- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
ما أقصر الطريق بين دار الندوة ولندن!
لعل أشدّ ما عانته قريش، صاحبة المقام الأسمى في جزيرة العرب، دينيا وسياسيا واقتصاديا، وقد فاجأتها دعوة هذا الدين الجديد الذي جابهها به أحد أبناء أعرق البيوت فيها، شرفا ومكانة، هو كيف ستتعامل مع هذا المكون الرئيسي لهيئة دار الندوة، بني عبد مناف؛ فهم ركيزة هذا الدين الذي لم تَعهدهُ قريش والذي بات يهدد، من أول ظهوره، نمط عيشها ومركزها بين العرب، خاصة بعد أن اعتادت حياة الاستقرار، في حين يُتخطف الناس من حولها، وهي في حرم الله آمنة، لا تخشى غيلة ولا ذلة، ولا فقرا.
لم تجد قريش كبير حرج أمام هذا الخطر الماحق الذي لم تعهد له مثيلا في أقوال الشعراء، ولا دندنة الكهان، في أن تعرض على بني عبد مناف تسليمها فتاها لتقتله، أو أن تفعل فيه ما تراه، نظير أي ثمن يطلبه ذووه، من آمن بدعوته وقال بقوله، أو من آزره حمية وعصبية وأبى على نفسه إلا مؤازرته؛ بنو هاشم وبنو المطلب. ولما رأت قريش من غالب بني عبد مناف هذا الموقف، آثرت أن لا تقطع الحبل مع أبناء العمومة ورأت أن تشدّه شدّا، ولا تصرمه بالكلية، خاصة بعد أن أيقنت قريش أن أمرَ رسول الله ﷺ يعلو كل يوم أكثر، ويتزايد المؤمنون به في مغالبة تنذر بما لا قِبَل لها به، فلجأت إلى أسلوب لم تعهده العرب من قبل فكانت مقاطعتها لبني هاشم وبني المطلب ابنَي عبد مناف، كأفظع ما تكون المقاطعة، فألجأتهم إلى شِعب أبي طالب، بعد أن تعاقدت فيما بينها على أن لا تبايعهم، ولا تناكحهم، ولا تكلِّمهم، ولا تجالسهم حتى يُسلِّموها رسول الله ﷺ، للقتل، وكُتبت بذلك صحيفة عُلَّقت في جوف الكعبة... ومضت قريش في كِبرها وعنادها، إلى أن قيض الله سبحانه وتعالى من أبناء قريش نفسها من نقض عهد الصحيفة وأبطل العمل بها، فأذعنت قريش للأمر خشية انفراط رابطتها وذهاب ريحها. ولكن حين بلغ أمر رسول الله ﷺ وأمر دعوته، مبلغا ينذر بما لا طاقة لقريش به، بعد أن وجد له سندا ومرتكزا خارج مكة، وعند من لا قبل لها بهم، إذ شبوا عن الطوق، أعادت دار الندوة، مجمع قريش، ترتيب أولوياتها وقررت بعد أن أجمع أهل الرأي فيها أن أمر النبيّ في صعود، وأنها لا تأمنه على الوثوب عليها بمن قد اتّبعه من غيرها، فأجمعت على أن تضربه، من كل قبيلة، بفتى شابّ جلد نسيب وسيط، فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فيتفرق دمه في القبائل جميعاً، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، أو يرضوا منهم بالعقل، وإلا فهي المفاصلة النهائية بين الطرفين!! ولكن مضت سنة الله في خلقه أنه من غالب الله غُلب وباء بالخسران، فكانت الهجرة المباركة أولى لبنات صرح الدولة التي ستغير وجه تاريخ البشرية تغييرا كلّيا، وتترسّخ على أساسها قواعد الصراع بين الكفر والإيمان، وكان أمر الله ماضيا، إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
ولما كان للحدثان صروفها، شاءت حكمة الله أن تهدم دولة الخلافة، بعد أن تولت رأس الكفر، بريطانيا، كبر ذاك الجرم بمعونة الخونة من الترك والعرب، مرّت الأمة بمرحلة من الذهول عن ذاتها، وتاهت عن موقعها في الحياة، حتى ظنّت بريطانيا وسائر الغرب الكافر أنّ الأيام أمّنتهم فقبلوا أمانها، وأنّ الحياة أسلمت لهم قيادها وظنوا أنهم قادرون عليها، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، إذ نشأت بين أيديهم وأيدي صنائعهم سنة 1953، كتلة مبدئية، حزب التحرير، شكّلت الخطر الماحق على المشروع الذي هيأت له بريطانيا ونظراؤها، ورتبت لهيمنته على العالم تحت قيادتها، بإسقاطها لدولة الإسلام، الدولة العثمانية، فسارعت، بريطانيا إلى محاولة طمس هذا النور الذي انبثق من الأرض المباركة، ووأد دعوته في المهد، بعد أن ظنت أن الأمر استتب لها، وأن الريح تدفع شراعها حيث تريد. إلا أنها، منذ البدء، عجمت عود الدعوة الجديدة ورجالها، فوجدته غير ما اعتادت من خور وجبن، وخيانة أراذل العجم والعرب، الذين ارتضوا مقام الخسة والذلة، فباعوا دنياهم وآخرتهم بثمن بخس. فأوكلت بريطانيا، رأس الكفر، ومنبت كل الشرور، إلى أبناء وأحفاد أولئك الذين اتخذت منهم المعول الذي هدمت به صرح دولة الإسلام، وغيرهم ممّن ارتضى بيع ذمته، وخيانة الله ورسوله والمؤمنين، من حكام المسلمين، وطبقة من المضبوعين بالفكر والثقافة الغربيين، وكثير من مرتزقة "أئمة" و"علماء" الضلال، مهمة التصدي لهذه الدعوة منذ أيامها الأولى، متخفية هي وراء هؤلاء الشراذم المأفونين، وذلك بالتضييق على شبابها ومحاصرتهم، وسجنهم، وقتلهم، مستنسخة في ذلك فعل دار الندوة، إذ إنّ ملّة الكفر واحدة.
ظلت بريطانيا، أربعين سنة، تتوارى خلف كبرها الكاذب، من أنها تقدّس الفكر مهما كان منبعه، وتحمي حقّ حامله، في تبنيه والدعوة إليه، ما لم يعمد إلى فرضه بالقوة، إلى أن فوجئت بأنّ دعوة الخير، فكرة أن أمة الإسلام ترسّخت لديها الدعوة لاستئناف العيش بالإسلام، قد اقتحمت عليها عقر دارها، تقوّض الأسس التي أقامت عليها فكرها الذي طالما ضللت به كثيرا من أبناء الأمة، باستقطاب الكثيرين منهم فحملوا فكرها، أو مخادعة وإغراء آخرين بالمناصب الكاذبة والرتب الزائفة. إلا أنّها وهي تشهد أن رحمة الله قد مسّت طيفا من أبناء الإنجليز وباتت نفوسهم تهفو إليها، حتى صار منهم حملة دعوة، وروّاد في نقض المبدأ الرأسمالي وهم العارفون بأدق خفاياه وأسراره، وأدركت أنها صارت عاجزة عن صدّ هدير صوت الدعوة الذي ظل يسري في الآفاق، وهو يعرّي ويفضح أسس المبدأ الرأسمالي في عقر داره، لما كشفت زيف مفهوم الحريات، وقيم حقوق الإنسان التي يدعيها مبدؤهم، والتي ما عادوا يقيمون لها وزنا، ولا يرعون لها حرمة، بعد أن باتت تتناقض مع مصالحهم الأنانية...
إلا أن أشدّ ما هدّ أركانهم، وجرّأهم على التخلي عن كبريائهم، والتزامهم المبدئي، الذي طالما حرصت محكمتهم العليا على الظهور بمظهر المنافح عنه، حين رفضت قبل عقدين محاولات السلطة التنفيذية وصم حزب التحرير بالإرهاب لتهافت حججها، ومن ثمّ حظر عمله على الأراضي البريطانية. فاحتالوا اليوم على ذلك باستصدار قرارهم الساقط، عن طريق البرلمان الذي يحوز فيه حزب المحافظين الأغلبية، ولما باتت تمثله دعوة الحزب من خطر مباشر على كيان يهود، رأس حربة الغرب الرئيسة في حربه على الأمة، وحملته المنهجية التي لا تلين على جرائمه في غزة، أيامنا هذه، حيث بدأ يتكشّف زيف مشروعية وجوده أمام الرأي العام الغربي عامة والبريطاني خاصة، وفضح جرائمه، فداست بريطانيا، كما فعلت قبلها قريش، على "ثوابتها" وركن فكرها، الحرية عامة، وحرية الرأي خاصة، أمام الخطر الماحق الذي يمثله الحزب ودعوته على الغرب عامة ومركزه في قيادة العالم.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
عبد الرؤوف العامري – ولاية تونس