- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
السلطان الحقيقي لا يوهب ولا يمنح وإنما ينتزع ويؤخذ عنوة
منذ غياب الخلافة الراشدة عن الوجود بعد مقتل الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والسلطان ينتزع ويؤخذ بالقوة. حتى صار الحال كقاعدة في السياسة ومفهوم ثابت وراسخ. فبعد خلافة الراشدين رضوان الله عليهم تشبث الأمويون بالحكم - باستثناء الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رحمه الله - ولم يتركوه إلا بحد السيف، بل بمجزرة سطرها التاريخ بدماء الأمراء من بني أمية، وأما العباسيون فكان الحال أن تنازعوا الحكم فيما بينهم وصار انتزاع السلطة سنة بين خلفائهم منذ اقتتال الأمين والمأمون ولدي هارون الرشيد رحمهم الله جميعا، إلى أن جاء المغول وقتلوا الخليفة المستعصم وانتزعوا الحكم من المسلمين.
واختفت الخلافة لفترة من الزمان حتى عادت من جديد في مصر على يد السلطان الظاهر بيبرس لما أعاد الخلافة ولو بصورة شكلية لأحد أفراد السلالة العباسية الذين كانوا قد فروا من المغول واستقروا بمصر. فعادت الخلافة ولو بشكل رمزي للعباسيين مع أن الحكام الفعليين كانوا المماليك والسلاجقة، ثم العثمانيون إلى أن تنازل الخليفة العباسي الأخير في مصر عن الخلافة للسلطان العثماني سليم الغازي رحمهم الله جميعا. ولقد كان السلطان سليم الغازي فعليا هو المدافع والمنافح عن الإسلام والمسلمين وكان الخليفة العباسي عبارة عن رمز فقط دون أي سلطة حقيقية.
وهذا يري بوضوح أن الخلافة أو السلطان أو الحكم منذ ذهاب الخلافة الراشدة كان ينتزع ويؤخذ بالقوة للأسف، وهذا الأمر كان يتكرر ويحصل كلما كانت الدولة الإسلامية ضعيفة أو غير راشدة. وأما إذا كانت الخلافة راشدة فإن انتقال الحكم من خليفة إلى آخر يكون بطريقة سلمية حضارية راقية تسمى البيعة، حيث يختار المسلمون خليفتهم الذي يشاؤون بالرضا والاختيار شريطة أن يكون ملتزما بشرع الإسلام بوصفه دستوراً طبعا.
وقد يجادل البعض فيقول: حتى في الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية كانت البيعة شرطاً ليصبح الخليفة القادم خليفة شرعيا. وهنا نقول نعم ولكن كانت هناك إساءة في التطبيق في هذا الأمر، حيث يكون الخليفة قد تعين واختير بصفة ولي العهد وكانت البيعة تتم كإجراءات تكميلية بعد موت الخليفة. فالحكم كان في بوتقة العائلة الواحدة وإن كان يتم في نهاية المطاف بصورة بيعة.
ولذلك فقد كان الحكم الأموي والعباسي والعثماني خلافة ولكن هذه الخلافة لم تكن راشدة. وعليه فبغياب الخلافة الراشدة بعد الخلفاء الأربعة الأوائل رضوان الله عليهم أجمعين صار الحكم والسلطان يُنتزع ويؤخذ بالقوة. هكذا كان يتم تبادل السلطة للأسف. وزاد الأمر تعقيدا بعد أن هدمت الخلافة العثمانية عام 1924م. فمنذ أن قسمت الدولة العثمانية على يد المستعمرين إلى قرابة ستين كيانا، انتشرت ظاهرة تسلم الحكم والسلطان عبر انقلابات عسكرية وترسخت فكرة تداول السلطة عبر استخدام القوة والعنف، وما نشهده اليوم في بعض الدول الأفريقية هو خير مثال على ذلك، فتسونامي الانقلابات في أفريقيا متواصل، وكان آخرها في الغابون. وطبعا كل هذه الانقلابات هي انقلابات لصالح المستعمرين الذين تنازعوا السلطان في هذه الكيانات بعد غياب الخلافة الأخيرة "الخلافة العثمانية" عام 1924م.
إن واقعنا اليوم هو أن أمتنا الإسلامية مسلوبة السلطان والقرار السياسي، فالسلطان والقرار السياسي بيد الدولة المستعمرة لهذا الكيان أو ذاك. ورغم أنه تجرى انتخابات في بعض الكيانات كتركيا مثلا أو تونس أو المغرب ويجري تسليم سلميّ للسلطة، إلا أن هذا التسليم هو تسليم من سلطان يحكم بالكفر إلى سلطان آخر يحكم بالكفر أيضا، وكلا السلطانين السابق واللاحق يسيران في الحكم وفق إرادة مستعمري هذه الكيانات، ولو أجريت انتخابات وكانت هذه الانتخابات نزيهة فهي لذر الرماد في العيون ولغرض زركشة الأنظمة المستبدة العميلة التي أنشأها المستعمرون بعد هدم الخلافة العثمانية. هذه هي الحقيقة المرة، فالسلطان والقرار السياسي والدستور هي بيد المستعمرين ولكن بنسب تتفاوت من كيان لآخر.
والأمة اليوم مقسمة ومشرذمة في هذه الكيانات وبين حدودها. ورغم ذلك فهي تسعى وترنو لاسترداد سلطانها واستعادة قرارها السياسي والسيطرة على شرايين الحياة ومصادر القوة والثروة في هذه الكيانات. إلا أن المستعمرين قد أحكموا الخناق وضيقوا سبل استرداد الأمة لسلطانها منهم، فهم يحبطون كل محاولة تحرك تقوم بها الشعوب الإسلامية لاسترداد ولو شيء بسيط من سلطانها ولو بصورة ارتجالية وغير منظمة كما حصل في ثورات الربيع العربي، فسرعان ما التف المستعمرون على حراك الشعوب المسلمة وأحبطوا تحركهم ووأدوا ثوراتهم وأعادوا إنتاج الأنظمة التي كانت موجودة في تلك الكيانات بأشكال ومسميات أخرى ولكن بالمضمون الاستعماري نفسه، وخير مثال على ذلك مصر وتونس.
إن إدراك أن هذه الكيانات وتلك الأنظمة خيوطها الدستورية والأمنية والدفاعية والاقتصادية والسياسية بيد المستعمرين، والمستعمرون لا يسمحون بتسليم السلطة بصورة سلمية من يدهم إلى يد غيرهم، بمعنى أن دول الاستعمار لا ولن تمنح أو تهب الحكم والسلطان لمن لا يريد أن يبقى تحت قبضتها وتحت قرارها وإرادتها السياسية، فهذه الدول لا يمكن أن تهب أحداً الحكم والسلطان لمن يريد أن يحكّم الدستور الإسلامي بدل دساتيرها الاستعمارية، ولن تهب هذه الدول الاستعمارية السلطان في هذه الكيانات لمن يريد أن يكون مستقلا عنها في قراره السياسي وأمنه واقتصاده وثرواته.
وهذا كله يعني أن إعادة الخلافة إلى الوجود من جديد لا يمكن أن تتم عن طريق صندوق الانتخابات الآن، فهذا ضرب من الخيال، بل إن الخلافة التي هي بمعنى السلطان لا يمكن أن تعود بطريقة سلمية ودية، بل لا بد لهذا السلطان أن يؤخذ بالقوة ولا بد أن تنتزع الأمة سلطانها من يد أعدائها انتزاعا، وغير ذلك يكون ارتماء جديدا في أحضان المستعمرين ومضيعة جديدة للثروات والطاقات، وحركة وحراكاً جديداً مصيره الوأد والاحتواء على يد المستعمرين من جديد.
ولذا فإن الطريقة الوحيدة اليوم لاستئناف الخلافة والسلطان الحقيقي للأمة هو بانتزاع هذا السلطان وأخذه بالقوة من يد المستعمرين، هذه هي الحقيقة التي يجب أن يدركها كل العاملين في حقل التغيير من حملة الدعوة في عصرنا الراهن.
ولفعل هذا الأمر هناك طريقان لا ثالث لهما:
الطريق الأول: أن تقوم الأمة بعلمائها وأحزابها ومفكريها بإقناع المخلصين في الجيوش أن ينقلبوا على المستعمرين والحكام وأن يسلموا السلطان للأمة من جديد، أي أن يقوم هؤلاء بالانقلاب لصالح الإسلام والمسلمين ويسلموا السلطة لمن يرون أنه جدير بتطبيق الشرع وقيادة الدولة على خطا الرسول ﷺ والخلفاء من بعده. وهذا الطريق بحاجة لجهود جبارة لإقناع بعض الضباط والقادة في الجيش للتمرد على المستعمرين والانقلاب عليهم وعلى حكامهم الذين وضعوهم في هذه الكيانات.
وهذا الطريق حسناته كثيرة: فهو الطريق الأسلم والأكثر حقنا للدماء والثروات والطاقات والبلاد. كما أنه الطريق الأكثر منعة وثباتا للحكم الجديد القادم؛ فهو قائم على جيش البلاد نفسه وأبنائه وأهل القوة فيه، وبالتالي فإن الخلافة التي ستأتي ستكون منيعة ومدعومة وثابتة من الجيش ككتلة واحدة دون حاجة لخطر تفتت الجيش ودخوله في صراعات كبيرة قد تضعفه وتنهك قواه، الأمر الذي سيؤثر على الخلافة القادمة قوة وضعفا. إلا أن هذا الطريق قد يكون طريقاً شاقاً ومضنياً، فقد يحتاج إقناع بعض أبناء الجيش المتنفذين عقودا أو قرونا من الزمان بسبب أن المستعمرين يخشون من استئناف الخلافة، ولذا فإنهم شديدو المراقبة للجيوش وكثيرو التغيير والتبديل في قاداتها وضباطها، ما يجعل استمالة بعضهم وبقائه في القيادة والمناصب المهمة في الجيش أمراً صعباً.
وأما الطريق الثاني: فهو أن تقوم الأمة بعلمائها وأحزابها ومفكريها بإقناع قبيلة متنفذة فيها أو مليشيا متنفذة مسلحة فيه - طبعا إن وجدت - بالقيام باسترداد السلطان من يد المستعمرين والحكام الذين وضعوهم والجيش الموجود. وهذا ممكن في الدول المبنية بشكل قبلي، حيث إنه قد تكون هناك قبيلة كبيرة ولها وزنها وقدرتها المادية والعسكرية بحيث يمكنها التغلب على الجيش النظامي وأخذ السلطة منه ثم مبايعة خليفة وتسليمه السلطة بشرط الحكم بكتاب الله وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، كقبيلة آل الأحمر في اليمن، أو قبائل البشتون في باكستان مثلا... وكل ذلك من باب القدرة إذا توفرت طبعا، «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».
وهذا الطريق قد يكون أسرع في إنجاز المهمة فقد لا يحتاج لعقود من الزمن، فالأمر يبدأ في القبيلة نفسها وينتهي بها، فإقناع قادة القبيلة المتنفذة أمر أيسر وأسهل من إقناع قادات في الجيش ذوي مشارب وأنساب مختلفة، كما أن المستعمرين ليس لهم الدالة نفسها على القبيلة مقارنة بدالّتهم على الجيوش ومراقبتهم الحثيثة لها. وأما مساوئ هذا الطريق فهي أن استخدام القبيلة لانتزاع السلطان من المستعمرين قد يوقع البلاد في حرب بين القبيلة المتنفذة وبين جيش البلاد وتقع البلاد والعباد في صراع دموي مرير وطويل الأمد يوشك أن يدمر البلاد والعباد والثروات ويبقي البلاد بعد أن يضعف جيشها مدة أطول تحت سيطرة المستعمرين. ولذا فهذا الطريق قد يكون أسرع إنجازا للهدف من الطريق الأول المذكور أعلاه ولكنه طريق أكثر خطرا من الطريق الأول وأكثر سفكا للدماء إذا لم يتم العمل والترتيب بصورة حذرة جدا وبدراسة فائقة.
وهذان الطريقان اليوم متاحان للأمة أن تطرقهما لانتزاع سلطانها من يد المستعمرين ومن يد الحكام الذين وضعهم المستعمرون في البلاد العربية والإسلامية، وهذا ما يسمى في السيرة النبوية بطلب النصرة من أهل القوة والمنعة للحصول على السلطة والوصول للحكم وتطبيق شرع الله وإقامة الخلافة الإسلامية. وهذه طريقة رسول الله ﷺ في الوصول للحكم والسيطرة على شرايين الحياة ومصادر القوة والثروة في المدينة المنورة. فقد طرق ﷺ باب أهل القوة والمنعة لإحداث التغيير المنشود. وسمي النفر من أهل القوة الذين ساق الله على يدهم النصر لنبيه في المدينة بالأنصار، اللهم أرض عنهم واجزهم عنا وعن الإسلام خير الجزاء فقد حموا ومنعوا الرسول عليه الصلاة والسلام والمهاجرين بكل ما يملكون وساق الله النصر على يديهم.
وخلاصة الأمر أنه يجب إدراك حقيقة مهمة وهي أن السلطان ينتزع انتزاعا من يد المستعمرين، وأن أي الطريقين سلكت الأمة لانتزاع سلطانها فهي محقة وجادة في عزمها، وهي طرق مشروعة وكلاها بحاجة لحذر وتدبير وترتيب، وسلطان الأمة يجب أن يعود لأمتنا بأي ثمن، ولا يجوز أن يبقى سلطان الأمة بيد الكافرين والمستعمرين. وأما خرافة تداول السلطة بالطرق السلمية والانتخابات أو إصلاح النظام من داخله ومشاركته حكم الكفر، فهذه خدعة جديدة قديمة من خدع المستعمرين وهي سذاجة من قبل العاملين للتغيير وتمنٍّ على المستعمرين، فالحكم والسلطان لا يوهبان ولا يمنحان وإنما يؤخذان عنوة. ولا يمكن حدوث هذا الأمر دون كسب تأييد ودعم أهل المنعة والقوة في المجتمع.
نسأل الله أن ييسر للأمة الإسلامية قريبا أنصاراً جدداً من أبنائها على شاكلة الأنصار من الصحابة الكرام ييسروا طريق رشد وخلافة راشدة ودار عز وتمكين بفضله وكرمه ومنته وتوفيقه.
﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. فرج ممدوح