- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
صناعة الأعداء للخونة والغافلين
من المقولات التي كان يرددها جنكيز خان: "عِدِ الخائنَ بمنصب، وهو سيقنع نفسه بأنه محق، وسيجد العديد من الأسباب ليصدق أنه في الطريق الصحيح".
كان المغول يَعِدون بعض الوزراء والمتنفذين في الدولة التي كانوا ينوون غزوها بمناصب فيخونون وينضمون لهم قبل الغزو، وبذلك كانوا يبدؤون غزوهم البلاد بشراء الخونة أولا، وهذا تماما ما فعله هولاكو مع ابن العلقمي أكبر خائن عرفه التاريخ، فقد خان الخليفة المستعصم في بغداد ورتب مع هولاكو إبان الغزو لقتل الخليفة واحتلال بغداد على أمل أن يسلمه هولاكو إمارة بغداد. وبقي المغول يعملون السيف في بغداد ما يزيد عن ثلاثين يوما وقتلوا على أقل تقدير ما يزيد عن ثمانمئة ألف، وجرت السيول من الدماء. ومات الخائن ابن العلقمي في كمد ولم ينل شيئا، وبعض الروايات تذكر أن هولاكو قتله.
الأعداء لا يتوقفون وهم كثر، فالكفار أعداء للإسلام والمسلمين، ولقد ذكر الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في نشراته وكتبه السياسية هذه الحقيقة وبلورها في فهم سياسي أصيل مفاده بأن جميع الدول الكافرة عدوة للمسلمين، إلا أن هذه الدول منها ما هو عدو محارب فعلي، ومنها ما هو عدو محارب حكما. فالأعداء كثر ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويحاولون شراء ذمم المسلمين وإيجاد الخونة والمتعاونين في صفوف المسلمين والحرص على نشر وإيجاد الجهل عند المسلمين ليسهل وقوعنا في الغفلة والخيانة. هذا هو حال الأعداء، هكذا هم وهكذا كانوا. قال تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
وأما الخونة والغافلون فدائما موجودون، في كل دولة وتحت كل سلطان، ولكنهم يكثرون ويقلون تبعا لقوة وعدالة الدولة أو ضعفها وجورها.
إن الدساتير القائمة في بلادنا اليوم كلها دساتير قائمة على عقيدة فصل الدين عن الدولة، فكلها دساتير قائمة على أساس الكفر، ولذا فإن الخيانة والتواطؤ والتعامل مع الأعداء والغفلة ازدادت بل صارت عبارة عن ظاهرة. فأنظمة الحكم القائمة اليوم قد استُحدثت وشُكّلت على أيدي المستعمرين الذين هدموا دولة الخلافة، وكثير من هذه الأنظمة شارك في خيانة الخلافة العثمانية أصلا وهدمها، أمثال حكام الأردن وحكام آل سعود. ولذا لا عجب أن تكون الخيانة مترعرعة ومتأصلة في هذه الأنظمة وفي وسطهم السياسي الموبوء.
ثم إن مجتمعات يحرص القائمون عليها على تجهيلها وشعوب جوعى ومحتاجة وفقيرة ولا تجد من يرعاها ولا من يقدم لها العون، بل لا تجد إلا من يجبي المال والمكوس والضرائب من جيوبها الفارغة، هي شعوب مخترقة وتربة صالحة لأعداء الله ليجتذبوهم ويصنعوا منهم الخونة والعملاء، وإذا كان القادة هم أصلا عملاء وخونة المستعمرين فسيكون بناء مجتمعات مخلخلة وركيكة ومخترقة أمراً ميسوراً وممكنا، ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾.
وهناك نوع آخر من أنواع الخيانة والعمالة غير المتعمدة وهو ما يطلق عليه بالغفلة: فالشعوب الجاهلة وغير الواعية يصبح المرء فيها خائنا أو عميلا أحيانا دون أن يدري أو يعلم بسبب الجهل والغفلة، فيكفي عدم الوعي على مخططات الأعداء أن يقع المسلم في غفلة، وما أكثر وقوع مثل هذه الغفلة والخيانة دونما قصد بسبب قلة الوعي والجهل على مخططات الأعداء. ومن أكثر الأمثلة وضوحا على ذلك الثورات العربية الأخيرة أو ما يسمى بثورات الربيع العربي، فقد تهبّ الشعوب استجابة لضغوط الواقع وجور الأنظمة للتغيير بدون وعي ودون سابق فهم أو تخطيط لعملية التغيير، فيقع قادات الثورة في حبال الأنظمة من جديد فيرتبط قادات التغيير والثورة بالنظام نفسه القائم أو بأنظمة أخرى ويقعون في غفلة ويخونون ثورتهم بقصد أو بدون قصد وتعود الشعوب إلى ما كانت عليه من ظروف سيئة قبل الثورة. فالغفلة صنو الخيانة، وما أكثر الغافلين اليوم والأمثلة عليهم قد ضاق بها الفضاء. ولكن الأمر المستهجن ليس هو الغفلة نفسها بقدر ما هو الاستمرار بها بعد أن يكتشفها الغافلون! ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.
إن أحسن وقاية وعلاج أولاً لتقليل وجود الخونة والغافلين في الدولة والمجتمع، وثانيا للوقوف بقوة أمام كثرة الأعداء الذين يحرصون على دوام وجود وإيجاد أولئك الخونة والغافلين، يكون باعتماد دستور خالص يقوم على العقيدة الإسلامية جملة وتفصيلا، يحرص الخليفة وطاقمه الحاكم على اتباعه بكل حذافيره، وتحرص الدولة والرعية على دوام تطبيقه، لأن تطبيق الإسلام هو الذي سيقلل من ظاهرة الخيانة والغفلة والتعاطي مع الأعداء، فدستور الدولة الإسلامي الصافي وتقوى الخليفة ومعاونيه وولاته وعماله في تطبيق الدستور سيجعل الرضا والقبول يتسللان لقلوب الرعية وعمال الدولة فيشعرون بعدالة النظام المتوازية مع عدالة الإسلام نفسه الذي يؤمنون به. قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً﴾.
كما أن دستور الدولة الإسلامي سيبني الأجيال المخلصة لدينها ودولتها والواعية على مخططات أعدائها فيصعب وقوعها في الغفلة، فهذا الدستور سيبين للناس العدو والصديق من الدول والشعوب وسيبعث الحياة والازدهار والتطور والرقي في كل جوانب الدولة فيعم الرخاء الاقتصادي وتزدهر العلوم والفنون والصناعات ما يجعل الرعية يخلصون أكثر وأكثر لنظام ودولة يشعرون بالأمان والطمأنينة على مستقبل أبنائهم وأجيالهم فيه حتى لو كانت الرعية من غير المسلمين.
عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْداً حَبَشِيّاً فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ». قال الشيخ الألباني: صحيح. وفي رواية «عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ».
إن تطبيق الدستور الإسلامي الصافي لسنوات قليلات فقط سيكون كفيلا بأن يقلب حياة الأمة مئة وثمانين درجة إلى الأفضل والأحسن والأصلح. فالإسلام معني بالقضاء على الفقر وتحسين حال الناس الاقتصادي وتحريرهم من المرابين والرأسماليين وجعلهم أسياد أنفسهم وأصحاب قرارهم، كما أن التعليم السليم الذي ستوفره الدولة في المساجد والمعاهد والمدارس والجامعات والإعلام والتلفزيون والفضائيات سيقضي على الجهل والغفلة، فالوعي خير سلاح أمام الأعداء وأمام الخيانة والغفلة.
فالتعليم والتوظيف والتثقيف والقضاء على الفقر ودوام تحسين أحوال الرعية الاقتصادية والاجتماعية وغيرهما كله من أهم أعمال ومهام الدولة في سياستها الداخلية، وهذا كله سيربط الرعية بدولتهم حين يرون أن حياتهم تتنظم وتتطور وأن أبناءهم وأجيالهم لهم دولة تحميهم وتسهر على رعايتهم. ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾.
إن وجود دستور مبني على أساس العقيدة الإسلامية، لا يقلل من وجود الخونة أو إمكانية وجودهم فقط، بل إن هذا الدستور سيكون بمثابة المصنع الذي سيبني الأجيال المؤمنة والمخلصة والحريصة على حماية دينها وأمتها. إن هذه الحالة من البناء والإنشاء للأجيال الحريصة على دينها وأمتها ودولتها سيجعل وجود الخونة يضمحل ويتلاشى، وسيجعل الأعداء الكثر في حيرة من أمرهم وفي دهشة من صلابة المجتمع الإسلامي ولحمته؛ دولة ورعية. ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
ومع مرور الوقت وظهور الأجيال الجديدة التي عاشت ونمت وترعرعت تحت حكم الإسلام ستتجذر الأصالة والعراقة من جديد في المجتمع والدولة وستكون الحياة الإسلامية قد تشكلت وتزينت في أبهى وأجمل أشكالها وصورها، فالذهب يزداد لمعانا مع مرور الوقت. ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
إن استئناف الحياة الإسلامية اليوم بإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي يعمل حزب التحرير لها سيعيد الأمور إلى نصابها وسيضع النقاط على الحروف، وستعاد صياغة الحياة من جديد وصهر الشعوب بأفكار وأحكام الإسلام، ما سيجعل وجود طراز خاص من البشر وبناء الشخصيات الإسلامية المتميزة مسألة وقت وجيز بإذن الله.
﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. فرج ممدوح