- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
المأزق الفرنسي والغربي في مواجهة الإسلام السياسي
لقد تكرر انتهاك دول العالم لمقدسات المسلمين، تارة بوصم الإسلام بالتطرف والإرهاب، وأخرى بإحراق القرآن الكريم، وثالثة بشتم النبي الكريم محمد ﷺ وتصويره بأشكال مهينة ومستفزة، وتارات أخرى بغير ذلك. ومن ذلك ما يشهده العالم اليوم من إظهار فرنسا ورئيسها ماكرون حقداً كبيراً على الإسلام وتأييداً لانتهاك مقدساته، والتذرع لذلك بحرية التعبير. ما أدى إلى ردة فعل غاضبة عند المسلمين، صمتت خلالها معظم الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين، بل إنّ بعض المؤسسات الدينية أيدت فرنسا في حربها على الإسلام، كرابطة العالم الإسلامي التابعة لنظام آل سعود، والتي لا يفتأ رئيسها محمد عبد الكريم العيسى، يعلن حربه على الإسلام السياسي، ويحرِّض على استئصاله من فرنسا ومن كل مكانٍ في العالم، كما ورد في موقع آر تي عربي.
هذا الأمر قديم وجديد، ويزداد انتشاراً وتكرراً، ما يدل على أن الصراع بين الإسلام والكفر يحتدم، وجبهاته تزداد اشتعالاً، وهو يشير بقوة إلى الرعب الذي تعيشه فرنسا والغرب عموماً من الإسلام؛ وذلك بسبب الخطر الذي صار يشكله المسلمون نتيجة صحوتهم على الإسلام بوصفه عقيدة عقلية وسياسية وروحية، يخاطب كل الناس ويحكم في كل أعمالهم وعلاقاتهم، ويقنع العقل وتقبل عليه النفس، ما يشكِّل خطراً على وجود النظام الغربي الرأسمالي. ويتفاقم هذا الخطر لأن المسلمين يزدادون بنسب أكثر من غيرهم، وتتجاوز أعدادهم المليارين. إضافةً إلى أن أوروبا، وفرنسا بشكل خاص، لا تستغني عنهم كطاقة بشرية. فإذا لم يتخلّوا عن التوجه السياسي الإسلامي، ولم يندمجوا في الحياة الغربية، فإنّ هذه العوامل تتضافر لتهدد بتحول أوروبا إلى الإسلام، ناهيك عن عودة الدولة الإسلامية. هذا هو باختصار لبُّ أسباب الحرب العالمية المعلنة على الإسلام، وأسباب الإسلاموفوبيا التي يثيرها قادة الغرب ودهاقنته ويؤججونها بشكل عالمي. وعلى ذلك، فإن هذه الأعمال والمواقف، الفرنسية وغيرها، تندرج في خانة الخوف من ازدياد انتشار الفكر السياسي الإسلامي وعودة الإسلام والخلافة إلى الميدان الدولي.
فهذا الاعتداء والاستفزاز، وإن كان حدثاً يمرّ، هو مؤشر إلى حقيقة ثابتة، هي الصراع الدائم بين الإسلام والكفر. وهو الصراع العقدي والسياسي بين الإسلام وأمته من جهة، وبين الكفر وكل دوله من جهة أخرى، سواء في بلاد الكفر أو في بلاد المسلمين. لذلك، ينبغي بيان واقع هذا الحدث وأمثاله بوصفه جزءاً من صراع مستمر، ومحطةً على طريق التغيير المنشود، كما ينبغي فهم تفاصيل هذه المحطة، لإحسان البناء عليها للعبور إلى المحطة التالية.
مع بدء الصحوة الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وازدياد إدراك المسلمين لتناقض أفكار الإسلام، مع أفكار الغرب العلمانية، تنبه حكام الغرب إلى ظهور هذا التوجه، الذي يتناقض مع الأفكار الغربية. ومع إدراكهم لخطره على نفوذهم وهيمنتهم، فقد كانوا، بادئ الأمر، واثقين من أنهم يستطيعون الالتفافَ عليه وتطويعه.
لم تكن ثقتهم هذه مبنيةً على أوهام، وإنما كانت نتيجة تجارب وخطط لطالما نجحوا فيها، منها أعمال ضخمة، كهدم الخلافة، وما تبع ذلك من تداعيات كارثية. وبالفعل، فقد نجح مكرهم حيال الكثير من التوجهات التي احتووها وسخروها لغاياتهم، بل جعلوها عائقاً في طريق العمل الإسلامي، وحرباً على الاتجاه السياسي الهادف والملتزم.
ولكنهم لم يتمكنوا من القضاء على هذه الصحوة، فقد ظل في الأمة مَنْ تفشل معهم محاولاته، ولا يقعون في حبائل مكره، مصداقاً لقول النبي ﷺ الذي رواه مسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ».
وقد ازداد خطر هذا التوجه الإسلامي حتى صارت مواجهته استراتيجيةً عند الدول الكبرى، وبخاصةٍ بعد أن صارت له جذور في البلاد الغربية نفسها، حيث نبت هناك من يؤمن به من المسلمين الغربيين أنفسهم. وهذا بنظر حكام الغرب والقائمين على مجتمعاته وأنظمته نذير خطر كبير، لأنه يستفز العقول ويحرض على النظر والتفكير، وهذا ما يقضّ مضجع كلِّ طاغية.
لقد نما لهذا التوجه نبتات داخل تلك البلاد، معقل الرأسمالية وآلياتها وأدواتها. ولذلك انتفض طواغيتهم يحذرون من خطر داهم، يهدد طريقتهم في العيش التي أعلنوا تمسكهم بها بأشدّ من تمسُّكهم بالحياة. لقد شعروا بخطر انكشاف أمرهم، وهم أول العارفين أنهم كذابون مضلون، كما كان يَعرف فرعون أنه كذابٌ مُضِلٌ، وأنهم يتبجحون تبجحاً، كما كان يعرف فرعون أنه ليس إلهاً. وأدركوا أنهم إذا لم يقضوا على هذا التوجه الإسلامي فسيقضي عليهم؛ لذلك اتخذوا القضاء على هذا التوجه قضية مصيرية، يعتمدون لأجلها أي وسيلة ويدفعون أي ثمن. فالرأسمالية هي طريقتهم للتأله، وأدواتها هي بالنسبة لهم سحرةُ فرعون وجندُه في الخداع والتضليل، والمحافظة على التسلط والتأله.
لقد باشروا إلى تحقيق هذا الهدف، وكرروا محاولاتهم، ولكنهم كانوا في كل مرةٍ يفشلون. فمنذ عقود، وأمريكا تغيِّر استراتيجياتها في محاربة التوجه الإسلامي؛ وقد استعملت أقوى أسلحتها في المكر والتضليل وفي أعمال الإبادة الوحشية، واستبدلت خططاً بأخرى، ولكن ذلك كله فشل. وهذا ما حيّرَ حكامَ الغرب ومفكريه وأفقدهم ثقتهم بمواجهة الإسلام، وأورثهم شعوراً بالعجز عن القضاء عليه. فاستنفروا الغرب والعالم كله لمواجهته، وأطلقوا عليه أسماء التطرف والإرهاب والإسلام السياسي و(الإسلَمِزم)، و(الإسلاموية)، وأثاروا ضده الحقد والرعب والإسلاموفوبيا...
ولقد أثبت الغرب في هذا الصراع أنه ليس على شيء، لأنه ناقض الأفكار التي يتغنّى بها ويدعو إليها، فداس فكرة الحريات العامة، وأهدر حقوق الإنسان، وخلتْ أعماله تجاه الإسلام من أي أثر لحوار، أو قبول للرأي الآخر، بل كانت أعماله كلها مكراً وخططاً مخابراتية وأمنية وتجسساً طال كل المسلمين في بلاد الغرب، وفبركة قصص تطرف وصناعة إرهاب، يتحدثون عن أخطاره ويضخمونها، ليسوغوا بذلك حربهم على الإسلام والمسلمين.
تتعذر الإحاطة بجبهات الحرب الغربية على الإسلام والمسلمين. وهي في حقيقتها حرب عالمية، تقودها أمريكا بحكمِ قيادتها الحضارية والسياسية للعالم الغربي، وتساهم فيها كل دول أوروبا وفي مقدمتها فرنسا، والدول القائمة في العالم الإسلامي أيضاً. وقد جعلت أمريكا محاربة الإسلام من مسؤوليات الأمم المتحدة، فاتسعت دائرة هذه الحرب وكبرت تكاليفها، وكلفت المسلمين الكثير من الدماء والهدم، فضلاً عن انتهاك الحرمات والمقدسات. وكلفت دول الغرب أيضاً، وفي مقدمتها أمريكا، الكثير من الأموال والجهود والخسائر في شتى جبهاتها.
إن الذي يقض مضاجع الغرب هو فشل سياساتهم وحملاتهم للقضاء على الإسلام، وهم يقفون اليوم وجهاً لوجه مع فشلهم، وتراودهم أفكار استحالة القضاء على الإسلام السياسي، وبخاصة أنّ الباحثين المتخصصين عندهم بمئات الألوف، ومراكز الفكر والدراسات عندهم بالآلاف، وإمكاناتهم المالية والعسكرية ضخمة جداً، وهيمنتهم السياسية تجعلهم أصحاب السيادة والسلطة على كل دول العالم، وكل ذلك مسخَّر لمراقبة المسلمين وحركاتهم واحتوائهم. ومع كل ذلك، فقد فشلوا في تحريف الإسلام أو تنحيته أو القضاء على الإسلام السياسي.
لماذا؟ وأين السر؟ وأين مكمن قوة المسلمين التي تفشل معها كل هذه المحاولات والأعمال؟ وماذا يفعلون؟ ما الحلّ؟
هم لا يعرفون الجواب. وهذا مما يقض مضجعهم، ويدفع ساستهم إلى مناقضة أفكارهم ومبدئهم، وإلى اتخاذ مواقف حاقدة وعصبية وغير متزنة، كمواقف ماكرون وأضرابه وتصريحاتهم. والنتيجة الطبيعية لذلك أن لا يجدوا لمواجهة الإسلام والمسلمين إلا استعمال القوة الغاشمة، والترويض القسري، والخداع والمغالطات، وفرض القوانين والتشريعات التي تُلزم المسلمين بمخالفة دينهم، وهم يجترحون برامج لهذا الغرض، ووسائل للترغيب والترهيب. ورغم كل ذلك، تفاجأوا بأن التوجه الإسلامي أقوى من مكرهم، وأن هذه الضغوط زادت المسلمين رفضاً للاندماج في الغرب، وإصراراً على القضاء على نفوذه في بلادهم. ويدرك العارفون في الغرب أنهم أمام معضلة، والأصح أنهم يقتربون من حافة هاوية، أي أنهم في أزمة مستعصية وتتفاقم، وهذا ما أصابهم بصدمة ورعب، ودفعهم إلى الصراخ تحذيراً وخوفاً، وكأنهم يطلبون النجدة، ولكن مِمَّن؟!
هذه هي الصورة العامة لواقع الغرب في مواجهة صعود الفكر السياسي الإسلامي اليوم. ويقتضي تمام بيانها الإشارة إلى ظهور توجه آخر عند بعض المفكرين في الغرب، يعبِّر أصحابه عن مدى الادعاء والخداع والفبركات في تعامل سلطاتهم الغربية مع المسلمين، فيخرج هؤلاء في هذه الأجواء المحمومة ليحذِّروا من هذه السياسات. ومما يطرحونه ويخاطبون به مجتمعاتهم الغربية وأصحابَ القرار فيها: إنّ التطرف الذي تتهمون المسلمين به، أنتم من يصنعه، والإرهاب الذي تثيرون الخوف منه، أنتم من يمارسه ويغذيه، وجيوشكم وأجهزتكم الأمنية والمخابراتية هي من ينفـِّذه، وإنّ الصراخ الذي تملأون أرجاء الأرض به، محذِّرين من أن الإسلاميين قادمون، وتصويركم لهم كأنهم أشباح، وتضخيمكم لأخطارهم، والإسلاموفوبيا التي تثيرونها وتُلهبونها، لتتذرعوا بها لسحق المسلمين وإهدار حقوقهم وكراماتهم، وتسميتَكم تطلعات المسلمين للتحرر من الظلم والقهر تطرفاً وإرهاباً، هذا كله هو ما سيؤدي إلى قدوم المسلمين الذي تخشونه، وسياساتُكم هي التي ستجعلهم يغـُذون السير للوصول.
هذا الواقع يؤكد أن الغرب مأزوم بسبب فشله المتعاقب في مواجهة الإسلام، وأنّ فرنسا مأزومة بسبب فشلها في دمج المسلمين، وفي تحريف الإسلام بإنشاء (إسلام فرنسي)! ويُتوقع أن تُغذِّي الخلافات الغربية الداخلية انقسامَ المجتمعات الغربية إزاء التعامل مع المسلمين، لتزيد الغرب تأزماً وإحباطاً. وهذا مما يفتح المجال للمتصدرين للعمل الإسلامي، لزيادة نشاطاتهم ومجالات دعوتهم، برسم مشاريع وخطط إضافية لأعمال الدعوة، ولتقديم مواضيع وأفكار يخاطبون الغربيين بها، ولغذِّ السير وحشد الطاقات على جبهات الصراع بين الإسلام والغرب.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمود عبد الهادي