الثلاثاء، 22 جمادى الثانية 1446هـ| 2024/12/24م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

نقض الأسس الفكرية للنظام الديمقراطي العلماني

 

بعد دراسة بحثية مفصلة استغرقت أكثر من خمس سنوات لأصول المبدأ الديمقراطي، العلماني، الليبرالي، الرأسمالي، في كتابنا: الصندوق الأسود للفكر الغربي، تبينت لنا الجوانب التالية التي تنقض الأسس الفكرية التي قام عليها ذلك المبدأ، وتظهر تناقضاتها المعرفية (الإبستمولوجية)، وتسلط الضوء على عجز الديمقراطية والعلمانية عن تشريع أي قانون يحقق العدالة في المجتمع، أو يبين الحقوق وينظمها، أو يبين المصلحة العامة التي ستتأسس الدولة لتحقيقها من خلال بيان:

 

  1. افتقار المبدأ الديمقراطي العلماني الليبرالي إلى وجود فكرة كلية (holistic world view) عن الكون والإنسان والحياة، الأمر اللازم لتشكيل منظومة فكرية تصلح معها إطارا تنبثق منه أسس عقدية تنبثق عنها أنظمة لمعالجة المشاكل، سواء أكانت مشاكل اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية.
  2. لم يقدم المبدأ الديمقراطي العلماني سَرْدِيَّةً أو روايةً تفسرُ فيها للإنسانِ الغايةَ من وجودِهِ:

أ‌-   فلم تَسْرُدْ له قصة وجوده وارتباطه بالخالق وبالكون والحياة، وأثَر ذلك التفسير على سلوكه بما يتضمنه من تفاصيل منهج الحياة الذي يجب أن يعيش على أساسه.

 

ب‌-   وبما يحويه من نظرية قيمية تحدد للإنسان القيم التي يعيش لتحقيقها أو التي يمكنه اتخاذها مقاييس لأعماله.

 

ت‌-   وفوق ذلك، فإنها عمدت إلى فصله عن الرواية أو التفسير الذي يمتلكه هو عن الكون والإنسان والحياة، بما عمدت إليه من قطع الحبل السُّرِّيِّ بينه وبين ذلك المنهج، وتلك القيم، فلا هي قدمت له منهجا ولا تفسيرا، ولا حتى حفلت بالقيم، ولا تركته يعيش وفق منهجه وتفسيره وقيمه! وهذا الأمر تناقض عقلي، وإشكال فكري ضخم.

 

ث‌-   فإن إدراك الغاية من الوجود ليس بالأمر الثانوي الذي يمكن أن تتجنبه الأيديولوجيات بسهولة، ولا يمكن أن يكون أثر انعدامه من التصور على حياة البشر إلا مدمرا، إذ لا يمكن بحال إحداث شرخ فكري في العقل البشري بين التصور عن الغاية من الوجود والمنهج والقيم من جهة، وبين الحياة من جهة أخرى، كما ولا يصح أن تخلو الحياة من ذلك التصور، والعلمانية إنما هي فصل لذلك التصور عن الحياة نفسها!

 

ج‌-    كذلك، إن فصل منهج الحياة - الذي تريد العلمانية للإنسان أن يخطه بعيدا عن أي معتقد يضع له تصورا عن وظيفة ذلك الإنسان في الحياة (الغاية من وجوده، والمسئوليات والتكاليف المترتبة على هذا التصور) - هو أمر بالغ في التناقض! فكيف لإنسان أن يعزل منهج حياته عن السؤال المركزي المتعلق بدوره ووظيفته ومسئولياته التي وجد في هذه الحياة ليقوم بها!

 

ح‌-    حيث إن ذلك التصور عن الوجود والحياة لا بد وأن يعطي آلية (ميكانيزما) أو طريقة أو منهجا يبين السلوك والاعتقاد الذي يجب القيام به لأجل بلوغ تلك الغاية أو ذلك الهدف الذي لأجله يعيش الإنسان في هذه الحياة!

 

  1. انطلق النظام الديمقراطي العلماني من منطلق مادي بحت، قاطعا العلاقة بما وراء الطبيعة:

أ‌-   فقطع أواصر الحبل السُّرِّيّ بين الأحكام والأفكار وبين مفاهيم "الخير والشر" و"الحسن والقبح" و"الثواب والعقاب"؛ ومفاهيم الخير والشر ليست مفاهيم مادية، ولا يقع الحس عليها لقياسها أو إخضاعها للتجربة، وبالتالي "فالضمير الأخلاقي" أو "الإنساني" مفاهيم غير مادية، فكيف ستبحثها العلمانية وتؤسس عليها مرجعية للسلوك لوصفه بالأخلاقي؟

 

ب‌-   وزاد الطين بِلَّةً قطع العلاقة بين الأحكام وبين أي مرجعية دينية أو عرفية أو خلقية ليضمن "المحايدة"، وبالتالي قطع الصلة بين الأحكام وبين القيم التي يراد تحقيقها منها (إلا القيمة المادية النفعية البحتة، والتي فشل أيضا في تحديد ضوابطها، والتي دفعت للتأسيس لتحقيق الملذات والرفاهية، والتحرر كأساس لتقييم نمط العيش!).

 

ت‌-   إذ إنهم بدلا من أن يضعوا القواعد الأخلاقية سياجا، نظروا في عواقب الأفعال، فقاسوا السلوك من خلال عواقبه ونتائجه، فالفعل حسن إن جر نتيجة حسنة، ولكننا بحاجة لميزان نعرف معه أن النتيجة حسنة على الحقيقة؟ فاكتفوا بالنفعية (Utilitarianism) المادية؛ الأساس الذي بنت عليه الحضارة الغربية مفهوم السعادة، والتي ارتبطت بها فكرة اللذة (Hedonism) الحسية، وفكرة الرفاهية (Welfare) كمقاييس غائية، لكننا نعلم أن التبرير النفعي البراغماتي للأخلاق يفقد الأخلاق قيمتها، والنفع والضرر متقلبان، فالفعل نفسه يجر منفعة لشخص وضررا للآخر، أو نفعا حينا وضررا حينا آخر، أو نفعا آنيا يعقبه ضرر، فلا يمكن أن تصلح النفعية أساسا لاختيار النظام الأخلاقي الذي سيسود المجتمع، إذ ستصبح مفاضلة أي نظام أخلاقي على آخر مسألة عشوائية لا يمكن الدفاع عنها.

 

ث‌-   فغابت كل المقاييس المرجعية التي يمكن أن تتسلط على الأحكام لضبطها، فلم يعد بالإمكان إصدار أي حكم، ولا إيجاد أي قيم مجتمعية جراء تطبيق الأحكام.

ج‌-    لذلك كان من الطبيعي أن نرى التحولات الفكرية العلمانية: تبدأ بمركزية الإنسان (سيد الكون، أو تأليه الإنسان وخضوع الطبيعة له)، لتتحول إلى مركزية الطبيعة (وإذعان الإنسان لها ولقوانينها ولحتمياتها)، ثم إسقاط فكرة المركزية، في عالم يسقط في قبضة الصيرورة، وتغييب الإنسان وتفكيكه وتقويضه على أساس تحويل المركزية للسوق الحرة، بعد نزع القداسة عن الطبيعة وعن الإنسان وتحويلهما إلى مادة استعمالية يوظفها القوي لحسابه، وأن نلاحظ تفكك الدلالات أو تعددها أو تفلتها من الحدود والقيود، الأمر المفضي إلى هلامية المعرفة ونسبيتها!

 

ح‌-    والمفضي إلى قيام الأفكار على أساس الصراع الدارويني بين الإنسان والإنسان (على شكل صور منها بين القوي والضعيف (الاستعمار من قبل من لهم الحق فيه، والمستَعْمَرين المتكيِّفِينَ) أو بصورة عنصرية تكرس تفاوت البشر، أو الصراع بين الإنسان والطبيعة!).

 

  1. انطلق النظام الديمقراطي - العلماني من منطلق نسبية الحقيقة؛

أ‌-   فقد جعل فلاسفةُ الحداثةِ النسبيَّةَ أصلا في المعرفة كلها، فالعقل لديهم لا يمكنه اقتناص المطلق، فلا معايير أو مطلقات أو كليات، ليس ثمة إلا النسبية المطلقة!

 

ب‌-    وجعلوا التغيير والمرونة (ضد الثبات والسعة والقدرة على التجديد) الأساس في حركة المجتمعات والتشريعات التي تنظمها، على أساس دوام التطور والحركة، فالإنسان عندهم كائن متغير، ومن ثم ينبغي أن تكون الأحكام التي تنظم حياته متغيرة، فلا تصلح له شريعةٌ جوهرها الثباتُ (في نظرهم). وأن هذا يعني الحَجْرَ على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدي!

 

على الرغم من أن الواقع يضج بعكس رؤيتهم، إذ إن ماهية الإنسان وجوهره لا يعتريهما أي تغيير، فالإنسان هو هو عقلية ونفسية وميول وسلوك منذ أبي البشر آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، بما فيه من طاقة حيوية تتمثل بغرائز وحاجات عضوية تشكل ماهيته، وبمحدودية طرق إشباع تلك الطاقة الحيوية، وثبات التقنينات التي تنظم ذلك الإشباع تنظيما صحيحا، وأن هذا لا يتغير بالوسائل المستجدة وتغيرها، وقد يتغير الواقع فعلا، فيحتاج الواقع الجديد لتقنين، إلا إن التقنينَ المنظِّمَ لواقع معين محدد ليس عرضة للتغيير لأنه يعالج ذلك الواقع معالجة معينة يفترض فيها أنها صحيحة!

 

  1. انطلق النظام العلماني من منطلق بناء مصادر التشريع والتنظيم، وتبيين "المصلحة العامة" على بدائل وضعوها لما كانت الكنيسة تصطلح عليه باسم "الحق الإلهي" عبر ما أسموه:

أ‌-   الحالة الطبيعية الافتراضية السابقة للمجتمعات والحكومات، (والتي يخرجون منها إلى التنظيم والاجتماع بواسطة العقد الاجتماعي)،

 

ب‌-   والحق الطبيعي، (أي الحرية الممنوحة لكل إنسان لكي يستخدم قدراته الطبيعية، وسلطته، والوسائل المتاحة له للبقاء، أو المحافظة على طبيعته الذاتية)، طبقا لما اصطلحوا عليه بالعقل السليم.

 

ت‌-   والقانون الطبيعي، (مقابل: القانون المدني الوضعي) أي: "العقل السليم" بما يتفق مع الطبيعة أو مجموعة القواعد الثابتة وغير المكتوبة والواجبة الانطباق على كافة الأفراد في كل المجتمعات نظراً لأنها تجد مصدرها في الطبيعة ذاتها حسب تصورهم. فهو نوع من الأخلاقية الواجبة الانطباق في كل مكان وزمان مثل أفكار العدالة والمساواة. واعتبروا هذا النوع من القانون ليس من صنع المشرع، وإنما هو متأصل في الطبيعة البشرية. (انطلق بعض منظري العلمانية إلى أن الأساس أن الإنسان في الحالة الطبيعية شرير وذئب، وانطلق آخرون للتأسيس على وجود قانون طبيعي يقوم على العقل السليم، وهذا تناقض كبير)، والحق الطبيعي والقانون الطبيعي كان في مرة أصلا تبتنى عليه التشريعات، وفي مرة ابتلعه "العقد الاجتماعي" لأنه مؤسس على حرية فردية مطلقة قوامها إنسان شرير وابتلعه القانون المدني الذي ألغى الجوانب الأخلاقية في التشريعات بحجة تحقيق المحايدة والموضوعية.

 

ث‌-   وغابت عنهم حقيقة أن الحقوق تتحدد بالمفاهيم الحضارية والثقافية التي يعتنقها الأفراد، ولا تولد مع الإنسان "حقوق طبيعية"، وإنما تتميز الحضارات بما تبنته من مفاهيم وأنظمة تتمايز بمدى موافقتها للفطرة ولطبيعة الإنسان، وبقدرة تشريعاتها (أو عدم قدرتها) على تنظيم حاجاته العضوية وغرائزه تنظيما متوازنا يقر الغرائز ويشبعها دون كبت ولا إطلاق، وتنظم ذلك الإشباع بأنظمة معينة؛ الأصل أن تفضي لتحقيق غايات فردية ومجتمعية، وتحديد الحقوق وتنظيمها، والأصل فيها أن تفضي لتحقيق العدالة!

 

ج‌-    وغاب عنهم أن دوام تغيير القوانين والتشريعات يتعارض مع تحقيق العدالة المطلقة، فلا يعود لما يسمى بالقانون الطبيعي أي معنى. وأن تعدد المصالح وتشعب طرق إشباعها واختلاف الناس في تنظيم ذلك الإشباع يفسد "المساواة الطبيعية"، ولا يعود لما يسمى بـ"العقل السليم" من وجود في ظل تفاوت العقول وتحكم الأهواء والرغبات والميول، وتأثير الثقافات وغير ذلك من العوامل.

 

  1. وفشل النظام الغربي في تحديد "الإرادة العامة"، ونظَّروا لبناء المصلحة العامة على "الإرادة العامة"، وقالوا إنها هي إرادة مجموع المجتمع لا أغلبيته ولا إرادة فئة منه دون غيرها، وهي عندهم محصلة ناتجة بعد هدم الإرادات المتفرقة، المتصارعة للأفراد، التي تقدم مصالحهم الذاتية على المصلحة العامة، وهي المصالح المتفق عليها، والتي تحقق توجيه الدولة نحو الهدف من إنشائها.

أ‌-   لكن بالنظر المدقق نجد أنه صحيح أن المصالح العامة التي ينتج عنها اجتماع الناس تحتاج لحلول يرضى عنها المجتمع، إلا أن هذه الحلول ومناسبتها للأفراد وللمجتمع، وصحة تلك المعالجات والتشريعات وإنتاجها للخير أو للشر، للصواب أو للخطأ، للحسن أو للقبح، وتحديدها لطبيعة الحقوق وإحقاقها وتنظيمها هو المعضلة الكبرى، وهذه لا تكون نتاج "خير عام" أو "عقل سليم"، بل هي مجال خصب - إن تركت من غير تشريع إلهي عادل - لاستغلال القوي لحاجة الضعيف (البنك - المقترِض)، (أصحاب رأس المال - الموظفين)، ومرتع وخيم لقيام المجتمع على أعرافٍ بالية أو حلول خاطئة تجسد الظلم والقهر والحرمان للضعفاء وللنساء وللعبيد، أو تكرس الشهوات كالزنا والشذوذ، وهكذا، فلا ضمان على سلامة المعالجات إن تركت لتشريع البشر.

 

ب‌-   أضف إلى ذلك أن كيفية تجسيد الإرادة العامة في الواقع معضلة ضخمة، إذ إن اجتماع الناس على صعيد واحد لتقرير ما يصلح لهم وما لا يرضونه أمر مستحيل، وافتراض أن البرلمان يمثل آراءهم في الحقيقة هو وهم وتضليل، فالبرلمان لا يمثل رأي الأغلبية، ولا رأي الشعب.

 

ت‌-   والإرادة العامة من غير خير عام متفق عليه أو مصلحة عامة تسعى لتحقيقها غير واقعية، خصوصا في ظل التفسيرات المتضاربة بين الناس للخير والمصلحة والحلول للمشاكل، وفي ظل غياب وجود المنظور الجماعي الأخلاقي الواحد للخير والفضيلة،

 

ث‌-   وفي ظل مشكلة أن السعي لتحقيق مثل هذا المنظور سيفضي إلى التضارب مع فكرة التعددية، التي اعتبروها أساسا لقيام المجتمع الديمقراطي العلماني، وسيفضي إلى فرض قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود المجتمع، الأمر المتناقض مع المجتمع الديمقراطي العلماني التعددي، والذي يهدد بتحويل العلمانية إلى "دين"،

ج‌-    لهذا كله يستحيل وجود "الإرادة العامة" التي تؤسس لتحديد "المصلحة العامة" والتي ستكون مرجعية للتشريعات والقوانين.

 

ح‌-    و"الخير العام"، و"العقل السليم"، والإخاء والحرية والمساواة، كلها لا تضع مقاييس فكرية تبين الغايات التشريعية أو الضوابط الأصولية التي توضح كيفية ضمان أن تفضي تلك العلاقات والأنظمة لحلول صحيحة سليمة ترفع الظلم وتجسد العدل وتحقق قيما مجتمعية تسعد الإنسان، وتترك ذلك لمصطلحات غامضة، وما يعتبره البعض خيرا ومحققا للمصلحة يراه الآخرون شرا وضررا محققا، أو متعارضا مع أهوائهم.

 

خ‌-    إذ إن العبرة ليست بمجرد إصدار حكم أي حكم، وإنما في ضمان صوابية الحكم ومقدرته على معالجة مشاكل بشرية متعلقة بذلك السلوك علاجا صحيحا، الأمر الذي لا يحيط العقل به لكثرة الملابسات الخارجية عنه وتعقيداتها، فالأهواء تجعل بعض العقول تميل للزنى، ولشرب الخمر، فلا يكفي ذلك لجعل الحكم الصادر عن العقل صوابا، فَقَدْ فُقِدَ الميزان والمقياس السليم، والفطرة والميول قد يتأثران بعوامل خارجية وثقافية تجعل فطرة الغربي غير فطرة المسلم، والعقول تتراوح قوة وضعفا، دقة في الفهم وضبابية، فلا يتأتى للعقل القدرة على الحكم على كل الأفعال في مختلف الظروف والحالات لغياب عوامل غيبية، أو بسبب نظرة جزئية غير شاملة، أو مرجحات يتبين فسادها فيما بعد، أو مما قد لا يتفطن له العقل من فهم مجزوء للواقع، تقلب الحكم إلى نقيض الصواب في عواقبه، فما تراءى له مصلحة أو جالبا لمنفعة اتضح له أن الشرَّ يكمن في أحد زواياه المعتمة، إذ لا علم له بشكل قاطع بمآلات الأفعال ونتائجها، لهذا السبب درجت تشريعات البشر على الانتقال والتقلب من أقصى النقيض إلى نقيضه.

 

د‌-      إذ ليس للأفعال قيمة ذاتية توصف على أساسها بأنها خير أو شر، وإنما وصف الخير والشر يأتي باعتبارات وملابسات خارجية عن الفعل، (أي من النظام، والذي بدوره لا بد أن يضمن صحة معالجاته لتحقق صواب الوصف بالخير أو الشر، والتي لا تتمثل إلا بنظام إلهي المصدر) بغض النظر عن النفع والضر، الحب والكره.

 

ذ‌-      وقام تأصيل مبدئهم على ضرورة تنازل الفرد عن حريته المطلقة، وسيادته، مقابل تحقيق الدولة له الاستقرار والأمن والنظام، أي خضوع الإرادة الحرة للإرادة العامة. مُؤْثِراً المصلحة العامة على الخاصة. فتتركز السلطة في يد دولة يخضع لها الكل ويخافونها، سلطة مطلقة غير مقيدة أقوى من كل الأفراد، وفوقهم، إذ إن الاتفاقات من غير السيف (القوة) ليست سوى كلمات، من خلال عقد اجتماعي ليمنعهم من الاستسلام لطبيعتهم (الحالة الطبيعية) الشريرة.

 

ر‌-      وهذه المفاهيم (الحالة الطبيعية، الحق الطبيعي، القانون الطبيعي، الإرادة العامة...الخ) كلها مفاهيم فضفاضة غامضة، مشبعة بالتناقض، قابلة للتأويل والتغيير والتضارب بحيث يصعب على المشرع مراعاتها، وما أشد استحالة أن تتفق مجموعة من العقول على تحديد أساس يمثل الخير العام المرضي عنه من الأغلبية.

 

ز‌-      من هنا، فلم يعد لمفهوم الإرادة العامة من وجود في الواقع، فالعلاقات في المجتمع لم تبن على أساس دراسة إرادات المجموع، ومن ثم طرح ما تناقض منها جانبا، واصطفاء الباقي ليمثل "الإرادة العامة"، ونظرتها لعلاقات المجتمع، بل إن العلاقات - في واقع الحال في الدول العلمانية الديمقراطية - قامت على تطويع تلك الإرادات للقوانين والتنظيمات التي ارتأتها الفئات المتحكمة في المجتمع والدولة (الأحزاب السياسية والرأسماليون، والمشرعون).

 

س‌-   والعلمانيون إذ ينطلقون من منع الدين من فرض أي تصورات على المجتمع والدولة، وينطلقون من حصر دور الدولة في أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف، على حد تعبير هوبز نفسه، فإنهم يعودون ويضعون هذه المهمة على عاتق الدولة، فكيف نوفق بين دور القوانين والتشريعات، وبين أن لا تنهك الدولة نفسها بمنع التصرفات؟

 

ش‌-   وفي الواقع نرى أن الإفراز الطبيعي لنظرية الحق الطبيعي لا بد وأن يكون عبر التناقضات المجتمعية غير المحدودة، والتي لا تُحَلُّ إلا بفرض سلطان الدولة واضطلاعها بمهمة التشريع بصورة تفرضها على المجتمع، خصوصا في ظل النقاط التي ستلي والتي توضح أن هذه التشريعات لا تمثل الإرادة العامة ولا تجسد سيادة الأمة.

 

  1. فشل النظام الديمقراطي العلماني الليبرالي قانونيا في ضمان تحقيق مبدأ السيادة للأمة أو أن يجعلها مصدر السلطات على الحقيقة، فلا أصل السلطة السياسية، ولا مصدرها آت من الإرادة العامة للأمة. فلا يكتسب النظام شرعية قيامه من الأمة التي هي - نظريا - صاحبة السيادة، والتي يفترض بأن ينبثق عنها في سبب وجوده، والتي يجب أن يستند إليها في استمراره!

أ‌-   إذ فشل في تقنين نظام يضمن تمثيل القائمين على وضع التشريعات والقوانين لرأي المجتمع وفقا لما يحقق تمثيل كل منهم لإجماع الأمة أو حتى لرأي الأغلبية، بحيث لا تتركز السلطات في أيدي قلة مستبدة بالقرارات. وباستقصاء النظر وتتبع نتائج الانتخابات المختلفة في العالم في المواقع المتخصصة بتلك المتابعات وجدنا أن الانتخابات لم تكرس رأي الأغلبية، ولا كان الفائز فيها نتاج رأي الأغلبية، وقد وثقنا هذا في غير موضع من هذا الكتاب.

 

ب‌-   وأهملت الديمقراطية تماما النظر إلى آراء شريحة الممتنعين عن التصويت، المعرضين عن الانتخابات حتى ولو كانوا 40 أو 80 بالمائة من الشعب! وتضع اللوم عليهم، ولا تطرح سؤال استفتائهم في النظام برمته، بل تستعمل الانتخابات ورأي المصوتين وسيلة لإضفاء الشرعية على الحاكم أو النائب مهما كان رأي من رفض التصويت!

 

ت‌-   كما وقد تغافل النظام الغربي عن وضع آليات لمشاورة الناس في التشريعات التي تهمهم بحيث تعكس إرادتهم أو نظرتهم للخير أو المصلحة (إلا نادرا)، ونواب البرلمان لا يرجعون إلى قواعدهم الشعبية التي انتخبتهم لاستشارتها، ويتصرفون تصرفا ذاتيا يُحكّم رأيهم الخاص بهم، وما خلا المسائل التي وردت في وعودهم الانتخابية، فإن الغالبية الساحقة من المسائل التي تعرض لهم خلال وجودهم في البرلمان لم يُنْتَخَبوا على أساسها، فإما أنهم يرجعون فيها لرأي أحزابهم السياسية أو لرأيهم الشخصي، فهم لا يمثلون الشعب في تلك الآراء، الأمر الذي تنعدم فيه إمكانية ضمانة حقوق الناخبين أو تحقيق مصالحهم أو تمثيلهم على الحقيقة.

 

ث‌-   وإذا رجعت الهيئات التشريعية في التشريعات والأحكام لرأي الخبراء، فإن الواقع أن المجتمع لم يخول هؤلاء "الخبراء" بتحديد المصلحة العامة وسن التشريعات بالنيابة عنهم!

 

ج‌-    وحيث ينظم الدستور (وهو: مجموع القواعد التي يجبرُ السلطانُ الناسَ على اتباعها في علاقاتهم، وتحدد أنظمة الحكم القائمة على تشريعات وقوانين تبين شكل الدولة وصفتها، وقواعدها وأجهزتها في الحكم والإدارة، والأساس الذي تقوم عليه، (أي: "الأساس الفكري، أي مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تُرعى الشئون بمقتضاها والذي يحدد حقوق الأفراد، وينظم العلاقة السياسية بين الدولة كسلطة تقوم على رعاية شئون الناس، وحماية حقوقهم ورعايتها وبينهم")، وفق مفاهيم تضبط العلاقات العامة أي العلاقات الدستورية وتضبط العلاقات بين الراعي (أي السلطة العامة) والرعية، وتحدد مفاهيم ومسؤوليات الدولة الرعوية، وتبين حدود واختصاص كل سلطة في الدولة)، فإننا إن أنعمنا النظر في هذه المفاهيم القانونية نرى أنها كلها أمور تتطلب الاختصاصات القانونية والتقنية، وهي غير متوفرة عند الأمة أو عند النواب أنفسهم، لذلك فمجرد مناقشتها من النواب يعتبر خوضا في مسائل لا اختصاص لهم بها، ولذلك فإن الأمة بمجموعها تجهل مثل هذه الأمور تماما كما يجهلها مجلس النواب نفسه. من هنا فالقول بأن الديمقراطية هي حكم الشعب ليس له واقع إطلاقا.

 

ح‌-    كما وفشل النظام الغربي في تحقيق المرجعية القانونية التي تستوجب الطاعة للدستور أو للقوانين من الشعب، سواء أكانت تمثل رأي الأغلبية، أو كانت تمثل رأي الجهات المخولة بصياغة القوانين والدستور، حيث إن الأغلبية إذا تصرفت باسم الجماعة أضحى دور الفرد هو الطاعة العمياء لإرادة الأغلبية، وكما اتضح، فإن الدستور لا يمثل انعكاسا لإرادة الأمة ولا تم تقنينه بالتشاور معها، فمن الذي فرض طاعته عليها؟ ما هو المسوغ القانوني لطاعته إذن؟

 

خ‌-    وحيث إن المرجعية القانونية في الدولة العلمانية هي الدستور؛ ولكنه وثيقة وضعها مجموعة من المتشرعين والفقهاء الدستوريين، وعرضت على مجلس النواب (البرلمان) للتصويت، وكما أسلفنا، فمواد الدستور ليست من اختصاص النواب ليكون رأيهم فيها صائبا، وهم لا يمثلون إرادة الشعب كما أثبتنا، إذن: فما هي السلطة المؤسسة لوجوب طاعة هذه الوثيقة أو بناء الثواب والعقاب على أساس تلك الطاعة وعدمها، وبناء اعتبار السلوك "حسنا" أو "قبيحا" بموافقته أو مخالفته لما رأته تلك المجموعة من البشر التي وضعت الدستور والتشريعات التي انبثقت عنه؟ وهذه معضلة قانونية ضخمة، لا حل لها!

 

د‌-      وعليه فإن الدستور نفسه، والذي صاغته هيئة المتشرعين والفقهاء الدستوريين لا يحظى بمرجعية تمثل إرادة الأمة، فيسقط عنه واجب الطاعة لأحكامه جملة وتفصيلا! وحيث إن التشريعات بنيت على الدستور فهي أيضا تفتقر لمسوغ لطاعتها!

 

ذ‌-      فالتشريع في الأنظمة العلمانية على الحقيقة هو نتاج عقول وأهواء قِلَّةٍ من المحامين والقضاة وفقهاء القانون، والسياسيين المتنفذين، لا نتاج إرادة الشعب، ولا نتاج ما تراه الجماعة أو أكثرها محققا لمصالحها.

 

ر‌-      وفشل النظام العلماني الديمقراطي في التأصيل للقوة المعيارية للقانون، أي: لمن الحق في إخبار الناس بما يجب عليهم (أو لا يجب) فعله، وليس فقط ما يجب عليهم (أو لا يجب عليهم) فعله تحت طائلة العقوبة، إذا كان من يضع الدستور لا يحظى بتمثيل الإرادة العامة، ولا بتمثيل الشعب، فمن خوله بحق إخبار الناس بما عليهم فعله أو تركه، فلماذا على المجتمع أن يطيع ما وثقته الهيئة التشريعية المكونة من بضعة أفراد (فقهاء دستوريين ومحامين وبعض السياسيين) من دستور ارتأته للدولة، ومن ثم فرضت القوانين التي رأتها مناسبة لتلك الدولة، وعلى الأفراد كلهم أن يطيعوها!

 

ز‌-      وافترض النظام الغربي بأن على الأقلية أن تخضع لرأي الأغلبية (الديمقراطية) بما تقوم عليه من نزعة جماعية، دون بيان المسوغ القانوني والأخلاقي لذلك الخضوع،

 

س‌-   ومن ثم ناقض نفسه بأن فرض رأي الأقلية (الليبرالية حين زاوجها بالديمقراطية عبر ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية) بما تقوم عليه من نزعة فردية، ضمانا لحرياتهم، على الأغلبية دون بيان المسوغ القانوني والأخلاقي لذلك الخضوع وذلك التناقض.

 

ش‌-   وبنى فلسفة الليبرالية على أساس انعدام القيم الجماعية المشتركة المحددة للسلوك الفردي، إذ قوام الليبرالية عدم وجود وحدة مجتمعية مخوّلة بتحدد القيم المجتمعية، أو السلوك المقبول مجتمعيا من جهة الأفراد، ضمانةً لتحقيق الحريات وضمانةً لعدم التسلط على الفرد بما يحد من قدرته على "التفكير والإبداع" حسبما نظّروا.

 

ص‌-  وحيث إن المجتمع بناء على النظرة الغربية الليبرالية عبارة عن كومة من الأفراد"، و"كومة من الأقليات"، (الأقلية ليس من باب العدد، وإنما التأثير والقوة)، فالنساء والمعوقون والشواذ جنسيا والمهاجرون وأصحاب البشرة الداكنة والأطفال والمسنون والجماعات الدينية والعِرقية والعمال وشرائح المجتمع المختلفة ينظر لها على أنها "أقليات" تُفصَّل لكل منها حقوق معينة، لكن أيا منها لا ينعم بوصف "الأغلبية"، حتى يؤثر في سير الحكم أو التشريع، الأمر المتناقض مع منطلقات الديمقراطية الإبستمولوجية. فكيف نوفق بين تغييب الأفراد وإلزامهم الطاعة العمياء لإرادة الأغلبية، (الديمقراطية) وبين غياب النظرة إلى المجتمع، (الفردية) وانعدام القيم الجماعية المحددة للسلوك الفردي (الليبرالية)؟

 

ض‌-  وكيف سيتم التزاوج بين مذهبٍ يحارب الفردية ويحارب تحكم القلة، ويمنعُ الأقلياتِ أو الأفرادَ حقوقَهُمْ إن تعارضت مع حكم الأغلبية، ويُجْبِرُهُمْ على الخُضُوْعِ للأكثريةِ، ويحد من حرياتهم (وهو الديمقراطية)، مع مذهب يمنع الكثرة من الاستئثار بمقاليد التشريعات، ويرتكز على تحقيق الحرية الفردية وعلى حقوق الأفراد ويحارب خضوعهم لرأي الأغلبية لأنه سينفي عنهم حرياتهم (وهو الليبرالية)! يقول ستيوارت مِيلْ بعد أن لم يعد يعتنق الاتجاهات الديمقراطية التي ميزت القرن الثامن عشر: "إن مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية... بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية".

 

ط‌-    والدولة التي ركزت على الفردانية، وعلى فكرة الأقليات، نتج عنها بالضرورة تشظي المجتمع، فلم يعد فيه كيان يفرض القوانين والتشريعات بحكم امتلاكه أي سلطة مادية أو معنوية (كالكثرة مثلا)، ما يترك المجال خاليا للسياسيين وأصحاب النفوذ في المجتمع (القلة المهيمنة) من أصحاب المال والنفوذ ليسرحوا ويمرحوا في سن التشريعات كما يحلو لهم، وليفرضوا رؤاهم على المجتمع والدولة.

 

ظ‌-    من العلوم القانونية الموازية لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية علم فلسفة القانون، الذي صار يحتل مكانة رائدة في الدراسات القانونية الغربية تحت مسمى: Legal philosophy، نظرا لطبيعة موضوعاته التي تركز على الاهتمام بدراسة الغايات والحكم التي تكمن وراء النظم القانونية، والكشف عن العلاقة بين القانون والمجتمع،

 

إلا أن هذا العلم يصطدم مباشرة بالأسس الفكرية الفلسفية التي تقوم عليها الديمقراطية والعلمانية اصطداما إبستمولوجياً معرفياً لا يمكن حله.

 

إذ إنه لا بد من وجود القيم والمقاييس التي يراد لها أن تسود المجتمع أو أن تكون غايات للتشريعات، مثل تحقيق الأمن، والخصوصية، والحفاظ على النفس والمال، والعدالة،

 

ولكن وجود مثل هذه القيم والمقاييس يتعارض مع الأساس الفكري للعلمانية والديمقراطية، ولما يسمونه بالمجتمع التعددي؛ إذ إن وجود المقاييس والقيم خطر على فكرة التعددية من جهة، إذ إنه يتضمن - في نظرهم - فرضا لرؤى معينة على المجتمع تصادر حق الإنسان في التفكير،

 

وهذا يتعارض مع الأساس الذي انطلقت منه العلمانية في محاربتها جعل الدين أساسا حين اتهمته بأنه ثابت جامد يفرض رؤى معينة ويصادر حق الناس في التفكير،

ع‌-    ومن جهة ثانية: تجعل التشريعات جامدة، في حين إن طبيعتها في نظرهم أنها نسبية ومتغيرة، لأن طبيعة الإنسان والحياة أنها متغيرة دائما، فلا يمكن للتشريعات أن تكون جامدة في نظرهم، وبالتالي إذا اتصلت بقيم يراد تحقيقها في مجتمع متغير فإنها ستتسم بالثبات والجمود، أو أن القيم والمقاييس نفسها تتسم بالثبات والجمود، وهذا ضد التطور والتغيير،

 

غ‌-    فإذا لم ترتبط التشريعات بالقيم والمقاييس، فهذا الأمر سيفتح الباب على مصراعيه لمناقضة العدالة، فما كان حراما اليوم يصبح فرضا غدا، فحين حاكَمْتَ بائع الحشيش بالأمس وسجنته لأنه ارتكب جريمة، تفتح له اليوم محلا في كل ناصية شارع ليبيع الحشيش قانونيا ورسميا، فلا شك أن سجنك له بالأمس ظلمٌ له في منظور قانون اليوم، وإذا تبين لك خطأ حكم اليوم وحظرت الحشيش ثانية، فإنك لن تحقق العدالة في أي حال من الأحوال.

 

ف‌-  الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لتفريغ التشريعات من أي غايات ومقاصد مجتمعية تسعى لتحقيقها، وهذه معضلة قانونية تشريعية لا حل لها، وهذا الحال هو كحال من يطلق الرصاص على قدميه.

 

  1. فشل النظام الديمقراطي العلماني الليبرالي في تحديد المصلحة العامة بصورة تمثل رأي سواد المجتمع، أو أغلبيته؛ فما توصلت إليه النظم السياسية من حلول سنتها على صورة قوانين وتشريعات تمثل "المصلحة العامة" إنما تمثل في الحقيقة رأي المتشرعين والقانونيين والفقهاء الدستوريين وليس إرادة الشعب.

أ‌-   لا يوجد سلطة في العلمانية لتحقيق أو إنتاج الأخلاق، ففي ظل غياب وتغييب الدين، فإن كل شيء مباح، ولا توجد معايير فكرية تبين القيمة الخلقية، أو تنتجها، لقد خلت العلمانية من تفسير لماذا يجب عليك أن تفعل هذا أو تترك فعل هذا، وخلت من معايير تبين لنا ما هو الخير وما هو الشر، وخلت أيضا من وضع نظرية قيمية تتخذ مقاييس لأفعال الإنسان،

 

ب‌-   فشل في وضع المقاييس المعيارية المرجعية الضامنة لصحة القوانين، والتي تظهر قدرتها على حل المشاكل، وتحديد المصلحة العامة، خصوصا في ظل انعدام القواعد العقدية أو الفكرية التي يعول عليها في معرفة الحق من الباطل، والخير من الشر.

 

ت‌-   فمسألة الحق والصواب من المصطلحات الأخلاقية المبنية على الدين والمبادئ والقيم أو التقاليد، وليست مصطلحات علمية أو منطقية تثبت بالأدلة والمنطق.

 

فمن الممكن للأغلبية أن تتخذ قرارا "رسميا"، من خلال عملية سياسية منظمة، ويكون القرار ضارا بآخرين من أفرادٍ وأقلياتٍ كثيرةً على أسس عرقية أو مذهبية أو جنسية أو فكرية.

 

ث‌-   أو ضمانة تلك المقاييس المعيارية لتحقيق الأحكام والتشريعات لمجموعة من القيم الاجتماعية التي يراد أن تسود المجتمع على صورة أعراف مقبولة (مقاصد تشريعية).

 

ج‌-    وفي ظل غياب القواعد المنطقية العقلانية التي تحدد الغايات المجتمعية خارج إطار الاختيار الفردي، ذلك الاختيار القائم على تحقيق مصالح الفرد الآنية ورغباته، الأمر الذي لا يضمن تجانس هذه الخيارات الفردية مع السلوك الاجتماعي للأفراد، ولا يضمن الإبقاء على وحدة الجماعة وعلى أمنها.

 

ح‌-    وحيث إنه من المستحيل أن تجمع أو تجتمع غايات الأفراد على حلول واحدة تمثلها أو تمثل أغلبيتها، في نطاق تشعب المشاكل وتشعب الأفكار التي يمكن أن تحل بها تلك المشاكل وتنوعها، فإن الشُّقَّةَ والبَوْنَ سيتسعان ما بين المصالح الفردية والمصالح العامة التي تستنبط منها أو تستثنى منها بحسب تنظيرهم للإرادة العامة.

 

خ‌-    وعَوَّل النظام الغربي على أن قرارات الأغلبية تعد أخلاقيا صحيحة، دون مسوغ عقلي لذلك التعويل، فأضفى على الشعب (أو على نواب الشعب أو أغلبيته النيابية) صفة العصمة من الخطأ، دونما مبررات لما يريد الشعب أو تريده تلك الأغلبية النيابية، على الرغم من أن النتائج الواقعية لديهم أثبتت حاجة تلك القرارات للتغيير والانتقال من النقيض للنقيض، فأصبح المجتمع حقلا للتجارب. فالغالبية ليست دائما على حق، والكثرة العددية لا تُشكّل ضماناً أكيداً للحقيقة والمصلحة والخير العام.

 

د‌-      بدراسة مبدأ سيادة الأمة نجد أنه ليس من أهدافه ضمان وكفالة منع الاستبداد أو الاستئثار بالسلطة، ولا وضع قيود أو حدود على السلطات، ولا تترتب أي من النتائج تلك على ذلك المبدأ حين تطبيقه، بل إنه يشكل خطرا على الحريات والحقوق الفردية التي ستصبح رهينة إرادة الأغلبية البرلمانية.

 

  1. وفشل في منع تركز السلطات واستغلالها في يد القلة.

أ‌-   يرى الأستاذ الدكتور محمد مفتي والدكتور سامي الوكيل أن "مشكلة الاستبداد لم تنشأ لوجود مشكلة تركز السلطات إنما وجدت أساسا لانعدام القواعد الشرعية الثابتة في الفكر الغربي. ما أدى إلى ربط التشريع والتنفيذ بالفرد أو الهيئة الحاكمة التي سعت من منطلق رغبتها في دعم قوتها إلى سن قوانين جذرت الاستبداد الفردي.

 

ب‌-   أما الشريعة الإسلامية فقد جاءت بأنظمة وتشريعات ثابتة لكافة جوانب الحياة ومنعت الحاكم من تجاوزها مطلقا، وأكدت أن تجاوزها يؤدي إلى خروج الحاكم عن الإطار الإسلامي المتضمن للشرعية ما يستلزم "عدم الطاعة" للحاكم الجائر في المعصية، والنصيحة له أو الخروج على الحاكم إذا تحققت الشروط المؤدية إلى ذلك من كفر بواح، فضلا عما نصت عليه الشريعة من حقوق الرعية في محاسبة الحاكم وإنكار المنكر".

 

ت‌-   بدراسة الأنظمة الغربية المختلفة وجدنا تركيزاً للسلطات في يد قلة، تتمثل في الأحزاب الحاكمة الحائزة على أغلبية برلمانية، إذ تجمع بين الأغلبية البرلمانية (السلطة التشريعية) وبين السلطة التنفيذية حين تشكل هي الحكومة، فتتحكم بمقدرات الدولة تشريعاً وتنفيذاً خلال فترة حكمها، فالدولة على الحقيقة هي الحزب الحاكم تنفيذاً وتشريعاً.

 

ث‌-   ومن أشكال تداخل السلطات أن للسلطة التنفيذية الدور الكبير الرئيس في تعيين قضاة المحكمة العليا، وعزلهم، وبالتالي فالقضاء الذي يتعين ويتغير بقرار السلطة التنفيذية قد لا يكون مستقلا استقلالا تاما، فلا بد من ضمانات! والمهم هنا هو وجود التداخل بين السلطات.

 

ج‌-    وغني عن القول إن الدستور أصلا هو من وضع مجموعة من القانونيين والقضاة وهؤلاء إن قيل يرجع البرلمان للإقرار بدستورهم فهو تجسيد لتداخل السلطات، وعلى كل فتدخل القضاة بسن الدساتير تدخل في السلطة التشريعية.

 

ح‌-    وكذلك فإن المحكمة الدستورية تراجع القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، وتمنع القوانين التي تتعارض مع الدستور، فقد وضعت سلطة قضائية ووضع على رأسها المحكمة الدستورية، فهي أعلى مرتبة في القضاء، والحل والفصل الأخير يرجع إليها لتنظر في دستورية التشريعات الصادرة من السلطة التشريعية وتراقب تنفيذها من السلطة التنفيذية،

 

خ‌-    وكذلك تشكل مسألة ثقة السلطة التشريعية بالحكومة أي بالسلطة التنفيذية أو سحب الثقة فتسقط الحكومة، تداخلا بين السلطتين، فالحكومة التي تتعرض للثقة من السلطة التشريعية غير مستقلة،

 

د‌-      إن توزيع السلطة يقضي على مبدأ المسؤولية وكيفية تحديدها الأمر الذي يؤدي بكل سلطة إلى التهرب من المسؤولية وإلقاء اللوم وعبء المسؤولية على السلطة الأخرى.

 

إلى غير ذلك من التداخل بين السلطات الأمر الذي قوض فكرة الفصل بين السلطات، وركزها في يد قلة.

 

الخلاصة: إذن، فهذه بعض أهم النقاط التي تكشف عن أن الأساس الذي قام عليه النظام الديمقراطي الليبرالي العلماني أساس واه، لا يصلح لإنتاج تشريعات ولا للتوافق مع الأسس الفكرية التي بنيت عليها تلك النظريات، ولم ينجح في التوفيق بين تلك الأسس، وبالتالي فَقَدْ فَقَدَ كل مسوغ لوجوده واستمراره، وقد ثبت أنه يكرس تحكم الأحزاب السياسية التي تخدم الطبقات الثرية في المجتمعات، وأنه لا يمثل سيادة الشعب ولا إرادته، ولا يمتلك أي مسوغ لطاعته في الدستور والتشريعات، الأمر الذي يفتح الباب واسعا للعودة للأصل السليم، وهو وضع التشريعات والتنظيم لحياة البشرية في يد التشريع الإلهي الرباني.

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

ثائر أحمد سلامة

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع