- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾
(مترجم)
إنه لأمر محزن في زماننا أن كثيراً من حملة الدعوة ومع مرور العقود يتكاسلون، وفي كثير من الحالات يتوقفون تماماً بسبب الضغوط العائلية ومن أبنائهم. وعلى الرغم من بقائهم حاملين للدعوة ومتمسِّكين بمعتقداتهم، لكنهم في كثيرٍ، بل في كثيرٍ جداً من الحالات يواجهون معارضةً مستمرةً من عائلاتهم وأبنائهم. إن النساء والشباب والشابات يتعرَّضون لضغوط كبيرة من الأقران للانسياق مع أنماط المجتمع، بينما يتبنّى حملة الدعوة آراءً ومواقفَ تبدو للمجتمع غريبة. حيث يتعرّض الشباب لمنظومة تعليم علمانية، وجوٍّ ليبرالي داخل المدارس والكليات والجامعات.
فلا مفر إذاً من مثل هذه المعارضة الداخلية، إذ إنها تأتي من الأسرة ذاتها التي نلتمس منها الراحة والطمأنينة والدعم. تُنهِك معارضة الأسرة حاملَ الدعوة على مدار سنوات وعقود، فكثيراً ما يجد نفسه في تناقض بين الدعوة التي يحملها ومطالب أبنائه بأن يندمجوا مع المجتمع. وتمتد هذه المسألة إلى ما يتعلق بالصلاة والخمار والجلباب وأخذ قروض الطلاب الربوية واختلاط الجنسين، وهذا التناقض يصعب تحمّله على قلبٍ صافٍ، وقد يصبح طاغياً ومؤلماً.
ومن ناحية أخرى، فإن الأسر المباركة بكثرة الأولاد الذين يحملون الدعوة تشكل عوناً ودافعاً. يثبت حملة الدعوة في مثل هذه الأسر على وتيرةٍ ثابتةٍ حتى بعد الزواج والأبوة، وحتى بعد أن يصبحوا أجداداً. كما هو الحال دائماً، الخير في حياتنا يأتي من التمسك بالسنة، والبؤس ينتج عن تركها. فلننظر تحديداً: ما هو المنهج النبوي لأسرة المؤمن؟
إن نموذج الأسرة المسلمة هو أسرة النبي ﷺ المباركة، أهل البيت. لقد كانت أسرة مباركة بابنته فاطمة رضي الله عنها التي حملت الدعوة ووقفت مع أبيها في الشدائد. وكانت أسرة مباركة بابن عمه الشاب علي رضي الله عنه الذي ملأ شبابه طاعةً لله ﷻ ودعم رسوله ﷺ. وكانت أسرة مباركة بحفيديه الكريمين الحسن والحسين رضي الله عنهما اللذين كان لهما عبر حياتهما، وبمواقفهما الصلبة ضد الظالمين واستشهادهما، أثرٌ عميق في أمة الإسلام. بالفعل، أصبح كثير من شباب وبنات أهل البيت أسساً للأمة الإسلامية، وما زال المسلمون على مدى القرون يدرسون سيرتهم لينهلوا منها الإلهام والهداية.
قال الله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ وقد علق ابن كثير على هذه الآية بقوله: "ثم قال تعالى آمرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أن ينذر عشيرته الأقربين، أي الأدنين إليه، وأنه لا يخلص أحداً منهم إلا إيمانه بربه عز وجل، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين". وذكر ابن كثير أيضاً عن قول الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة أنها قالت: لما نزلت آية ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾، قام رسول الله ﷺ فقال: «يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ» وقد أورده مسلم في حديثه.
وذكر الإمام النووي في شرح مسلم، في باب "فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ"، أن النبي ﷺ قال: «يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيئاً غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِماً سَأَبُولُّهَا بِبَلَالِهَا» أي: أنقذي نفسك من النار، فليس بيدي عند الله شيء، إلا أن لك رحماً أتوسل بها. وبخصوص قول النبي ﷺ لابنته «سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ»، فسّر الإمام التوربشتي، أحد علماء الحنفية، بأنه رأى أن المراد ليس المال الحرفي المعروف، بل عبّر به عما يملك من الأمور التي يمكنه التصرف فيها وتنفيذها. فبهذا أكّد النبي ﷺ لابنته أنه لا يستطيع أن ينفعها عند الله إن لم تؤمن، لكنه يستطيع أن يعطيها من ماله ما يقع في طاقته التصرفيّة.
وهكذا نرى أن رسول الله ﷺ علّم ابنته فاطمة رضي الله عنها بصدق وحنان. وكمعلّمٍ كان أبوياً في تعامله، وكانت من طلابه الأوائل الشباب داخل بيته. فقد قال ﷺ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ» سنن أبي داود. فكان النبي ﷺ رقيقاً محترماً راعياً لابنته، حتى تشكّلت شخصيتها بآثار تربيته، فبدت أفعالها وأخلاقها على شاكلته ﷺ. تقول عائشة رضي الله عنها: «مَا رَأَيْتُ أَحَداً مِنَ النَّاسِ كَانَ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ ﷺ كَلَاماً وَلَا حَدِيثاً وَلَا جِلْسَةً مِنْ فَاطِمَةَ قَالَتْ: وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا رَآهَا قَدْ أَقْبَلَتْ رَحَّبَ بِهَا ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَا حَتَّى يُجْلِسَهَا فِي مَكَانِهِ. وَكَانَتْ إِذَا أَتَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحَّبَتْ بِهِ ثُمَّ قَامَتْ إِلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ». الأدب المفرد.
بإيمانٍ خالصٍ واتباعٍ كاملٍ للإسلام، تعلّمت فاطمة رضي الله عنها الدين وثبتت على الحق، فساندت أباها في محن الدعوة. وعندما ألقى عُقبة بن أبي مُعيط أذىً عليه أثناء سجوده ﷺ، كانت فاطمة هي التي جاءت فغسلت عنه ذلك. وبعد دعوةٍ طويلةٍ مليئةٍ بالكفاح والتضحية، أيقن النبي ﷺ قرب رجوعه إلى الله. وقد أُخبرت فاطمة بمقامها في الجنة مع أبيها ﷺ. روت عائشة قالت: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ «مَرْحَباً بِابْنَتِي»، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثاً فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثاً فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحاً أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ، فَسَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقاً بِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؟» فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ. يا لها من خاتمة مباركة لوالد وابنته!
أيها الإخوة والأخوات! أيها الأعمام والعمات والآباء والأمهات والأجداد:
انظروا كيف ربّى النبي ﷺ أربع بناتٍ مباركاتٍ قد كنّ قدوةً حسنة للأمة الإسلامية عبر العصور! انظروا كيف ربّى ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمه. انظروا كيف ربّى ﷺ الحسن والحسين رضي الله عنهما، حفيديه الكريمين. قدِّروا فاطمة وعلي والحسن والحسين! إنّ في كل أسرة كنزاً من الشباب؛ هم الشباب بين بناتنا وأبنائنا وبنات وأبناء أخوالنا وأبناء عمومتنا وأحفادنا. فلنَهتم بكل واحدٍ منهم ونقدّرهم، دون أن نغفل عن محاسبة طواغيت العصر. نحن السائرين على نهج النبي ﷺ للتغيير لا نقول إن لدينا وقتاً لشيءٍ ونترك شيئاً آخر! كلا، فلا تهملوا أحدهما. فلتنتبهوا للشباب والشابات كي يساندونا ونساندهم؛ ولنهتم بهم لننال جميعاً حياةً خالدةً في نعيم الجنة. اللهم اجعل ذلك حقاً، آمين.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مصعب عمير – ولاية باكستان



