- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
مصطلح أهل السنة والجماعة
الحلقة الرابعة عشرة
الاختلاف المحمود والتفرق المذموم، هل يجوز تعدد العقائد واختلافها بين المسلمين؟
وحتى يتسنى لنا خوض غمار المسألة لا بد من التأصيل لمنهج دقيق للحكم على ذلك التفرق وعلى تلك الفرق
ورد في معجم مقاييس اللغة: فرقة: الفاء والراء والقاف أُصَيلٌ صحيحٌ يدلُّ على تمييز وتزييلٍ بين شيئين.[1] فإذا علمت أن أساس قيام الفرقة هو التمايز عن الأصل والخروج عنه بذلك الشيء الذي به أضحت فرقة، كان لنا أن نسأل: هل يصح تمايز أهل السنة عن الأصل العظيم وهو الإسلام؟ حيث إننا نفهم كيف تمايزت وتزيلت فرقة المعتزلة، أو فرقة الشيعة عن بعض مفاهيم الإسلام، لتشكل لها خطة معينة (منهجا، وطريقة) في فهمه أو التعامل معه، خرجت فيها عن الأصل، وأضحت في ذلك الأمر الذي انمازت به "بدعية"، وبقي فيها فيما لم تنماز عنه بقية "سنية" فكيف نفهم تمايز أهل السنة عن الإسلام؟
والغاية من هذا البحث هو النظر: بم تمايزت تلك الفرق عن الإسلام وبم بقيت في دائرته؟ أي بأي شيء أصبحت بدعية، وبأي شيء بقيت سنية، ثم بتقريرنا أن دائرة الإسلام لا تكون إلا بالسنة، كيفما قلبت النظر في كل تعريفاتها السابقة (تعريف المحدثين أو الأصوليين أو الفقهاء أو أنها طريقة العيش أو أنها ما خالف البدعة) فإن لنا بالتالي أن نقرر أنه لا يصح أن نفصل "فرقة" عن ذلك الأصل العظيم: الإسلام لنسميها فرقة "أهل السنة" لأنه لا معنى لتمايز "أهل السنة" عن الإسلام! والذي تشكل السنة جزءا لا يتجزأ منه! فالتمايز يكون في البعض الذي أضحت به الفرق بدعية، لا بأي تمايز!
وذلك لأننا قررنا أن معنى فرقة أنها تمايزت عن الأصل، ذلك الأصل الذي يجري قياس كل تمايز عنه إليه، لينظر هل يخرج ذلك التمايز تلك الفرقة عن ذلك الأصل خروجا كاملا كخروج الإسماعيلية أو البهائية، أم يبقيها في دائرته وفلكه؟ فرب تمايز بدعي، ولكن بدعة دون بدعة، فبدعة مهلكة وأخرى لا تخرج من الدائرة، ورب خروج ظُنَّ أنه بدعي، ولم يكن كذلك كما سترى!
كذلك من المهم أن نفهم أنه لا يصح أن تنفي فرقة ما أو ينفي مسلم ما انتسابه إلى السنة، خصوصا وأن بعض الفرق ما زالت تأخذ بالسنة بحسب فهم ما لها، مقتصرة على محدثين معينين، أو كتب معينة، ولكنها لا "ترفض" السنة رفضاً مطلقاً،
وأيضا لا يصح أن نفرد فرقة ما عن الإسلام فنصفها بأهل السنة، كأنما نفسر الماء بالماء، أو نعطي بهذا الخروج عن المنهج القويم مسوغا لتمايز الفرق الأخرى عن السنة، فيظن مع خروجهم انسلاخهم الكامل عن السنة، وليس هذا بالمستساغ، فالسنة جزء لا يتجزأ من الإسلام، فإذا صح تمايز أي فرقة عن السنة بإنكارها السنة البتة، خرجت أصلا من الإسلام، فتفكر! فتفكر بهذا مليا.
أربع قواعد ذهبية للاعتقاد
ثبت في القرآن الكريم بما لا يدع مجالا لشك ولا ريبة الأصول الأربعة التالية:
أولا: يحرم بناء العقيدة بكلياتها وبجزئياتها على الظن، ودليلها: قوله تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾.
ثانيا: يحرم التقليد في الاعتقاد، وبالتالي لا بد لكل مسلم من أن يصل إلى اعتقاده بالمحاكمة العقلية أو بالتسليم بما جاء في النقل بشرط أن يرد بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾.
ثالثا: يجب على كل مسلم أن يوصل اعتقاده إلى مرحلة القطع أو اليقين أو العلم أو الإيمان سمها ما شئت، وهذه المرحلة لا يمكن الوصول إليها عن طريق الظن أو التقليد، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ﴾ [محمد: 19] ﴿وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فالأمر هنا بالعلم ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
رابعا: يجب أن يتوفر على الاعتقاد الدليل، والدليل هو ما يوصل إلى القطع ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾، ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، ﴿قَالُواْ اتَّخَذَ الله وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
من هنا: فقوام العقيدة: القطع، ولا يدخل فيها إلا ما قطع به وما قام على دليل، وانتفت عنه صفة الظنية، سواء أكان القطع بوجوده حين يكون البحث: الوجود المقابل للعدم، كالقطع بوجود الله، أم القطع بمعناه حين يكون القطع المطلوب هو القطع بالمعنى، مثل القطع بـأن الله يحيي ويميت، وهنا ليس المطلوب الإيمان أو القطع بكيفية الإحياء، بل بمجرد أنه تعالى يحيي ويميت، لذلك فرق عظيم بين أن تأتي فرقة وتقول: أؤمن أن الله عالم، وهو ما طلب الإيمان به وجودا، ثم تخوض في معنى كونه عالما، فتشطط، وتقول بأن نتيجة بحثها معنى العلم كذا، فهذا التأويل لا يسوغ إدخاله في العقيدة، وبالتالي كان من الخطأ أن يقال: العقائد الإسلامية تختلف، بل العقيدة واحدة وهي المقطوع بها، والاختلاف هو في الخوض في دائرة ما لم يطلب الإيمان به أصلا، فينتقل البحث للتساؤل: هل نتيجة البحث تقع في دائرة ما به يخرج المرء من الإسلام إلى الكفر؟
بم يخرج المرء من الإسلام إلى الكفر؟ ضوابط لا بد منها للحكم على نتيجة أبحاث الفرق
وحتى نحكم على فرقة ما بأنها فارقت الإسلام إلى غيره، أو بقيت في دائرة الإسلام، لا بد من الضوابط التالية:
المرتد هو من كفر بعد إسلامه، ويكفر المسلم بأربع: بالاعتقاد والشك والقول والفعل.
أولا: إذا أفضى بحثها - أي الفرقة - إلى الشك ولو بقضية واحدة مما طلب منه الإيمان به جزما أو بدليل قطعي، (الشك أو الظن في وجود ما قطع الدليل القطعي بوجوده، أو الشك أو الظن بمعنى ما قطع الدليل القطعي بمعناه، لا الشك أو الظن في معنى ما لم يرد الدليل القطعي بشرح معناه بشكل قطعي ينفي كل معنى مخالف) كمن يشك في الجنة أو في النار، بما لا مجال فيه للتأويل.
ثانيا: إذا أفضى البحث إلى اعتقاد ما طلب منه بشكل جازم أن يكفر به (كمن يعتقد بالنجوم مثلا) أو عدم اعتقاد ما أمر بشكل جازم أن يعتقده، كمن لم يعتقد بوحدانية الله، أو عدم اعتقاد ما دل الدليل القاطع عليه، كمن لم يعتقد بنبوة محمد r، أو بالقرآن، بما لا يحتمل التأويل، وإذا أفضى بحثه إلى تعارض لا يحتمل التأويل مع قطعي، كمن أفضى بهم بحث الصفات إلى تجسيم المولى عز وجل، إذا اعتقدوا بلوازم الجسمية، مخالفين أصل نفي مشابهته سبحانه وتعالى للمخلوقات - وهو قطعي - فيكفر.
ثالثا: القيام بفعل مكفر لا يحتمل التأويل كالسجود لصنم أو بناء كنيسة أو الصلاة في كنيسة.
رابعا: قول ما يخرج من الإيمان بحيث لا يحتمل قوله التأويل، فيكفر به.
وقد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يبحثون عن أمر واحد يدرأون به رمي المرء بالكفر مقابل ما يجتمع لهم من أمور كثيرة لو عرض أقلها على بعض أهل زماننا لما تورعوا عن أن يجعلوا جهنم مثوى لهذا المرء، قال الزرقاني في مناهل العرفان: ولقد قرَّر علـماؤنا أن الكلـمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ثم احتملت الإيمان من وجه واحد، حُملت علـى أحسن الـمـحامل وهو الإيمان. وهذا موضوع مفروغٌ منه ومن التدلـيل علـيه.
وقال في مرقاة المفاتيح: وحاصل كلامهما نعوذ بالله تكفيره رضي الله عنه وهذه نزعةٌ جسيمةٌ وجرأةٌ عظيمةٌ، فإن عبارة آحاد الناس إذا احتملت تسعة وتسعين وجهاً من الحمل على الكفر، ووجهاً واحداً على خلافه لا يحل أن يحكم بارتداده[2]
ولا بد من ملاحظة مهمة هنا هي أننا نضبط أحكام الكفر والإيمان بالنسبة للناس في الحياة الدنيا وما يترتب عليها من أحكام شرعية عملية كأحكام المرتد والزواج والطلاق والخلافة والعزل وما شابه، ولا نبحث في هل هو مؤمن عند الله أو هل هو كافر عند الله.
فإذا تبين لك ذلك، علمت أن مرادنا هو بحث ما من شأنه أن يجعل التمايز بين تلك الفرق وبين الأصل تمايزا مذموما يخرجها إلى دائرة الكفر أو أن يكون التمايز مما لا يخرجها إلى تلك الدائرة، فتبقى في الأصل العام وهو أصل الإسلام، ذلك الأصل الذي تكون السنة فيه جزءا لا يتجزأ، فيصلح معه القول حينها بأن تلك الفرقة لم تخرج عن دائرة السنة إلا بتلك الأمور البدعية التي انتهجتها مخالفة طريقة الرسول r!
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الفقير إلى رحمة الله تعالى: ثائر سلامة – أبو مالك
[1] معجم مقاييس اللغة
[2] مرقاة المفاتيح لملا علي القاري 4\ 709
لمتابعة باقي حلقات السلسلة