- الموافق
- 1 تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم
بين أبرهة والقرامطة
متى ينصر الله عباده بالمعجزة الإلهية؟ ومتى يترك الأمر للسنن الكونية؟
نقلت كتب السير قصة أبرهة الحبشي ومحاولته هدم الكعبة، وعقاب الله له ولجنوده بأن أرسل عليهم الطير الأبابيل، فأُبيدوا عن آخرهم، وهذه قصة مشهورة وفيها نزل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾.
ونقلت كتب التاريخ أيضاً قصة القرامطة، وهم طائفة من غلاة الشيعة، وما فعلوه بالكعبة المشرفة سنة 317هـ، حيث سرقوا الحجر الأسود وأبقوه عندهم لما يزيد على 22 سنة، بالإضافة إلى خلعهم باب الكعبة وسلبهم كسوتها وقتل الحجاج بعشرات الآلاف وسبي النساء والذراري. وذكر ابن كثير في تاريخه أن أبا طاهر القرمطي، زعيم القرامطة حينها، حين أمر جنده أن يقلعوا الحجر الأسود، جاءه رجل محتجاً فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟
والسؤال: لماذا حمى الله البيت الحرام في حادثة أبرهة وأرسل العقوبة الماحقة على من حاول الاعتداء عليه، في حين لم تتدخل الإرادة الإلهية في حادثة القرامطة واستطاعوا سلب الحجر الأسود لمدة 22 سنة دون أن ينالهم العقاب الدنيوي من الله؟
من الصعب الإجابة على مثل هذا السؤال بشكل قطعي، لأن الأمر يتعلق بتفسير الإرادة الإلهية، وفي غياب التعليل الإلهي يستحيل القطع بالسبب، إلا أنه يمكن التخمين دون ادعاء القطع.
باستعراض العقوبات الإلهية الماحقة التي وردت في القرآن للأقوام الذين كذبوا رسلهم ولم يستجيبوا لدعواتهم نجد أن العقوبات الماحقة كانت تحصل حين لا تكون للأنبياء أو أهل الحق قوة مادية أو سلطان لمعاقبة الظلمة، ونستعرض بعض الأمثلة:
في قوم نوح، كان سيدنا نوح عليه السلام مستضعفاً ولم تكن له دولة ولا سلطان مادي، وكذا بالنسبة لقوم صالح الذين عقروا الناقة، وقوم عاد وثمود، وسيدنا لوط عليه السلام، وسيدنا موسى مع فرعون، وفي قصة هجوم أبرهة،... في كل هذه الحالات، كانت الرسل أو أهل الحق لا يملكون سلطانا ماديا يمكنهم من الوقوف في وجه الظلمة، فتدخلت القدرة الإلهية وقصمت ظهور الجبابرة، بينما في قصة سيدنا سليمان وداود اللذين كانا يملكان سلطانا مادياً لم تحدث عقوبات ماحقة للمكذبين.
أما في سيرة سيدنا محمد ﷺ، فقد ذكرت كتب السير والحديث أن أهل الطائف حين كذبوا رسول الله ﷺ وآذوه وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم حتى أدموا قدميه الشريفتين، جاءه سيدنا جبريل فَناداه فقالَ: «إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئاً». صحيح البخاري، أي أن الإرادة الإلهية كان من الممكن أن تتدخل لمحق أهل الطائف عقابا لهم على سوء صنيعهم، لكن رحمة سيدنا محمد ﷺ بهم أمهلتهم. وأما في معركة أحد حين شُجَّ رأس النبي ﷺ وكسرت رباعيته، وهو موقف لا يقل أذى على رسول الله عليه الصلاة والسلام لم ينزل جبريل ويقترح ما اقترحه بالطائف، وذكرت كتب التفسير أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حين كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، جعل يسلب الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟!» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾.
إذن والله أعلم، الأمر متعلق بوجود القوة المادية عند أهل الحق الكفيلة بردع الظالمين، فإن انعدمت تدخل رب العالمين وقصم الجبابرة، وإن وجدت وإن كانت ضعيفة، ترك الله الأمر للتدافع البشري وللسنن الكونية، مع التوفيق الإلهي طبعا لأوليائه وإرسال الملائكة نصيرا في المعارك، لكن دون أن يصل الأمر إلى التدخل الإلهي الكامل دون الحاجة إلى أعمال البشر.
وبالعودة إلى الحادثتين اللتين بدأنا بهما، نقول إن في قصة أبرهة، كانت قريش قبيلة صغيرة لا تملك من الإمكانيات ما يؤهلها للوقوف في وجه هجوم أبرهة حتى لو جيشت كل قوتها، ولذلك قال عبد المطلب جد رسول الله ﷺ لأبرهة حين جاءه يطالبه بإبله: "للبيت رب يحميه"، فعبد المطلب كان يعلم يقينا أن الكعبة هي بيت الله، وأن الله لن يسلم بيته لعبث ظالم، كما كان يعلم أن قريشاً لا قِبَل لها البتة بجيش أبرهة. أما في حالة القرامطة، فقد كانت الدولة العباسية قائمة، وكان لديها ما يكفي من الإمكانيات لمعاقبة القرامطة واستئصال شأفتهم، لكنها كانت مقصرة، ولم تقم بكل ما يجب عليها القيام به، ولهذا والله أعلم لم يكن هناك تدخل إلهي مباشر وتُرك الأمر للسنن الكونية.
والسؤال الآن في أي الحالتين نحن اليوم: حالة الضعف وغياب السلطان التي تجعلنا في وارد انتظار الفرج الإلهي دون الحاجة إلى الجهد البشري، أم في حالة وجود القوة المادية الكفيلة بردع الظالمين والتي تخضعنا للسنن الكونية في التدافع؟ قد يتبادر إلى الذهن ابتداء أننا في الحالة الأولى أي الضعف وغياب السلطان المادي، لكن الواقع أننا لسنا ضعفاء وإنما استُضعفنا لأننا قصرنا في الأخذ بمكامن قوتنا، واستمرأنا الانقسام والابتعاد عن شرع الله، وتسلط علينا الحكام التابعون لأعدائنا فبالغوا في توهيننا وتثبيط عزائمنا، بينما نحن في الحقيقة نملك كل مقومات القوة عدديا وماديا وعسكريا وعلميا، و... ولو أحسنّا استعمالها لسُدنا العالم بدون منازع.
لماذا نقول هذا اليوم؟ لسببين:
1. لمن ينتظر المعجزة الإلهية التي تقصم أمريكا وتبيد كيان يهود وتزيح كل الظالمين، ولا يقوم بأي عمل من شأنه تحقيق ذلك، نقول له: أنت حالم، وحلمك هذا لن يحصل حقيقة إلا إذا شمّرت عن سواعد الجد، ورفعت الهمة، أما إذا استمررت في حالك فلن يتغير من واقعك شيء، وستظل في حفرة الاستضعاف والمهانة.
2. لمن يقول "للأقصى رب يحميه" كما قال عبد المطلب لأبرهة، ويستبعدون أن يتم هدم المسجد الأقصى على يد يهود، نقول له: نعم للأقصى رب يحميه، ولكن رب الأقصى أمركم بالذود عنه والدفاع عنه بالغالي والنفيس، وإطلاق هذه المقولة لتبرير القعود عن العمل لتحريره أو لتبرئة ذمم المتقاعسين عن تحريره بل والمطبعين مع مغتصبيه، وتعليق تحريره بمعجزة إلهية دون تدخل بشري... كل هذا حرام ويوقع صاحبه في الإثم، وإن كان يطلقه بحسن نية. إن استمرار القعود عن العمل لتحرير المسجد الأقصى وغض الطرف عن عبث يهود به وبأساساته، قد يؤدي بالفعل لا سمح الله إلى انهياره، إذا بلغ التنقيب تحته ما يوجب تقوض أعمدته وفق سنن الفيزياء. إن التحرير لن يحصل بمعجزة ربانية خالصة، وإنما بسواعد المؤمنين المؤيّدين بالتوفيق الإلهي.
إن التفريط بمكامن القوة وانتظار الفرج الإلهي دون أي جهد بشري هو دأب الحالمين المنفصلين عن الواقع، أما الجديون، والعاملون الحقيقيون المخلصون فيغذون السير، ويجدّون في العمل ويحاسبون أنفسهم على كل تقصير، ثم بعد ذلك يطلبون التوفيق والسداد من الله، هؤلاء هم الذين ينصرهم الله. فاللهم اجعلنا منهم.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمد عبد الله
وسائط
1 تعليق
-
هذا غير مناسب
إذن والله أعلم، الأمر متعلق بوجود القوة المادية عند أهل الحق الكفيلة بردع الظالمين، فإن انعدمت تدخل رب العالمين وقصم الجبابرة، وإن وجدت وإن كانت ضعيفة، ترك الله الأمر للتدافع البشري وللسنن الكونية، مع التوفيق الإلهي طبعا لأوليائه وإرسال الملائكة نصيرا في المعارك، لكن دون أن يصل الأمر إلى التدخل الإلهي الكامل دون الحاجة إلى أعمال البشر.