العلمانية وديمقراطيتها مقتلٌ للسياسة، ومرتعٌ للفساد وضنك العيش
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
عرفت السياسة لغة كما جاء في لسان العرب لابن منظور: ساس الأمر سياسة قام به... ويقال سوس فلان أمر بني فلان أي كلف سياستهم... والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه، وفي الحديث كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم أي تتولى أمورهم، وفي القاموس المحيط للفيروز أبادي: سست الرعية أي أمرتها ونهيتها. واصطلاحا هي رعاية شؤون الناس وتدبير أمرهم جاء في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر: «كلكم راع فمسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ...».
وهذه الرعاية شرعا تعني الوقوف على مشاكل الناس وحاجاتهم وحلها وتدبيرها بأحكام الشرع، سعيا إلى خيرهم وصلاحهم بجلب منافع لهم ودرء مفاسد عنهم، وتكون بضمان أمنهم وأمانهم والذود عن حياضهم ودفع العدو عنهم وضمان حاجاتهم الأساسية لكل فرد منهم مأكلا وملبسا ومسكنا ولمجموعهم أمنا وتطبيبا وتعليما مع السعي لرفاههم...
تلك هي السياسة كما يجب أن تكون، إلا أن الغرب العلماني الكافر أفرغها من محتواها فجعلها قاعاً صفصفاً، أرضا جرداء لا زرع فيها ولا ضرع. فأسسه الفكرية باتت هي الداء العضال الذي يفتك بالسياسة كرعاية شؤون.
ولنبدأ بعقيدة فصل الدين عن الحياة التي مثلت حلا وسطا بين إنكار الدين ورفضه كلية وتدخل الدين في شؤون الحياة، فجعلت الحل الوسط طريقة تفكير والقاعدة العملية في الممارسات السياسية الديمقراطية. ففي المجتمعات الديمقراطية لا يمكن إنجاز أمر دون التفاوض والتنازل ثم التسوية، فالأغلبية المنشودة لاتخاذ القرار ديمقراطيا تقتضي إيجاد حل وسط لترضية الأفراد والمجموعات المختلفة والمتضاربة والمتناقضة آراؤهم ومصالحهم لإفراز تلك الأغلبية المزعومة.
وبناء عليه بات الحل الوسط مدخلا للازدواجية بين الاعتقاد والفعل، وتفريطا في الحقوق باسم تقديم بعض التنازلات، ونفاقا سياسيا، وانتهازية، ودجلا وتضليلا...
أما عن سيادة الشعب فذاك إسفين السياسة، فسيادة الشعب تعد القاعدة الأساسية لأي نظام ديمقراطي، ولما كان متعذرا بل مستحيلا أن تجتمع إرادة الشعب كله على غاية واحدة، باتت الأغلبية هي المعيار التشريعي للفعل السياسي، فالأغلبية لها حق الحكم لأنها الأكثر عددا، ذاك ما يؤكده منظرو الفكر الغربي من أمثال (جون لوك وسميث ليندمان).
ومن ثم فهناك افتراض مؤداه أن ما تقرره الأغلبية يمثل الحق والعدل وأن القرارات والقوانين التي تتخذها الأغلبية صحيحة كما يزعم (لوك).
فافتراض العصمة والقداسة في الكثرة باطل، فالصحة والبطلان والتحسين والتقبيح والحل والحرمة المتعلقة بالتشريع مرتبطة بحقيقة الفعل والشيء المحكوم عليه، وحكم الأغلبية لمجرد كثرة عددها لا يسمن ولا يغني من جوع، فلو أن الأغلبية استحلت الزنا وفِعْلَ قوم لوط عليه السلام وأباحت الربا كما هو حاصل، فهل يجعل ذلك الرذائل فضائل؟ قطعاً لا، بل تبقى رذائل أبد الدهر.
أما إذا أضفنا عاهة التشرذم السياسي لهكذا مجتمعات ديمقراطية تحت مسمى التعددية السياسية، تصبح الأغلبية هي الأكثر عددا نسبة للأقليات المتشرذمة وأقلية نسبة إلى المجموع، مما يعني أن السيطرة على شؤون الدولة تصبح بيد الأقلية، ولإضفاء القداسة عليها يصطلح عليها النخبة أي الفئة المجتباة، وكونها المتحكمة في الثروة بحكم رأسمالية المبدأ الذي يكرس استئثارها بالثروة، تصبح الديمقراطية أداتها المفضلة للحفاظ على مصالحها وترسيخها وتصبح السياسة هي تسخير طاقات الناس وجهودهم لخدمة الفئة المتحكمة.
أما عن الحرية التي تعتبر الحجر الأساس في الهيكل الفكري الديمقراطي وتتمثل في غياب القيود الخارجية أو التدخل في شؤون الفرد الذاتية والحد من تدخل الدولة، فبهكذا حرية تصبح الأنانية والميوعة الفكرية والتشرذم والتشظي وتخلي الدولة عن وظيفتها الأصيلة من رعاية الشؤون لتصبح حامية للمراقص والملاهي حتى لا يعتدى على حرية ذاك الفرد السكير العربيد الماجن، فتضيع الرعاية ويصبح ترقيع العوز والفقر والحاجة إلى الدواء والتطبيب والتعليم منوطا بما تبقى من هبات بعض المحسنين بعد سحب أجور ومصاريف القائمين عليها من الجمعيات.
ومن الحرية أيضاً ما يسمى الحرية السياسية أي حرية الاقتراع والاعتراض وبناء عليه بات تبني التعددية السياسية من مستلزمات الديمقراطية. ومن مستلزمات هذه التعددية السياسية:
* الاعتراف بالتنوع والاختلاف في المجتمع،
* احترام التنوع والاختلاف في العقائد والمصالح والرؤى على تناقضها وتضاربها،
* السماح بالتعبير لكل التيارات السياسية والمشاركة السياسية الفاعلة في اتخاذ القرار.
وهذا ما حول الفعل السياسي في المجتمعات الديمقراطية إلى إجراءات للتوفيق بين هذه العقائد والمصالح والرؤى المتضاربة والمتناقضة، ولما استحال هكذا توافق بات الشلل هو سمة السياسة، والأزمات هي ضريبتها المستدامة، وقوت الناس وأمنهم وأمانهم هو الثمن وضنك العيش فاتورته.
فتحولت السياسة إلى قانون أحزاب وقوانين انتخابات وتقسيم دوائر انتخابية ودورات وحملات انتخابية ومجالس وبرلمانات واقتسام سلطة وحقائب وزارية ومناصب إدارية.
وتحول الأمر من فعل سياسي متعلق بمشروع مجتمع ينظر فيه إلى العلاقات بين الناس كيف يجب أن تكون حقا وعدلا وطمأنينة ورفاها إلى حل ترضية للرأسماليين النافذين والحكام المتسلطين والأحزاب المعطوبة والانتهازيين من أصحاب النقابات والجمعيات وهلم جرا.
وبات الإجراء هو الغاية وطمست الرعاية وقتلت العلمانية وديمقراطيتها السياسة وتعس وشقي البشر بمثل هذه السياسة.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
ناصر الدين / المغرب