الثلاثاء، 24 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/26م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

 

يقول الإمام الجويني (419هـ - 478هـ) وهو يكتب عن فرضية أن تكون الأمة في يوم من الأيام بدون خلافة في كتاب السياسة الشرعية الذي سبق عصره (غياث الأمم في التياث الظلم) "ولا شك أن العقل أصل الفضائل، فإن لم يقترن به الورع والتقوى انقلب ذريعة إلى الفساد، ومطية جائرة عن منهج الرشاد"، وقال أيضاً رحمه الله "الورع رأس الخيرات وأساس المناقب، ومن لم يتصف به فجميع ما فيه من المآثر تصير وسائل ووصائل إلى الشر وطرائق إلى اجتلاب الضر".

 

رحم الله إمام الحرمين فقد افترض خلو الزمان من الإمام الذي يحكم بالشريعة ومن المجتهدين، وفصّل للأمة ولأهل العلم ما عليهم تجاه هذا الواقع المؤلم. وقد تعرض إمام الحرمين لأهمية الورع في الإمام، ولعله رحمه الله يصف واقع أن يولى علينا من فيه من المآثر والمناقب الكثير ولكن يؤخذ عليه ويبطل عمله غياب الورع. فما بالك من يغيب عقله ويدور في فلك من كان يستعمر بلاده بالأمس القريب، ما بالك بأنظمة تحكم بالكفر وتجسد الفشل آناء الليل وأطراف النهار وكلما أتت أزمة كشف الله حالهم وبانت عوراتهم؟!

 

قدر الله أن يأتي كوفيد-19 والأمة قد تحققت من فشل الأنظمة الوضعية التي تحكمها وآمنت بتدهور الأوضاع في بلاد المسلمين في كافة المجالات. ولا ملجأ من الله إلا إليه. أتى الفيروس ليكشف عوار الأنظمة الحاكمة وليجني حصاد عقود من الفساد السياسي وإهمال قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة وتكبيل الاقتصاد بديون سيادية وديون ربوية لشركات ومؤسسات استعمارية. أعلنت الحكومات الحرب ضد الفيروس وهي ليست مهيأة عملياً لصد عدوانه وتعلم يقينا كما يعلم الناس أن المستشفيات بقطاعيها العام والخاص لم تواكب العصر الذي نعيش فيه ولا ترتقي لتوفير خدمات مرضية في الظروف العادية ناهيك عن جائحة أعجزت الأنظمة الصحية في أوروبا وأمريكا. ولعل أبرز مثال عن مستوى الأنظمة الصحية في بلاد المسلمين أن حكام الضرار وذويهم وبطانة السوء المحيطة بهم يسافرون إلى الغرب إذا ألمت به وعكة صحية هربا من أنظمة صحية متهالكة. يتداوون في بلاد أخرى دون خجل حرصا على حياتهم بينما يموت الناس.

 

أتى الفيروس فدقت الأنظمة طبول الحرب الكاذبة وأصابت الناس بالهلع فخرج الناس في بعض عواصم المسلمين في ليالٍ يملؤها الظلام والخوف ووقفوا في شرفات منازلهم وفي الأماكن المرتفعة يكبرون ويهللون ويلحون على الله بالدعاء بأن يرفع الله عنهم البلاء. بينما أمعن الحكام في بث الخوف ونشر تصريحات متضاربة وإخفاء الحقائق. لم يفاجأ الناس بهذا فهم لم يعهدوا من الحكام الصدق ولم يتوقعوا منهم أن يقفوا عند حديث رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

 

أمعن حكام المسلمين في تغييب البعد الدّيني لتركيز العلمانيّة وتهميش الإسلام في حياة النّاس. والمستغرب أن يكون هذا الحال والأصل أنّ العلم لا يتعارض مع الإسلام فعلى النّقيض من عصر التّنوير في الغرب لم تنشأ الثّورة العلميّة في العصر الذّهبيّ للدّولة الإسلاميّة من كنف فصل الدّين عن الدّولة ومعاداة كلّ ما له صلة بالدّين بل نشأت في كنف الدّين الإسلاميّ، نشأت في رحاب الدّعوة الرّبّانيّة للتّفكّر والتّدبّر وتعمير الأرض. حتى إنهم لم يأتوا على ذكر الدّين في التّصريحات الرّنّانة والمؤتمرات الصّحفيّة المتتالية ولو من باب مراعاة مشاعر المسلمين أو من باب (ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب). ثم أغلق الحكام المساجد وتمادوا في إظهار تهميش الدّين في وقت يكون فيه المسلمون في أمسّ الحاجة للدّعاء والعبادة وهم على أعتاب رمضان وأيّامه ولياليه المباركة. ولا شك أن إغلاق المساجد جاء في إطار سياسة عامة لحكام المسلمين أساسها إبعاد المسلمين عن ربط واقعهم وحل مشاكلهم بإسلامهم والحيلولة دون وضع الأزمة في إطار شرعي إسلامي - مثلما فعلوا بقضية فلسطين.

 

إن حكام المسلمين لم يذكروا الإسلام في أزمة الكورونا ولو من باب إحقاق الحق وذكر دور الإسلام والمسلمين في وضع سياسات صحية تحد من انتشار العدوى. وكان المسلمون أول من أمر بالعزل الصحي وعملوا في إطار حديث رسول الله ﷺ «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا» وفي إطار ما نعرفه عن الكورونا يبقى عزل المصاب وعزل منطقة انتشار المرض هو الحقيقة العلمية الوحيدة المتفق عليها. نعم، لم ينوه الحكام لهذا الأمر النبوي العظيم خشية أن يضعوا الأمر في إطار الحكم الشرعي وتفاديا لاعتزاز الهوية الإسلامية في نفوس المسلمين. تجاهلوا دور الإسلام العظيم حتى بعد أن أصبحت توجيهات رسول الله ﷺ حديث العالم بعد أن نشرت النيويورك مقالة ألقت فيها الضوء على تعاليم المصطفى وأنه "أول" من أمر بالحجر الصحي وحث على النظافة الشخصية في حالات انتشار الوباء.

 

لقد سبق المسلمون عصرهم فألّف علماء المسلمين وبخاصّة علماء الأندلس المؤلّفات في الأوبئة وتعرّضوا لها بشكل يفصّل الواقع ويقف على الأدلّة الشّرعيّة ويورد اختلاف الفقهاء في بعض الجزئيّات. وقد أخذ الغرب عنهم بعض هذه المؤلّفات وأثرت المكتبة العلميّة بشكل لا ينكره منصف. وقد دون المسلمون أخبار الأوبئة التي مرت عليهم ونقل المؤرّخ ابن تغري بردي في النّجوم الزّاهرة، عن المؤرّخ أبي الحسن المدائني أنّه أحصى 15 طاعونا حتّى سنة 131هـ. ومن أشهر الأوبئة التي مرّت على المسلمين طاعون عمواس الذي قال عنه "الطّبري" في كتابه "تاريخ الطّبريّ" إنّه كان فناء للنّاس، إذ مات به 25 ألفاً، وكان من بينهم الصّحابيّ أبو عبيدة بن الجرّاح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل رضوان الله عليهم.

 

وقد فصّل علماء المسلمين الحديث في طاعون عمواس (18هـ/639م بعد فتح بيت المقدس)، وأنّ المسلمين تحرّكوا في إطار قول رسول الله ﷺ عن الطّاعون: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ»، يقول ابن كثير في "البداية والنّهاية": "فلمّا اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عليك، أمّا بعد، فإنّه قد عرضت لي إليك حاجة، أريد أن أشافهك بها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إليّ. قال: فعرف أبو عبيدة أنّه إنّما أراد أن يستخرجه من الوباء. فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين، ثم كتب إليه يا أمير المؤمنين إنّي قد عرفت حاجتك إليَّ، وإنّي في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتّى يقضي الله فيَّ وفيهم أمره وقضاءه، فحلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي".

 

لله درّهم من رجال وأنّى لنا بأمثالهم يخاف كلّ منهم على من استرعاه الله فيه خوف الأمّ الرّءوم على وليدها!

 

إنّه درس رائع في القيادة - على بصيرة - وفي إطار الحكم الشّرعيّ ومراقبة الله عزّ وجلّ يجد كلّ فيها نفسه مكبّلاً بمفهوم الرّعويّة والعبوديّة لله وحده. كلّ منهم يعلم أنّ السّبب الوحيد للموت هو انتهاء الأجل ولكن يبذل الوسع ليحافظ على الحياة التي كرّمها الله عزّ وجلّ. ورغم صلابة الإيمان بالله وبقدره فقد أخذوا بالأسباب ومن ذلك طلب خليفة المسلمين الفاروق رضي الله عنه من أبي عبيدة أن يرتحل بالمسلمين من الأرض الغمقة الَّتي تكثر فيها المياه، والمستنقعات إِلى أرضٍ نزهةٍ عالية، ففعل أبو عبيدة. فيسعى الخليفة كراعٍ يخاف سؤال الله لحصر المرض والحدّ منه ويحثّ النّاس على الابتعاد عن مصادر العدوى. وقد كان هذا في القرون الأولى قبل أن يخوض المسلمون أغوار العلوم وينهلوا من المعرفة فلم يكن تصرّفا مبنيّا على استنتاجات علميّة بقدر ما كان مبنيّا على الجدّيّة في العمل والهمّة العالية ورعاية مصالح النّاس، وهنا يكمن لبّ المفهوم القويم للسّياسة.

 

وهذا الفهم الصحيح للإسلام حيث يؤمن المسلم بقضاء الله وقدره ويأخذ بالأسباب جعل المسلمين الأوائل يجتهدون في بناء البيمارستانات والمشافي المتنقلة والمجهزة التي تصل للمريض في مكانه وجعلهم يشدون العزم في إيجاد سبل لتطوير الأدوية وبرعوا في هذا المجال وسافروا بحثا عن الأعشاب والمهارات العلاجية. كما اجتهد الخلفاء في توزيع الأرزاق في وقت الأزمات وقد فصل العلماء في ذلك وذكروا أهمية رعاية فقراء المسلمين في وقت الحاجة يقول الإمام الجويني في الغياث "فحقّ على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم أمر في باله، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل ضرر فقير من فقراء المسلمين في ضرّ". أما اليوم فحكام الضرار يخيرون العامة بين الفقر والعوز وبين المرض. ومن ذلك إعلان عمران خان رئيس وزراء باكستان أن البلاد سترفع القيود في ظل ازدياد حالات الإصابة بالفيروس وقد قالها صراحة "إن القرار اتخذ لأن الأعداد الكبيرة من الفقراء والعمال لم تعد قادرة على العيش في ظل الإغلاق العام بعد الآن". الأنظمة الفاشلة تجد نفسها بين فكي الرحى فمن جهة تدعي أنها تحارب الكورونا بمنظومة صحية متهاوية ومن جهة أخرى تعلن أن لا قبل لها بمحاربة فيروس الفقر الذي صنعته بتطبيق الرأسمالية الفاشلة ورفض النظام الاقتصادي في الإسلام والإمعان في محاربة الشريعة ودعاتها الأخيار.

 

نعم إنهم يتغافلون عن تاريخ أمّة مرّت بعصر ذهبيّ أثّر في التّراث العلميّ للبشريّة جمعاء وكأنّه لم يكن، يغيّبون الماضي العريق للأمّة حتى لا يثير فيهم الشّجون ويبرز التّناقض بين الماضي الزّاهر والحاضر القاتم. يصرفون الناس عن أسباب فشل الأنظمة في السيطرة على الملاريا في الألفية الثالثة، وعن الفشل في توفير مياه نقية ومستشفيات لا يخاف فيها المرضى من انتقال العدوى بسبب التلوث وانتشار القاذورات وسوء الصيانة. ويصرفون الناس عن ضيق ذات اليد والغلاء وشح أبسط مستلزمات الأسرة. عقود وهم يلهون الناس بالسعي وراء قوت يومهم ويحاربونهم بثالوث الفقر والجهل والمرض. قال مارك لوكوك مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية "إن أفقر الدول هي التي ستشعر بأشد تداعيات الجائحة، محذرا من أن عدم التحرك لعلاج ذلك الوضع سيؤدي إلى تفاقم النزاعات

 

 

والجوع والفقر، مشيرا إلى أن "شبح مجاعات" يلوح في الأفق". وكما نعلم فإن كثيراً من بلاد المسلمين ينطبق عليه ذلك. وبالرغم من ثروات الأمة ومقدرات أبنائها إلا أن حكام الضرار الذين لا يبالون بقال الله وقال الرسول لم يهتموا ببناء بنية صحية".

 

وبعد العصر الذهبي وقيادة العالم في العلوم والطب أصبح المسلمون مجرد مستهلك يتطلع للآخرين وينتظر منهم إنتاج مصل ضد كوفيد-19. وبالرغم من كون الطب في الإسلام من المرافق التي لا يستغني عنها الناس فإن الأنظمة الصحية في بلاد المسلمين في وضع يرثى لها. ولكن هذا ليس بمستغرب فكيف يحفظ النظام الصحي من أهمل وعطل شرع الله؟! إن الأمة تتطلع لنظام يحكمها بشرع الله يواكب حبها للنهوض والرقي، نظام يهتم بتطوير التعليم والبحث العلمي، يحد من هجرة العقول ويعمل على إنشاء مختبرات ومعامل تواكب العصر وترقى لمستوى طموح ونبوغ شباب هذه الأمة. الأمة تتوق لنظام يواجه فساد الرأسمالية ويخلق رأياً عاماً دولياً ضد احتكار الدواء ويرفض الملكية الفكرية فالعلم ملك للبشرية جمعاء. نظام يرفض الارتهان للهيئات والمنظمات الدولية ومعالجاتها الشمولية القاصرة.

 

لا شك أنه كلما اشتدت المحن اشتد الصراع بين الراعي المتمرد على خالقه والرعية الواعية التي ترى عظم المشهد وتتابع عجز وفشل الراعي الفاسد وعدم أهليته لأن يحكمها. إن الأمة الواعية تدرك أن الله عز وجل حملها الأمانة واستخلفها على الأرض فلا يرى الإنسان نفسه مجرد ريشة في مهب الريح ينقاد دون تدبر ولا بد أن يكون له موقف مبدئي من محدثات الأمور.

 

نسأل الله أن بيدل حالنا فهو أعلم به منا وأن يولي علينا خيارنا ويأتي الله بالحكم الرشيد وأمراء يحبوننا ونحبهم في الله، يذكروننا بالله ويخافون الله فينا يعظمون شعائر الله ويحفظون عرى الإسلام، يقول الحق جل وعلا: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.

 

لعل الميزة الكبرى للجائحة التي حلت على العالم هي أننا نعيش لحظة تأمل توقف فيها كل شيء وانخفضت الأصوات العالية وبانت كل مظاهر الفساد المهيمن على العالم وننتظر بلهفة نصرا مؤزرا من العلي القدير.

 

﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

هدى محمد (أم يحيى)

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع