- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الرعاية الصحية في ظل نظام الإسلام ووحش الرأسمالية
قائمة جديدة تضمّنت زيادة أسعار الخدمات العلاجية بالمؤسسات العلاجية الحكومية بولاية الخرطوم تشمل المراكز الصحية والمستشفيات، حيث ارتفعت قيمة مقابلة الطبيب من 250 جنيهاً إلى ألفي جنيه، فيما خصّصت قائمة للأجانب وأخرى لأهل البلد.
وبلغت قيمة مقابلة الاختصاصي في العيادات المسائية للأجنبي 8000 جنيه، ولأهل البلد 4000 جنيه، أمّا الموجات الصوتية 12000 للأجنبي و4000 لأهل البلد. وقفز سعر ملف الإقامة الطويلة 4000 جنيه للأجنبي و2000 للسوداني بعد أن كانت قيمتها 500 جنيه، أمّا رسوم الإقامة بالجناح الخاص الممتاز لليوم الواحد فقد قفزت إلى 23000 جنيه للسوداني و46000 للأجنبي، أمّا فحص صورة أشعة الصدر العادية فقد ارتفعت إلى 6000 جنيه للأجنبي و3000 جنيه للسوداني.
تأتي هذه الزيادات ضمن الزيادات التي تتعلق بموازنة 2023م والتي جاءت تنفيذاً لأوامر صندوق النقد الدولي بإزالة التشوهات الاقتصادية وتقليل الإنفاق الحكومي كما عبر عن ذلك وزير المالية جبريل عندما قال "نحن مضطرون لأخذ إجراءات قاسية ومؤلمة". لذلك كان هناك عمل مبرمج ومقصود من الدولة لتدمير الصحة ولخصخصة هذا القطاع.
أما واقع الرعاية الصحية، في ظل نظام الإسلام، القيام على صحةِ الرعية بمراقَبَتِها وحِفْظِها وتَدبيرِ شُؤُونِها بما منْ شَأْنِهِ أنْ يوصِلَ إلى العافيةِ الجسديةِ والسَّلامةِ النفسيةِ. وهيَ تشملُ الوقايةَ منَ الأمراضِ قَبْلَ أنْ تَقَعَ، ومتابعتَها وعلاجَها إنْ وَقَعَتْ، سواء على صعيدِ الفردِ أوِ المجتمعِ.
وقدْ جعلَ الشرعُ الرعايةَ الصحيةَ منْ مسؤوليةِ الدولةِ والخليفةِ مباشرةً، وعلى الدولةِ أنْ تقومَ بها، ظاهرٌ في أنها منَ الرعايةِ الواردةِ في حديثِ: «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». إنَّ عدمَ توفيرِ الرعايةِ الصحيةِ للرَّعِيَّةِ يُؤَدِي إلى الضررِ، وإزالةُ الضررِ واجبةٌ على الدولةِ، قالَ ﷺ: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ»، رواهُ الدارقطني وهوَ عندَ الحاكمِ صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ، فمنْ هذهِ الناحيةِ أيضاً كانتِ الرعايةُ الصحيةُ واجباً على الدولةِ.
هذا منْ ناحيةِ الأدلةِ العامةِ على كَوْنِ الرعايةِ الصحيةِ واجبةً على الدولةِ، أما الأدلةُ الخاصةُ على الوجوبِ فقدْ روى البخاريُّ في الأدبِ المفردِ والتاريخِ الصغيرِ بإسنادٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ عنْ محمود بنِ لبيدٍ قالَ: «لَمَّا أُصيبَ أَكْحَلُ سَعْدٍ يَوْمَ الخَنْدَقِ فَثَقُلَ، حَوَّلوهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ يُقالُ لَها: رُفَيْدَة، وَكانَتْ تُداوي الجَرْحى، فَكانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذا مَرَّ بِهِ يَقولُ: كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟، وَإِذا أَصْبَحَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَيُخْبِرُهُ». وتحويلُه رضي الله عنه كانَ بأمرٍ منهُ ﷺ، فقدْ ذكرَ ابنُ إسحاقَ في قصةِ سعد بنِ مُعاذٍ رضي الله عنه لمَّا أصابَهُ السهمُ بالخندقِ أنَّ الرسولَ ﷺ قالَ: «اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حَتّى أَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ»، ورُفَيْدَةُ هذهِ هيَ امرأةٌ منْ أَسْلَمَ كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى خِدْمَةِ الضَّائِعِ (أَيْ ذي الضَّياعِ مِنْ فَقْرٍ أَو عِيالٍ أَوْ حالٍ قَصَّرَ عَنِ القيامِ بِها) وَالذِي لا أَحَدَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، كما ذَكَرَ ابنُ إسحاقَ في السِّيرةِ والواقديُّ في المغازي. وقولُهُ ﷺ: "اجْعَلُوهُ" دليلٌ على أنهُ كانَ يرعَى كرئيسِ دولةٍ والذي هوَ القائدُ الفعليُّ للجيشِ، ومعَ أنَّ سَعْداً رضي الله عنه كانَ منْ أفرادِ الجيشِ إلا أنَّ المستشفى لمْ يَكُنْ خاصّاً بالجيشِ وإنما كانَ عامّاً لِكُلِّ منْ بِهِ ضيعَةٌ منَ المسلمينَ كما وَرَدَ في روايةِ ابنِ إسحاقَ. ورُفَيْدَةَ هذهِ سَمَّاهَا ابنُ سعدٍ كُعَيْبَة كما قالَ البُخاريُّ في الأدبِ المفردِ، والمهمُ أَنَّها كانَتْ مديرةَ المستشفى الحكوميِّ الذي كانَ مُكَوَّناً مِنْ خيمةٍ واحدةٍ مضروبةٍ بأمرِ رئيسِ الدولةِ في المسجدِ. وفي الحديثِ إِشارةٌ إِلى أنَّ مديرةَ المستشفى لمْ تأخُذْ أجراً منَ المرضى، بلْ كانتْ تَحْتَسِبُ بنفسها على منْ كانتْ بِهِ ضَيْعَةٌ منَ المسلمينَ، أيْ على فقراءِ المسلمينَ، بِمَعْنَى أنهمْ لمْ يَكونُوا يدفعونَ أُجرةَ التطبيبِ وإنما كانَ علاجُهُمْ دونَ مقابلٍ. وهذا التطبيبُ المجانيُّ لمْ يَكُنْ خاصّاً بالفقراء فقطْ، لأنَّ سعداً وهوَ سيدُ بني عبدِ الأشهلِ لمْ يَكُنْ بِهِ ضيعةٌ وَتَلَقَّى التطبيبَ أيضاً دونَ مقابلٍ. فعلى الدولةِ توفيرُ التطبيبِ للرعيةِ كُلِّها، فقيرِها وغنيِّها. وكانَ لرُفَيْدَةَ عَطاءٌ منَ الدولةِ، فقدْ ذكرَ أبو عمر بنُ عبدِ البرِّ في الاستيعابِ عنِ الواقديِّ أَنَّها شهدتْ خيبرَ معَ رسولِ اللهِ ﷺ فأسهمَ لها سهمَ رَجُلٍ، والواقديُّ في المغازي مقبولٌ وإنْ ضَعَّفُوهُ في الحديثِ. وَذَكَرَ الواقديُّ أيضاً أنَّ نِساءَ المسلمينَ اللاَّتِي شَهِدْنَ خيبرَ كنَّ يداوينَ المرضى والجرحى، وَذَكَرَ أَنَّهُ ﷺ أَسْهَمَ لَهُنَّ.
وقدْ طَبَّقَ الخلفاءُ الأحكامَ المتعلقةَ بها على نحوٍ نفتقدُهُ اليومَ رَغْمَ ما وصلَ إليهِ العالمُ منْ تَقَدُّمٍ مَدَنِيٍّ وَتَطَوُّرٍ عِلْمِيٍّ، وقدْ شهدَ الغربيونَ أنفسهمْ بذلكَ، فَالمسيو جومارُ أَحَدُ علماءِ حملةِ نابليونَ كَتَبَ واصفاً أحدَ البيمارستناتِ (المستشفياتِ) التي بُنيتْ قبلَ ستةِ قرونٍ منْ حملتِهِ على مصرَ:
"وكانَ يَدْخُلُهُ (أيِ البيمارستانُ) كلُّ المرضى، فقراءَ وأغنياءَ، بدونِ تمييزٍ، وكانَ يُجْلَبُ إليهِ الأطباءُ منْ مختلفِ جهاتِ الشرقِ وَيُجْزَلُ لهمُ العطاءُ، وكانتْ لهُ خزانةُ شرابٍ وصيدليةٌ مُجَهَّزَةٌ بالأَدويةِ والأَدواتِ. ويُقالُ إنَّ كلَّ مريضٍ كانتْ نفقاتُهُ ديناراً، وكانَ لهُ شخصانِ يقومانِ بخدمتِهِ، وكانَ المُؤَرَّقُونَ منَ المرضى (أيِ المرضى النفسيونَ) يُعْزَلُونَ في قاعةٍ منفردةٍ يُشَنِّفُونَ فِيهَا آذانهمْ بسماعِ ألحانِ الموسيقى الشجيةِ أوْ يتسلونَ بسماعِ الحكايَا يُلْقِيهَا عليهمُ الحَكَوَاتِيُّ. وكانَ المرضى الذينَ يستعيدونَ صحتهمْ ويتماثلونَ للشفاءِ يُعْزَلونَ عَنْ باقي المرضى في فترةِ نقاهةٍ. وكانَ يُعطى لكلِّ مريضٍ حينَ خروجِهِ منَ البيمارستانِ خمسُ قطعٍ منَ الذهبِ، حتى لا يُضْطَّرَ إلى الالتجاءِ إلى العملِ الشَّاقِّ في الحالِ". وَقالَ بريس دافِن المستشرقُ الفرنسيُّ واصفاً نفسَ البيمارِسْتَانِ: "كانتْ قاعاتُ المرضى تُدَفَّأُ بإحراقِ البخورِ أوْ تُبَرَّدُ بالمراوحِ الكبيرةِ الممتدةِ منْ طرفِ القاعةِ إلى الطرفِ الثاني، وكانتْ أرضُ القاعاتِ تُغَطَّى بأغصانِ شجرِ الحناء، أوْ شجرِ الرُّمانِ، أوْ بفَسَائِلِ الشُّجَيْرَاتِ العطريَّةِ".
هذا ولمْ تَسْلَمِ الرعايةُ الصحيةُ مِنْ جَوْرِ الرأسماليةِ، ولمْ تَنْجُ منْ أنظمتِها وطريقةِ عيشِها، فأضْحَتْ أداةً لرؤوسِ المالِ، يستغلونَها - كما استغلُّوا كلَّ شيءٍ - لمصِّ دماءِ المرضى الضعفاءِ وأموالهِم، ولإشباعِ جَشَعِهِمْ وَنَزَوَاتِهِمُ التي لا تشبعُ. ومنْ فُحشِ الرأسماليةِ، أنْ ظهرَ الفسادُ في كلِّ نَواحي الرعايةِ الصحيةِ تقريباً: في نظامِ التأمينِ الصحيِّ وشركاتِهِ، وشركاتِ الأدويةِ وأبحاثِها، واستغلالِ هذهِ الشركاتِ للأطباءِ واستغلالِ الأطباءِ للمرضى. وظهرَ الفسادُ كذلكَ في بِدْعَةِ الملكيةِ الفكريةِ وبراءاتِ الاختراعِ، حتى غَلا سعرُ الدواءِ وثمنُ الرعايةِ الصحيةِ وَأَضْحَتِ القضيةُ هيَ تحقيقَ الربحِ على حسابِ حاجةِ المرضى للعلاجِ والرعايةِ. وَكما في كُلِّ مكانٍ دخلتهُ الرأسماليةُ، لا بقاءَ ولا حياةَ للضعيفِ، ولا قيمةَ إلا للمالِ.
لقدْ ضَجَّ الغربُ نفسُهُ بهذا الفسادِ الصحيِّ، ما اضْطُرَّ دولَهُ إلى الترقيعِ على عادتِها، وتوفيرِ بعضِ الرعايةِ الصحيةِ القاصرةِ لرعاياها تخديراً لهمْ وصرفاً عنْ إزالةِ أصلِ الفسادِ. ولكنَّ هذا الترقيعَ كانَ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً. فيكفي أنْ نقولَ إِنَّ في الولاياتِ المتحدةِ نفسِها أكثرَ منْ 46 مليونَ أمريكيٍّ بدونِ أيِّ تأمينٍ صحيٍّ، منْ بينهمْ أكثرُ منْ 8 ملايينِ طفلٍ دونَ الثامنةَ عشرةَ. أيْ أنَّ هؤلاءِ لا يتلقونَ مِنَ الدولةِ أيَّ علاجٍ أوْ رعايةٍ صحيةٍ. وكعادةِ الرأسماليةِ فالفئاتُ الضعيفةُ في المجتمعِ لا مكانَ لها ولا حقوقَ سوى الحقِّ في خدمةِ الرأسماليينَ. فالسُّودُ في أمريكا مثلاً تكثُرُ فيهمُ الأمراضُ بمقدارِ ثلاثةِ أضعافِ البيضِ. وأما مرضُ الإيدزِ الذي أنجبتهُ حضارةُ الرأسماليةِ، فإنَّ السُّودَ همْ ضحيتُهُ الأولى، ونرى أَنَّ منْ بينِ كلِّ عشرةِ آلافِ أمريكيٍّ يموتُ في كل عامٍ 27 منَ الإيدزِ، بينهمْ 3 فقطْ منَ البيضِ والباقونَ منَ السُّودِ. هذا فضلاً عنْ مخلفاتِ الرأسماليةِ الصحيةِ في بلدانِ العالمِ الثالثِ، التي يشيبُ منْ هولِها وبشاعتِها الولدانُ، فقدْ أَشَرْنا فقطْ إلى بعضِ الأرقامِ والفسادِ في البلادِ المتقدمةِ مدنِيّاً.
وإذا شِئْنَا أنْ نقارنَ هذا الفسادَ الصحيَّ الرأسماليَّ الحديثَ في زمنِ التقدمِ المدنيِّ وتطوُّرِ العلومِ الصحيَّةِ، مَعَ الرعايةِ الصحيةِ الإسلاميةِ في القرونِ السابقةِ للثورةِ الصناعيةِ، نجدُ أنَّ الإسلامَ بعقيدتهِ العقليةِ الموافقةِ لفطرةِ الإنسانِ وشريعتهِ التي نَظَّمَتْ ونَسَّقَتْ إشْباعَ جميعَ غرائزِ الإنسانِ وحاجاتِهِ دونَ إِغْفالِ أيٍّ مِنْها أَوْ إِطْلاقِ بَعْضِها على حسابِ بعضٍ، نجدُ أنَّ الإسلامَ حَقَّقَ بهذهِ العقيدةِ والشريعةِ السعادةَ والصحةَ النفسيةَ في نفوسِ مُعْتَنِقِيهِ.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
إبراهيم مشرف
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان