السبت، 11 شوال 1445هـ| 2024/04/20م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

مؤتمر الخلافة السنوي 2023

الكلمة الثانية

انهيار دولة الحداثة ولا خلاص إلا بالإسلام

الأستاذ عبد الرؤوف العامري

 

ضيوفنا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

 

يعقد اليوم حزب التحرير في ولاية تونس، مؤتمره الثاني عشر، والأمة الإسلامية تتلمّس طريقها نحو الخروج من حضيض الهبوط الروحي، والتخلف المادي، والتأخر الفكري، والانحطاط السياسي الذي يُكبلها بعد أن أُسقطت دولتُها منذ سنتين ومائة سنة، وهي الآن تنوء بعبء عدوين لا يقل أحدهما خطرا عليها من الآخر؛ عدو خارجي، وعدو داخلي يعيش بين جنبيها.

 

أما العدو الخارجي فيتمثل، أساسا في الدول المؤثرة بالموقف الدولي، التي لا تهدأ حالة الصراع السياسي بينها، وقد تصل حد التنازع العسكري، إلا أنه يظل صراعا من أجل المنافع، ومن أجل التموقع في هيكل المنتظم الدولي، للفوز بقصب قيادة دول الهيمنة العالمية، وأحقية الفائز منها في هذا النزاع، بتوزيع الأدوار السياسية على البقية، وفرض خريطة التحالفات والعداوات، ضمن المشترك بينها فكريا واقتصاديا، وثقافيا واجتماعيا. أما نزاع هذا المنتظم الدولي مع أمة الإسلام فهو صراع وجود، وسعي للاستئصال. فأمريكا التي تقود هذا الصراع اليوم، وبعد أن اصطنعت أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، قد أعلنت في دول الموقف الدولي، ثم باقي دول العالم، بجملة مؤسساتها السياسية، والإعلامية، والمخابراتية، والعسكرية أن تنحني تحت شعار "من ليس معي فهو ضدي"، في حربها على الأمة الإسلامية، ونُظم حياتها المنبثقة عن عقيدتها، تحت مسمى (الحرب على الإرهاب). وذلك بقتل المسلمين، وتشتيت جامع كيانهم، وتدمير مقومات اقتصادهم، والعمل على تحطيم إرادتهم، وسلبهم طاقة القرار الذاتية، وربطهم ببرامج التقهقر والإفلاس والانحطاط، في حياة خالية من سياسة الإسلام. ولما لم يكن للإسلام والمسلمين كيانهم السياسي، كان قرار دول الموقف الدولي، وسائر دول العالم دون استثناء، ألا يكون للإسلام كيانه السياسي، لأنه لا يمكن وجود كيان للمسلمين إلا إذا كان هذا الكيان سياسيا.

 

وأما عدوها الدّاخلي الذي يعيش بين جنبيها، فهم حكامها الذين فرضتهم عليها دول الهيمنة العالمية، هم والوسط السياسي الذي نبتت فيه بذرة هؤلاء الحكام الخبيثة، وطبقة المثقفين من أربّاء حضارة الاستعمار، ومؤسساتهم التي تطبخ فيها أحابيل المكر بالإسلام وأهله، حتى عاد الجميع حرابا يضربنا بها أعداء الله ورسوله، ومعاول هدم يحطّمون بها كيان أمتنا، بالطعن في أفكار الإسلام ومشاعره، والانتقاص من شخصية المسلم المميزة بالطعن في عقليته وهز نفسيته. هذا العدو الداخلي أنيطت به مهمة إدارة الشأن العام على مقتضى مصالح الاستعمار وشركاته الناهبة، حتى لم يعد يُرى من حل لكل الأزمات التي تجرّها علينا دولة حداثتهم، إلا ما تمليه عليهم الدوائر الاستعمارية ومراكز دراساتها.

 

ضيوفنا الكرام:

 

في هذه الظروف وتحت تلك العوامل فإن السياسات التي وقع انتهاجها في بلادنا بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير، التي تحركت فيها إرادة أهلنا للانعتاق من نمط الحياة الغربي الكافر المناقض لمفاهيمنا، ومعالجاته الخاطئة، تلك السياسات التي اتبعتها كل الحكومات؛ حكومة الباجي، والترويكا، والمهدي جمعة، والصيد، والشاهد، والفخفاخ، والمشيشي، ثم حكومة سعيد، سعت وتسعى جميعها إلى تأبيد حالة التبعية حضاريا وسياسيا واقتصاديا للاستعمار، وإفشال المسار الحقيقي للثورة، مقابل حكمهم للبلاد تحت ذريعة المحافظة على الدولة، المسماة بدولة الحداثة، حتى غدا شعار قيس سعيد اليوم، "الواجب المقدس يقتضي اليوم حماية الدولة والوطن". تلك الدولة التي وقعت بلادنا تحت رجسها منذ أن فرضت عليها بنود عهد الأمان ودستور 1861، والتي يُزعم فيها أن السيادة يجب أن تكون للشعب، يقرر بكامل إرادته ما يحقق مصالحه عن طريق ممثلي الأحزاب في البرلمانات، أو النواب المستقلين، وما أولئك النواب في الحقيقة إلا حسابات جارية، ومشاريع استثمار تابعة للطغمة المستأثرة بالثروة والسلطة في الغرب المستعمر. وليست السلطة المزعومة في الدولة الديمقراطية أنها للشعب، إلا مخادعة مفضوحة يكذبها الواقع، لأنّ نظام الانتخابات بالشكل الذي تفرضه الديمقراطية يؤدي حتما إلى اجتماع السلطة والثروة في يد تلك الطُغمة نفسها صاحبة الثروة والسلطة في عواصم الغرب. ذلك لأنّ رأس المال هو الذي يمول الإعلام، الذي يمارس بكفاية عالية صناعة الرأي العام حسبما تريده تلك الطائفة النَّكِدة، وهو الذي يمول بما يسمونه هم المال الفاسد في الانتخابات، وهو الذي يمول الأحزاب التي تتنافس في الانتخابات، ولا سبيل إلى تمويل الجهات الثلاث إلا هذا، ومن ثمّ فلا شيء من عناصر العملية الانتخابية يخرج عن السيطرة.

 

تمر فصول المسرحية تحت عنوان حرية الإرادة والاختيار للشعب، وهي في الحقيقة فتح الباب أمام هذا الشعب المضلّل نحو التفسخ والانحلال والشذوذ والإلحاد داخل مستنقع الفقر، لإلهائه عن حرية الرأسمالي في حيازة السلطة والثروة كما يشاء.

 

ضيوفنا الكرام:

 

هذه دولة الحداثة، سليلة الاستعمار التي قامت على أنقاض دولة الإسلام التي هدمها الكافر المستعمر بمعونة الخونة من الترك والعرب، التي يريدون تأبيد أسْر تونس في شراكها، هي الدولة التي يتوعد رئيس الدولة قيس سعيد "الساعين لضرب الدولة والتآمر على أمنها" بالويل والثبور، كما ورد في كلمته يوم 29/12/2022، الدولة التي لم تُبق من موارد ماليتها إلا ما تجبيه من عرق المقهورين بعد أن فرطت في مقدراتنا وثرواتنا للأعداء ومكنتهم من رقابنا، أو ما يفرضه عليها وحوش المال العالميون من قروض ربويّة مدمرة، لم تزد البلاد إلا رهقا.

 

- الدولة التي ترتكز سياستها المالية على فتح بلادنا على مصراعيها أمام رأس المال الأجنبي، وجعلت من رجال الأعمال المحليين مجرد مقاولي مناولة لدى ضباع المال العالميين.

 

- الدولة التي رفعت الدعم عن قوت المسحوقين، رغم تصحُّر سوق العمل، حتى لم يبق أمام الطاقات الشابة إلا الهجرة المنظمة، وغير المنظمة تحت بصر السلطة، ومراقبة دول الملجأ.

 

- الدولة التي تضخ الأموال العامة في البنوك، ثم تمكن الفاسدين من قروض لا يؤدونها، ثم تتعمد الخطأ في الإجراءات حتى لا تتمكن البلاد من استرجاع الأموال المكدسة في المصارف العالمية.

 

رغم كل هذه الإجراءات النكدة التي اتخذوها فينا طاعة لأسيادهم وخدمة لمصالحهم، ورغم النتائج الكارثة التي جروها على البلاد والعباد لا زالوا يصرون على التشبث بهذه الدولة التي حدّ حدودها قرار اتخذه سايكس في عشرين دقيقة، ثم ثبّت في أيديهم رايتها العمّية. دولة يدعون فيها إلى المواطنة، وما نال (مواطنوها) من بريق الديمقراطية الزائف، وشعارات الوطنية الجوفاء، إلا النكد رفضا لدولة الإسلام، دولة الرعاية والرعوية، التي يقول المولى عز وجل لحاكمها والمحكومين في محكم التنزيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]، وهي الدولة التي يحذّر رسول الله ﷺ حاكمها كما روى عنه معقل بن يسار رضي الله عنه حين قال: »ما من عبد يَسْتَرْعِيْهِ الله رَعِيَّةً، يموت يوم يموت، وهو غاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ؛ إلا حرَّم الله عليه الجنة«، وهي الدولة التي يخاطب حاكمها الرعية بقوله: "أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله". إنهم يريدوننا أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. فقبحه الله من عرض، وقبح من عرف الحق وأعرض عنه.

 

ضيوفنا الكرام:

 

إن مدار الصراع هو لمن السيادة، هو صراع بين الحق والباطل، وبين النور والظلام، وبين الكفر والإيمان، أي بين الأمة الإسلامية، حاملة رسالة خالق الكون والإنسان والحياة إلى البشرية كافة، من جهة، وبين عقيدة فصل الدين عن الحياة ونظامها المنبثق عنها، من جهة ثانية. والسيادة ومهما اختُلف في تعريفها لا تعدو كونها "التفرد بالحق في إنشاء الخطاب الملزم"، أي الانفراد بحق اتخاذ القرار. ودولة الحداثة وديمقراطيتها خصّت الطُّغمة المهيمنة على المجتمع، صاحبة المال والجاه، بهذا التفرد بحق إنشاء الخطاب الملزم، من دون الله سبحانه وتعالى، خالق الكون والإنسان والحياة. في حين إن مقتضى حقيقة الإسلام، وجوهر التوحيد، ومعنى ومبنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" هو إفراد الله بالسيادة، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].

 

وعلى هذا كان ارتباط الطبقة السياسية؛ حكاما ومعارضة، في بلادنا وسائر بلاد المسلمين، بالاستعمار، حين رهنوا قرارهم بإرادة ذاك المستعمر، ما أدى إلى استحالة الوصول من خلالهم إلى خلاص البلاد من سطوة الاستعمار.

 

وأمام انفضاض الناس في تونس وفي سائر بلاد المسلمين من حول هؤلاء النواطير الذين انطلت عليهم فتنة الديمقراطية والحداثة وأشربوها حتى عميت أبصارهم وبصائرهم عن إدراك الحق، واستطابوا العيش في مرابض الذل عبيدا لدى سادتهم الغربيين الكفار، وبعد فشلهم الذريع في إدارة الشأن العام، وانكشاف خياناتهم لدى أبناء الأمة أتوا بفرية فشل الإسلام السياسي، كأن الإسلام حكم يوما ما منذ أسقطت دولته، وأقاموا جبالا من التضليل أمام عقول الناس، وكتبوا الكتب في ذلك، وعقدوا المجالس والمنتديات، ليقنعوا العوام، أن دعكم من الإسلام السياسي، ودعكم من العمل لإقامة الدولة الإسلامية، تحت ذريعة أن الإسلام ليس فيه نظام حكم يمكن أن يستجيب لمتطلبات حاضر الإنسان وتطوره، وأن ليس للإسلام قدرة على معالجة تعقيدات اقتصاد القرن الواحد والعشرين، وأن كل حركات الإسلام السياسي ليس لها من الخبراء والمفكرين والاستراتيجيين القادرين على معالجة معضلات الراهن الفكري والسياسي والمادي، كأن عيون وأسماع هؤلاء الذين يهرفون بهذا البهتان قد عميت وصُمّت أن ترى وتسمع لهذه الثقافة التي أعدها حزب سياسي مبدؤه الإسلام، وعمله السياسة، يعمل بين الأمة ومعها لتتخذ الإسلام قضية لها، وليقودها لإعادة الخـلافة والحكم بما أنزل الله إلى الوجود، هو حزب التحرير، وذلك لأن الإسلام هو وحده المبدأ الصالح في هذا الوجود، يتفق مع الفطرة، ويقوم على معالجة الإنسان من حيث هو إنسان. فالدعوة لإقامة الخلافة، ليست لأن النظم الوضعية فشلت في تحقيق مصالح الناس فقط، بل لأنه ليس دون شرع الله حق. يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: 32]

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع