُجِدوا.
قال عليه الصّلاة والسّلام: «لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ»، هذه هي حقيقة الدنيا؛ حقيرة هينة لا تساوي شيئا، وهنيئا لمن قدّرها حقّ قدرها واعتبرها دار امتحان يجتازه حذرا، آملا في رحمة الله وعفوه، يسأله أن يكون من عباده المفلحين.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلاميّ المركزيّ لحزب التّحرير
زينة الصّامت