- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
العيش في الظّلمات نتيجة حتميّة لعدم تطبيق شرع الله كاملا
يقول عزّ وجلّ: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. في هذه الآية ضرب الله سبحانه وتعالى للمؤمن مثلا بليغا بيّن له فيه أن لا حياة للإنسان بدون هدي ربّه وشرعه، وأنّه إن احتكم لغيره وسيّر حياته بغير ما أنزل الله فهو ميّت. فالمؤمن كان تائها حائرا لا يعرف طريق النّجاة فأحيا الله قلبه بالإيمان وهداه سبيل النّجاة ووفّقه لاتباع الهدى.
جاء في تفسير البغوي "معالم التّنزيل" فَأَحْيَيْناهُ، أَيْ: كَانَ ضَالّاً فَهَدَيْنَاهُ، كَانَ مَيِّتاً بِالْكُفْرِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ. قيلَ: النُّورُ هُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾، فممّا لا شكّ فيه أنّه لا يستوي من هو في نور الله يتبع هداه ولا يحيد عنه بمن هو في ظلمات الجهل بعيدا عن شرع الله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ يقول قتادة مفسّرا "أمّا الأعمى والبصير فالكافر والمؤمن وأمّا الظّلمات والنّور فالهدى والضّلالة".
فحياة الإنسان لا يمكن أن تُسيَّر تسييرا صحيحا ولا تستقيم إلّا بنور الله وهديه ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ أي أنّ الإنسان كما قال ابن عاشور رحمه الله مفسّرا هذه الآية "إذا اتّبع الهُدى الوارد من الله على لسان رسله سَلِم من أن يعتريه شيء من ضلال... أمّا إن غاب عنها هذا النّور فإنّها تتحوّل إلى ظلمات وعيشة ضنكا ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾".
فلا طمأنينة ولا أمن ولا راحة ولا انشراح لصدر الإنسان ما دام بعيدا عن هدي خالقه. وما تعيشه البشريّة اليوم من ضيق في الصّدور وخوف ووحشة وضياع إلّا نتائج حتميّة لبعدها عن أحكام خالقها - وكيف لها العيش دون شقاء وقد تخلّت عن شرع ربّ الأرض والسّماء؟! - فمهما ظهر على النّاس من نعم (لباس، أكل، متع...) فهم غير سعداء وصدورهم حرجة ضيّقة يحيون في قلق وأرق وألم لأنّهم لم يَخلُصوا إلى طريق اليقين والهدى وهذا هو: ضنك العيش!
يحيا النّاس اليوم عديد المشاكل ويجابهون الكثير من المصاعب التي لم يجدوا لها حلولا... فطرقوا عديد الأبواب يبحثون عن مخرج لما هم فيه، لكن دون جدوى! توجّهوا لصناديق الاقتراع ينتخبون هذا ويرفضون ذاك آملين في تغيير واقعهم فلم يحصدوا إلّا ضنكا وفقرا وظلمة حالكة تتفاقم كلّ يوم!
إنّ ما تعانيه الأمّة والبشريّة عموما هو نتيجة حتميّة لغياب الإسلام عن الحياة وعن سوء فهم أحكامه ومفاهيمه نتيجة حلول الحضارة الغربيّة وفرضها لمفاهيمها وترويجها - كذبا وبهتانا - فكرة قصور الإسلام عن مواكبة العصر وعجز أحكامه عن حلّ المشاكل وتسويقها لنظامها الرّأسماليّ الذي جعلته وحده القادر على تسيير العالم وقيادته.
لقد وعى الغرب جيّدا واقع الإسلام وأنّه نظام يصلح لأن يحكم كلّ البشر بغضّ النظر عن معتقداتهم وأديانهم، وأعراقهم وأجناسهم وألوانهم، وبإمكانه أن يصهرهم في بوتقته، وهذا يعني عنده أنّ إقامة الخلافة سيصاحبها ظهور مبدأ الإسلام كنظام حياة وحضارة، وسيشكّل منافساً حضارياً له. أدرك أنّ الحضارة الغربيّة أفلست وأشرفت على السّقوط وفي إقامة الخلافة زوال لسيطرتها وانحسار لنفوذها فسعى في حربه على الإسلام ومعركته الأبديّة معه إلى كسر إرادة الأمّة في التّغيير الجذريّ الذي بانت بشائره من خلال ثورات الأمّة - التي نادت بالتّحرّر من استعماره - وشنّ حروبه على الشّعوب يقتّل ويهجّر ويتعدّى على الأرض والعرض خشية أن تقوم هذه الشّعوب على حكّامها العملاء الأوفياء له فتفلت من قبضته ويضيع عنه حكمه فيها. كما خطّط إلى تقسيم بلاد المسلمين من جديد حتّى يثبّت ما قام به في اتّفاقيّة سايكس بيكو من تفرقة وتجزئة للأمّة الواحدة التي حوّلها إلى شعوب متناحرة متصارعة ساعيا من وراء كلّ ذلك إلى القضاء على فكرة الأمّة الإسلاميّة الواحدة التي تحكمها دولة واحدة، وبذلك يضرب فكرة إقامة الخلافة الرّاشدة فيها ويقضي عليها.
خلق الله الإنسان وأحسن خلقه وكرّمه بالعقل وفضّله ليعبده وحده لا يشرك به شيئا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. فحقُّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كما بيّن رسولنا e ذلك لمعاذ بن جبل. فالعبادة تقتضي "الانقياد التّامّ لله تعالى، أمرا ونهيا واعتقادا وقولا وعملا، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله، يحلّ ما أحلّ الله ويحرّم ما حرّم الله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرّفاته كلّها لشرع الله، متجرّدا من حظوظ نفسه ونوازع هواه، ليستوي في هذا الفرد والجماعة، والرّجل والمرأة". (ابن تيمية).
تتجلّى روعة التّشريع وحسنه عند تطبيق الإسلام كاملاً دون حذف أو نقصان فهو كعقد أحكمت حلقاته فإن انفكّت تبعثرت وضاعت... فأحكام الإسلام تعاضد بعضها بعضاً ليكتمل بمجموعها البناء ويزهو، فمن اتّبعها نال رضوان الله ومن حاد عنها تاه في ظلمات الكفر والشّرك ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ فالإسلام نظام متكامل متجانس أنزله الحكيم العليم ليعالج مشاكل النّاس في كلّ آن وحين.
لقد أوجب الله على المسلم أخذ الإسلام كلّه دون استثناء، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فعدم تطبيق الإسلام كلّه يسبّب الشّقاء للإنسان، وإن عُطِّل حكم من أحكامه الشّرعيّة أصاب البشريّة ضياع خيرٍ كبير سنّه الله لتنعم به ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾. فعلى المسلمين العودة لتحكيم شرع ربّهم فيهم وأخذه جملة دون التّخلّي عن حكم واحد منه فيضربون بفكرة التّدرّج في تطبيق الشّريعة عرض الحائط لأنّها ساهمت في عدم تطبيقها، وعن طريق هذه الفكرة الخبيثة اطمأنّ المسلمون أنّ الحكم بأيدي أمينة وتخاذلوا عن تغيير واقعهم ورضوا به، وبعد فترة اكتشفوا عكس ذلك وأنّ هذا "الإسلام المعتدل" صنيع الغرب ويسير في فلكه يطبّق مخطّطاته، وعليهم رفض تطعيم هذا النّظام الرّأسماليّ الكافر ببعض الأحكام الشّرعيّة حتّى لا يساهموا بذلك في إطالة عمر هذا النّظام الفاسد.
إنّ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا عبده ورسوله تعني أنّ العبوديّة لله وحده؛ فهو ربّ النّاس خلقهم وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحييهم ويميتهم، ويحاسبهم ويجازيهم، فلا معبود سواه، قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، فمن يحكم بغير ما أنزل الله ويعرض عن أحكامه غضب الله عليه وحلّ به عقابه ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾... فالله سبحانه له الخلق والأمر، وهو أحكم الحاكمين.
لن يصلح حال المسلمين والبشريّة قاطبة ولن يرفع عنهم البلاء وتسلّط الأعداء إلاّ إذا عادوا إلى ربّهم يلزمون كتابه وسنّة رسوله e، فيسلكون سبيله المستقيم الذي رضيه لهم وأمرهم به. ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾، فواجب على جميع المسلمين المناداة بتحكيم شرع الله والعمل على إقامة حكم الله في الأرض.
الإسلام خير الشّرائع وأكملها، ختم الله به الرّسالات وجعله صالحا للنّاس جميعا وفي كلّ زمان ومكان وحفظه من التّحريف، يلائم كلّ الأوضاع ويبيّن كلّ شيء. قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى): (ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين، ولا الكفّار، ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش، ولا الفقراء، ولا غير ذلك؛ إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك؛ تناوله قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾).
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التّحرير
زينة الصّامت