سلسلة: المسلمة في مرايا الإعلام 1- ذكريات البعض وقصة فتاة تدعى سارة بارتمان
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
انتشرت منذ التسعينات من القرن المنصرم كتابات لنساء وُلِدْنَ في أسر مسلمة يتحدثن فيها عن تجاربهن المريرة مع الحياة في مجتمع مسلم وقصة نجاحهن في الهروب من ذلك المجتمع والتغلب على قيمه. الرابط المشترك بين هذه الكتابات هي محاولة إثبات أن المجتمع المسلم مجتمع تسود فيه الميسوجينية (كراهية المرأة) والتعبير عن الصور المختلفة التي تتجلى فيها هذه الكراهية. تحاول هذه الكتابات أن تربط بين المسلمين (الإسلام) والميسوجينية بالرغم من أن التعبير نفسه مستمد من اليونانية ووضع ليعبر عن أنماط أدبية وفكرية يونانية هيمنت عليها كراهية المرأة واحتقار أي إنسان مختلف. لعل اللافت أيضاً أن هذه الكتابات التي تسرد قصص المسلمات "المقهورات!" تأخذ طابع كتب المذكرات الشخصية وتصحبها حملة إعلامية ترويجية منظمة ومبنية على صورة قاتمة للمسلمة التي تروي كيف أنقذها الغرب من براثن حضارة ظالمة وثقافة مجهولة وتجسد صراع الكاتبة الأسطوري ضد الحجاب أو الخفاض (ختان الإناث) أو زواج القاصرات، وغيرها من القضايا المتكررة.
اتُخذت فرنسا كمكان لتسويق وإطلاق هذا النوع من المذكرات وأصبح لها رواج خاص في المجتمع الفرنسي، ولم يأتِ هذا الأمر كمفاجأة في إطار الإسلامافوبيا الفرنسية والعداء للحجاب وكل رموز الإسلام، ساند الفرنسيون هذه الكتابات، ولعل هذا الترويج يعد بمثابة ردة فعل لأزمة داخلية بعد أن انتقل الصراع مع أبناء المستعمرات السابقة من شمال أفريقيا إلى فرنسا نفسها في ما يسمى بالضواحي "banlieues" ولفظ الجيل الثاني من المهاجرين قيم فرنسا العليا بل وأقبل الفرنسيون على اعتناق الإسلام، وكلما ازداد الإقبال على الإسلام ازدادت الهجمة ضد قيمه وأحكامه. ولزيادة التشويق ولإضفاء قالب شعبوي على هذه الكتابات فإنها لم تخلُ من وصف إباحي وأجواء مبتذلة لها رواج في المجتمعات الغربية. درست ليلى أبو لغد أستاذة علم الإنسان في جامعة كولومبيا هذه الكتابات وسردت ما وجدته من تناقضات وافتراءات في تلك الكتابات الرديئة أدبيا وعرضها للمرأة في صورة مبتذلة من أجل تحقيق ربح مادي. كما ذكرت أن معظم هذه المذكرات التي حظيت بانتشار واسع ونجاح تجاري مذهل شارك فيها كاتب/كاتبة غربية ومكتوبة بلغة وأسلوب لا ينتميان للبيئة المتحدَّث عنها وتخاطب العقلية الغربية وتستند لثقافته.
باختصار هذه المذكرات لم تنشر للاستهلاك في بلاد المسلمين؛ فلغة السرد التي يغلب عليها التهويل والتأليب على الإسلام، والكلام الذي تمجُّه الأسماعُ، والحشو لقصص الفجر والفواحش بشكل يذكّر القارئ برداءة وقبح ألف ليلة وليلة وقصص الصعاليك لا يتقبلها أي مسلم. ولم يكن المسلم محلّ اهتمام الآلة الدعائية الغربية، بل إن المواطن الغربي هو المقصود بالإقناع ليصدق أن تحرير المرأة ونشر الحماية لها غاية نبيلة لا بد أن يضحي من أجلها الإنسان المتحضر، وأصبحت الخلطة السحرية لترويج أي كتاب في الغرب يتمثل في صورة فتاة مسلمة مع تنويه بأن هذا الكتاب يحكي مأساة وصراع فتاة حاربت الموروث وتحدّت القوالب الجامدة ورفضت قهر النساء وتشبثت بطوق النجاة والقيم الليبرالية.. فأصبحت بذلك قصاقيص من حياة ليلى أو ندى أو فاطمة غلافًا مخمليًّا لتبرير غزو البلاد ولقدح الحضارة الإسلامية وواجهة لصراع حضاري تواري الخصم عن المواجهة فيه.
ارتبطت فترة الاستعمار بالاستشراق وهوس الأخير بالمرأة المسلمة، فقد صورها المستشرق بصورة هي أبعد ما تكون عن واقع هذه المرأة البعيدة عن أنظاره. فسرد المستشرقون القصص عن ذوات الخدور وتداول الصور الزيتية التي روج لها وزعم أنها للحرملك العثماني، ولم يأبه بتشكيك الأكاديميين الغربيين أو تكذيب الكاتبات الغربيات اللواتي تسنى لهن دخول الحرملك. لم يحلم المستشرق بسماع صوت المرأة المسلمة وهي في حياتها الخاصة، ناهيك عن رؤيتها، فإذا به يترك العنان لمخيلته المريضة ويتخذ من هذا الموضوع أداة لمحاولة النيل من الإسلام وأهله بدلاً من مقارعة الفكر بالفكر وتفنيد حجة الخصم وإقامة البرهان عليه.
لعل هذه المذكرات الحاقدة التي تهدف لتشويه الإسلام وهذا الطرح المليء بالإثارة يستهويان الباحثين عن سبب للطعن في الإسلام، وينطليان على المخدوعين المغرر بهم من الذين شغلهم الحقد على الإسلام عن التمييز والإدراك الصحيح؛ فتراهم يتوجهون نحو الضمير الغربي لطرح قضية المرأة والبحث عن الخلاص من صور الظلم والقهر؛ سواء أكانت هذه مظالمَ شرعيةً أم افتراءاتٍ وتدليسًا منسجمًا مع لغة الاستشراق وأهدافه؟
يظل التساؤل الملحّ في هذه القضية هو: هل يحق للغرب أن يعتلي هذه المرتبة ويدعي السمو الأخلاقي؟ وهل هو أهلٌ لأن تتقرب منه الناشطات من بني جلدتنا وتنصبنه كَحَكَم (بغض النظر عن القضية المطروحة)؟ وللإجابة على هذا السؤال نستحضر قصة حياة امرأة أفريقية تدعى سارة بارتمان.. وما أدراك مَنْ هي سارة بارتمان؟
قليلون هم الذين سمعوا بقصة حياة امرأة تدعى (سارتجي) سارة بارتمان (1789 - 1815) (لعل هذا اسمها أو اسم عرّفها به المستعمر الهولندي)، عرفت أيضاً باسم "زهرة الهوتنتوت"؛ والهوتنتوت اسم أطلقه الهولنديون على قبيلة "الخوي خوي" بسبب مخارج الحروف عندهم. ولدت سارة لأسرة من قبائل "الخوي خوي" الأفريقية التي تستوطن أقصى جنوب القارة الأفريقية، تتميز بملامح جسدية معينة وسمات جينية تعطي المرأة شكلاً مختلفاً. عملت سارة كخادمة مملوكة لفلاحين هولنديين في موطنها جنوب أفريقيا، ورآها هناك جراح زائر من بريطانيا يدعى ألكساندر دنلوب، فانتبه لغرابة حجمها وشكلها (كانت مختلفة عن شكل نساء بلده ولكنه جسدها الخازن للدهون عادي جداً بين نساء "الخوي خوي" وبعض القبائل الأفريقية بل إنها تحمل مقاييس الجمال بين قومها)، فعرض عليها أن تذهب معه إلى لندن لإجراء بعض الأبحاث على شكلها الغريب ووعدها بالشهرة والثراء. ذهبت للندن في 1810 وهي في الواحدة والعشرين فإذا بها تعرض شبه عارية في سيرك "بيكدييلي" الشهير في قلب العاصمة البريطانية بجوار الحيوانات المفترسة تحت إشراف مدرب يلقنها حركات تتقمص بها حيوانات الغاب، وكان يُسمح للزوار بلمس جسدها "الغريب" أو وخزها بعصاة مقابل زيادة في السعر. لم ير المجتمع غضاضة في ذلك، بل إن الإعلانات عن عرض هذا القادم القبيح الغريب من أفريقيا ملأت الشوارع وأثارت فضول الناس في العاصمة البريطانية.
بعد أربع سنوات من عملها في دور العرض وتعرّضها لصنوف الذل والهوان نُقلت إلى باريس بعد أن اشتراها رجل فرنسي لتعرض تحت إشراف مدرب الحيوانات المفترسة. وفي أثناء هذه المدة تم عرضها للجراحين الفرنسيين وأبرزهم عالم علم الحيوان الشهير جورج كوفييه، عرضت أمام لجان علمية ورسمت لها لوحات علمية "عارية" باسم العلم وتقدمه ورقيّه! أصبحت الفتاة الأفريقية محط أنظار الجميع وتحت تصرفهم؛ تارة لإرضاء غرورهم العلمي وتارة أخرى للهو والسخرية ومآرب أخرى. أذاقوا الفتاة ما هو أسوأ من العبودية ولم يكتفوا بعرض جسدها المكلوم فقط بل استغلوها في البغاء حتى توفيت مريضة وحيدة غريبة مهانة ومحطمة.
لم يكرم الفرنسيون جسد سارة حتى بعد الوفاة، بل تم تشريح الجثة من قبل كوفييه الذي انتزع بعض الأعضاء ليجري أبحاثًا ويستنتج أنها أقرب لقرد الرباح أو البابون (من فصيلة سعادين العالم القديم). عرض الفرنسيون رفات سارة في متحف في باريس يدعى متحف الإنسان، وقام بعض علماء التاريخ الطبيعي العنصريين بتقطيع أطرافها، وحفظوا مخها وأعضاء حساسة من جسدها داخل صناديق زجاجية وعرضوها على الملأ في متحف الإنسان (ميوزي دو لوم (حتى 1974، واستعادت جنوب أفريقيا رفاتها عام 2002 وأقامت حفل تأبين لتعيد لسارة كرامتها ولكن أي حفل يصلح ما حدث؟! قبحهم الله.
من يقرأ هذه القصة وتفاصيلها المؤلمة يشعر بأن هذا ضرب من الخيال، ولكن الحقيقة أن هذه الحادثة لم تكن استثناءً شاذًاً، بل إن أوروبا عرفت ما أطلق عليه حديقة حدائق البشر أو قرى العبيد Human zoo، وسميت أيضاً بـ (قرى الزنوج أو معرض الأعراق أو سيرك الغرائب). وجلبوا أهالي المستعمرات من النوبة وجنوب أفريقيا والمستعمرات في آسيا وغيرها للغرب ليعاين المستعمر أهل تلك البلاد البعيدة، وانتقوهم من أجل العرض كما ينتقي المرء القطع الأثرية! وقد كانت هذه العروض للبشر في القرن التاسع عشر والعشرين تتستر تارة خلف قناع العلوم وتارة أخرى خلف قناع المعرفة وحب الاستطلاع، ولكن في المحصلة جلبت أهالي المستعمرات من الكونغو والنوبة وشرق آسيا وغيرها وعرضتهم ليكونوا مثار السخرية والازدراء وكان لها شعبية كبيرة بين كافة الفئات. هذه العروض التي بررها البعض باسم دراسة الأنثربولوجيا (علم الإنسان) وادعت أنها تسعى للمعرفة كانت تؤسس ما عرف بالعنصرية العلمية ((Scientific Racism أو الداروينية الاجتماعية التي تصب في اتجاه التفوق النوعي للشعوب الأوروبية. عرض كان يسعى لإيجاد الرابط في عملية التطور بين القرد والإنسان الأبيض حسب نظرية النشوء والارتقاء ونظريات عنصرية وبذيئة قائمة على الأحقاد بدلاً من التجربة العلمية بهدف تبرير استعمار الشعوب وسلب ثرواتها فهم أدنى مرتبة من المستعمر!
لعل المثال الآخر على هذه المغارة القذرة للمستعمر هو اصطياد أحد علماء التطور لرجل أفريقي قزم يدعى "أوتا بينغا" مما يعرف اليوم بالكونغو الديمقراطية بعد أن وقع في الرق، وأبحر به الصائد للعالم الجديد فإذا به يعرض عام 1904 في معرض الأنتروبولوجيا في معرض سينت لويس العالمي الشهير، وفي عام 1906 في حديقة حيوان برونْكس في نيويورك، عرضوه تحت مسمى "السلف القديم للإنسان" ببطاقة تعريفية بجوار أفراد من قردة الشمبانزي وبعض الغوريلاّت، وكما هو متوقع انتهى المطاف بأوتا للانتحار.
لطالما ظننت أن لا جرم يفوق الاستعمار وأنه ذروة الضيم الذي يقترفه الإنسان بحق الإنسان، ولكن هذا تغير بعد أن قرأت عن قصة حياة سارة بارتمان وأوتا بينغا، ولعل قصة سارة أكثر تأثيراً لأنها معاناة استمرت لقرابة المئتي عام وانتهت بالأمس القريب. أصبحت سارة رمزاً لجنوب أفريقيا وأيقونة لزمن تشدق المهيمنون فيه بقيم هي منهم براء وصارت سارة رمزاً خالداً لسادية المستعمر ورصيده الأخلاقي. وبعد هذا نرى من يخاطب الغرب ويفرح للمساحة الإعلامية الرخيصة على منابره ليظهر ويشوه الإسلام ويتظاهر بالثورية ويدعي الانتصار على قطعة قماش يتبرأ منها وكأنها وصمة عار تشينه! أو يروج لحملات يجهل أهدافها الحقيقية!!
تتكرر قصص الناشطات الساعيات ليكنّ أيقونة الصراع ضد الرموز الذكورية في بلادهن ولكن ينسين أنهن يخاطبن مَنْ امْتَهَنَ إنسانية سارة واغتصب روحها ولم يتركها في مأمن حتى بعد موتها. يقدمن التماسهن لمن لا يرى فيهن إلا سارة أخرى.. مجرد سارة!
إن الإسلام العظيم أعطى للإنسان أغلى ما في الكون وهو كرامته وإنسانيته، فحري بنا أن ننشر هذا الدين العظيم وأن نرفع الهامات في شموخ واعتزاز ونحن نردد: الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها من نعمة.
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم يحيى بنت محمد