- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
تسارع التاريخ، وقرب لحظة المفاصلة الحضارية
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول ﷺ: «لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يتقارَبَ الزَّمانُ فتكونَ السَّنةُ كالشَّهرِ ويكونَ الشَّهرُ كالجُمعةِ وتكونَ الجُمعةُ كاليومِ ويكونَ اليومُ كالسَّاعةِ وتكونَ السَّاعةُ كاحتراقِ السَّعَفةِ أو الخُوصةِ». رواه ابن حبان في صحيحه.
كثير منا يشعر بتسارع التاريخ في أيامنا هذه، إذ تتسارع الأحداث من حولنا بشكل جنوني يعجز العقل أحيانا عن استيعابه، وكأن البشرية قد دخلت في منعرج خطير من التسابق مع الزمن، حيث تتوالى الأحداث الكبرى ولا نكاد نلاحقها وتتراكم المستجدات اليومية والأخبار العاجلة ولا نكاد نحصيها، وتتصاعد موجات "الدعاية" من كل اتجاه ونوع، هابطة علينا من فضاء الأقمار وعلى موجات الأثير وشبكات المعلومات الكونية، متخيرة جمهورها بدقة وعناية فائقة.
وبينما تبشرنا الحضارة الغربية بالذكاء الصناعي وقدرته الخارقة على اختزال الوقت ونقل المجتمعات إلى أنماط جديدة من العيش ومستوى أعلى من الرفاهية، نجد البشرية تعيش على حافة الهاوية وداخل دوامة من الصراعات السياسية المتداخلة واللامتناهية، مع تغيير مطرد لأساليب الصراع وأشكاله وأدواته وأسلحته، في وقت يبحث فيه كل مجتمع عن أمنه وأمانه ويسعى إلى ضمان مكان لشعبه ضمن مستقبل غير واضح المعالم. فما هي الأسباب الحقيقية لتسارع الزمن؟ وإلى أين نسير بهذا النسق؟ وهل جميعنا مدرك لخطورة هذا التسارع على الذاكرة الجماعية للشعوب وعلى وعي الأفراد، أم أن الغفلة قد جعلت من البعض ضحايا لتيار جارف أوشكت فيه أن تتغير وحدات قياس الزمن؟ قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾.
أسباب تسارع التاريخ
إن تسارع التاريخ الذي نتحدث عنه، يمكن تلخيصه في تسارع وصول المعلومة، بحيث تكون الأداة التي تسهل انتقال المعلومة في كل عصر، هي السبب المباشر لهذا التسارع في الزمن. ففي عهد النبي ﷺ، كان السفر من مكة إلى القدس يستغرق شهراً مثلاً، واليوم لا يتجاوز الأمر ساعة بالطائرة. والمعلومة التي كانت تصل من مكة إلى القدس في شهر، وتستوجب سفر صاحبها، صارت تصل اليوم في ثانية من خلال الإنترنت، وأصحابها جلوس في منازلهم.
بعبارة أخرى، حتى يتخذ قائد ما في العصور السابقة، قراراً بغزو أو بهدنة أو بتقدم أو بتأخر ويحتاج في قراره إلى معلومة ما تصله من مدينة ما، كان يجب عليه أن ينتظر مدى انتقال المعلومة إليه أياماً أو شهوراً. أما اليوم فصار أمرا يسيرا أن يكون كل شيء أمامه في ثانية واحدة، أي ما كان يفعله قائد ما في العصور السابقة في شهر، صار يفعله قائد اليوم في لحظات معدودة.
ونوعية المعلومة، حسب زاوية النظر، هي التي تحدد كيفية تعامل المتلقي معها، فقد يتخذ القائد قرار السلم أو الحرب على إثر معلومة تصل إليه، ولذلك فإن الأهم من المعلومة، هو تفاعل المتلقي مع هذه المعلومة، أيا كان هذا المتلقي وأيا كان شكل هذا التفاعل. وعملية التفاعل هذه، هي عملية تراكمية تنتج وعياً تراكمياً عند الإنسان، وهي تتسارع بصفة خطرة، الشيء الذي جعل دهاقنة السياسة الأمريكية يتفطنون إلى أثرها على جمهور المتلقين، فيدقون ناقوس الخطر ويطالبون بإجراءات فورية للحد من تسارع تعاطي المعلومات، وذلك حتى لا تتفطن "الصحوة السياسية العالمية" لألاعيب أمريكا، فتنكشف مؤامراتها وتتحطم على صخرة وعي الشعوب بحقيقة سياساتها الاستعمارية، بعد أن نجحت إلى حد ما في الترويج لفكرة "الحلم الأمريكي" في القرن الماضي.
محاولات فاشلة للتحكم في وعي الشعوب
فالوعي، وباعتباره يعتمد على تجارب سياسية ومعلومات تراكمية ونظرة معينة للأحداث، قد أفلت بفضل توافر المعلومة وتسارع التجارب من أي عقال. ثم إن تكنولوجيات التواصل والشبكات الإلكترونية مع تطوير البرمجيات قد أحدث في المجتمعات ثورة نوعية بحيث صار مصدر المعلومة هو أي إنسان يدخل على الشبكات الإلكترونية، وهو ما عزز تخوف قادة أمريكا من سرعة انتقال المعلومات وتناقلها بين الشعوب وخاصة منذ أحداث الربيع العربي، مع أنها تضع يدها على كبرى شركات تكنولوجيا الاتصال في العالم، وتمتلك واحدة من أقوى أجهزة المخابرات في العالم.
ومن أهم الأقوال التي توضح هذا التخوف بشكل ملموس، ما صرح به رئيس أركان الجيش الأمريكي السابق الجنرال راي أوديرنو خلال محاضرة له في المعهد الملكي البريطاني "تشاتام هاوس" بتاريخ 6 حزيران/يونيو 2012، والتي جاءت تحت عنوان: الجيش الأمريكي في المرحلة الانتقالية، حيث قال: "دعونا ننظر حول العالم، وما نراه في العالم. وجزء من هذا العالم هو ما تعلمت، وأعتقد أن ما تعلمناه جميعاً من منظور عسكري على مدى السنوات الخمس أو الست الماضية هو هذا الربط، هذه القدرة العالمية على الاتصال التي تمكن المعلومات من الانتقال الفوري في جميع أنحاء العالم، قد أثرت على الأمن وستؤثر على كيفية تفكيرنا حول كيفية وجوب توفير الأمن في المستقبل. وقد رأينا أن هذا قد لعب دوراً في الربيع العربي، سواء أكان ذلك في ليبيا، أو في مصر، أو في تونس وترونه لا زال يلعب قليلا، اليوم، في سوريا. عندما نناقش هذا، فإننا سوف نقول لكم إن الربيع العربي لم ينته بعد. أعني، إنها مجرد بداية، ونحن الآن قد دخلنا مرحلة انعدام اليقين".
من هنا، جاءت الحاجة الملحة إلى التحكم في المعلومة ومصادرها، وهو ما ترجمه المقترح العملي لهذا الجنرال من أجل التصدي إلى الوعي الجماعي التراكمي لدى الشعوب، حيث أضاف في المحاضرة نفسها قائلا: "التحكم الافتراضي، هو قيادة عمليات افتراضية على مستوى العمليات الاستراتيجية العالمية: لدينا قيادة افتراضية للجيش، نصبناها ونحن نواصل العمل على كيفية تنظيمها. وحسب رأيي ومن وجهة نظر عسكرية نحن ندعم قيادة افتراضية بمقدرات قومية استراتيجية، ثم لدينا كذلك تحكم عملياتي افتراضي، حالياً تكتيكي، من أين يمكن قيادة عمليات مستقبلية، كيف يتم إدماج ذلك في المعلومات التكتيكية، ونحن بصدد العمل على ذلك الآن".
والتحكم الافتراضي الذي تحدث عنه هذا القائد العسكري المشارك في حرب الخليج، هو بمثابة غرفة عمليات تتحكم في العالم الافتراضي وتقود الحرب الفكرية والنفسية داخل شبكات التواصل، عبر توظيف آليات وخوارزميات الذكاء الصناعي في اتجاه دعاية أحادية الجانب، تعيد صياغة وعي الشعوب وتزييف التاريخ وطمس الحقائق، وتعيد للحضارة الغربية بريقها الزائف، وذلك بإخضاع الجمهور المتلقي لأنواع خبيثة من الدعاية المضللة، وبعبارة أخرى فإن الأمر أشبه بإعلان حرب على الذاكرة الجماعية للشعوب وعلى وعيها بالأحداث عبر أسلحة غير تقليدية، ضمن ما بات يعرف بحروب الجيل الخامس.
"فالحرب في جوهرها تبادل منظم للعنف، والدعاية في جوهرها عملية إقناع منظمة. وبينما تهاجم الأولى الجسد، فإن الثانية تنقض على العقل، الأولى حسية والثانية نفسية. وفي زمن الحرب، تهاجم الدعاية والأعمال الحربية النفسية جزءاً من الجسد لا تستطيع الأسلحة الأخرى أن تصل إليه، في محاولة للتأثير في طريقة أداء الأطراف المشاركة في ميدان القتال.
إنهما تحاولان رفع معنويات أحد الجانبين، وأن تنسفا إرادة القتال لدى الآخر. وعلى هذا النحو، وعلى الرغم أنهما لا تستطيعان - وحدهما - كسب الحرب، فإنهما سلاحان لا يقلان أهمية عن السيوف أو البنادق أو القنابل. ومن المؤكد أن أسلحة العقل ومتفجراته هذه - مثلها مثل الأسلحة التقليدية - قد أصبحت معقدة بشكل متزايد مع ما تحقق من أنواع التقدم في التكنولوجيا". (من مقدمة كتاب "قصف العقول" للكاتب فيليب تايلور).
إذن ما تفطن له هؤلاء، هو أن الوعي المتراكم في ظرف سنوات قليلة صار كاشفاً فاضحاً لأي مؤامرات سياسية أو عسكرية، ولم يعد إيصال المعلومة إلى جمهور المتلقين حكرا على جهة معينة تشرف على صناعة وعي مزيف أو تغرق الناس في التفاهة والإباحية سعيا لتخدير الشعوب، بل صار تفاعل المتلقي فكريا مع المعلومة الصحيحة بشكل سريع كاف لوجود ردة فعل واعية ومدروسة وفي توقيت سياسي قياسي، وهذا ما قد يفاجئ القادة الغربيين ويفقدهم السيطرة على مجريات الأحداث واتجاهاتها.
نعم، لقد تفطن ثعلب السياسة الأمريكية ومستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي، إلى مسلّمة حول ما أسماها "الصحوة السياسية العالمية" دون تحقيق السياسات الإمبريالية والاستعمارية في دول العالم الثالث كما كانت عليه من قبل، وأرجع ذلك بالخصوص إلى تسارع تعاطي المعلومات وإتاحتها للشعوب بفضل تكنولوجيات الإعلام الفضائي والإنترنت. وقد تحدث عن ذلك في كتابه "رؤية استراتيجية: أمريكا وأزمة السلطة العالمية" الذي لخص فيه عصارة فهمه للسياسة الدولية وبين فيه كيف لأمريكا أن تحافظ على قيادتها للعالم خلال القرن الواحد والعشرين، كما أوصى في مؤتمراته بالحد من هذه الإمكانيات للشعوب عن طريق قوانين غير مباشرة، وحذر من إمكانيات ضعف الهيمنة أو فقدان السيطرة. بل لم يفته أن يذكّر بالفروق الهائلة بين عالم بدون إنترنت حيث للسياسات الإمبريالية الأمريكية اليد الطولى، وبين عالم اليوم حيث تصطدم السياسات الأمريكية بصخرة وعي الشعوب!
ولكن أمام فقدان السيطرة والتحكم لأمريكا في ملفات عديدة على غرار الأحداث في بلاد الشام، والتي قال عنها أوباما قولته الشهيرة: "شيبتني الثورة السورية"، أمام ذلك كلّه، حلّ خيار استعمال القوة العسكرية بصفة عاجلة مكان أي خيار آخر. ولما كان واضحا لدى قادة أمريكا بأنه لا يمكنها استعمال القوة بصفة مباشرة وتحقيق المكاسب السياسية في الوقت نفسه، فقد كان خيار الإدارة الأمريكية منذ عهد أوباما، هو القيادة من الخلف.
وهو ما ترجمه تصريح بريجنسكي نفسه بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2014، حيث اقترح "ضرورة إشراك تركيا كحد أدنى في أي عمل عسكري من أجل الحيلولة دون تفطن "الصحوة السياسية العالمية" ومن أجل تمكين القوى الإمبريالية والاستعمارية من التدخل في سوريا دون إحداث تداعيات سياسية عكسية على أمريكا". ثم صار الحل الذي سار فيه أوباما، هو جلب تحالف الستين دولة إلى بلاد الشام، لإخماد جذوة الثورة، بزعم القضاء على الإرهاب. وهكذا، فإن سياسة أمريكا التي ترجمها لاحقا خروج قواتها من أفغانستان، صارت تقوم على مزيد تشريك قوى دولية وإقليمية فاعلة لخدمة أجندتها، وفي مقدمتها روسيا وتركيا، فتقود المعركة من الخلف أو تتدخل تحت غطاء "الإنقاذ" حتى لا يكون لهذه المعركة تداعيات عكسية مباشرة على مصالحها، وهو التوجه الذي نراه لا يزال قائما إلى اليوم، حيث تدعم كيان يهود بالطائرات والأسلحة في حرب الإبادة الجماعية على غزة، ثم تُحرك وكلاءها في تركيا ومصر لقيادة مسار المفاوضات مع حماس.
واضح إذن، أن أمريكا قد فقدت السيطرة على الوعي العالمي، خاصة بعد أن خفت بريق الحضارة الرأسمالية التي تتزعم قيادتها، ولم يبق لها سوى خيار عاجل ووحيد، وهو القوة العسكرية التي تقدم لها وكلاء مكانها وتكتفي بالإدارة من الخلف حتى لا تخسر سياسياً. أما الخيار المتوسط والبعيد المدى، فهو تأطير الوعي وتوجيهه من أجل صناعة وعي مزيف.
الحد من تسارع التاريخ لإنتاج شعوب بلا ذاكرة
إن تسارع التاريخ يأتي من تسارع انتقال المعلومة والتفاعل معها، وإن الحضارة الرأسمالية بقيادة أمريكا، قد خسرت معركة الوعي وأعلنت إفلاسها الحضاري والأخلاقي والقيمي أمام الإسلام فانسحبت من ميدان الصراع الفكري في وقت مبكر، وصورة انتحار أحد جنود جيش الطيران الأمريكي حرقاً احتجاجا على دعم مجازر الإبادة الجماعية في غزة تختزل حقيقة هذا الإفلاس. ولذلك نجدها تسعى اليوم إلى إعادة صناعة وعي جديد للشعوب، وإلى إعادة برمجة العقل الجماعي من خلال إتلاف الوثائق الرقمية التي توثق كل تحرك شعبي منطلقه الإسلام، وكل دعوة إلى التحرك على أساس الإسلام، ومنها الدعوة إلى تحريك الجيوش نصرة للأقصى. وهذا من شأنه أن يغيب عن الأجيال الصاعدة حقيقة الصراع الحضاري، وينشئها على عقلية جديدة يتصالح فيها الإيمان مع الكفر، أو هكذا يمني الكفار أنفسهم. قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾.
نعم، إننا فعلا أمام حضارة تريد أن تتعامل مع ذاكرات لشعوب تتم برمجتها، ماذا تنسى وماذا تتذكر. وبعبارة أخرى، نحن أمام عملية إنتاج "زهايمر" صناعي لشعوب مستسلمة مخدرة قصيرة الذاكرة، بحيث تفقد تاريخها وهويتها وشخصيتها ولا تدري في أي اتجاه تسير، ولا كيف تتفاعل مع الأحداث، فتذوب في بوتقة حضارة رأس المال، ويصبح أبناؤها مجرد أرقام في معادلات أرباب الرأسمالية العالمية. وما دام الإسلام هو العدو الأول للرأسمالية بعد سقوط الاشتراكية، فإن فقدان البوصلة هو عين ما تريده أمريكا لأهل الإسلام حتى يسهل التحكم بعقولهم وبثرواتهم بعد أن تعطل ذاكرتهم. وهنا يحضرنا قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
إن الحملة الدولية الكبيرة للتحكم في المعلوماتية والإنترنت، التي تلت انطلاق ثورات الربيع العربي نظراً للدور الذي لعبته في تحركات الشعوب، أثمرت مزيداً من السطوة على النت وبالخصوص على المحتويات. حيث تم إتلاف محتويات صفحات وحسابات ثورية توثق بالفيديو ما يحصل على الأرض، وبخاصة في سوريا. كما تم إدماج فيسبوك في سوق البورصة الرقمية منذ 2012، وبالتالي الحد من انتشار أفكار ومواد من له أقل دولارات (أي العالم الثالث وبصفة أولية ثوار الشام)، ذلك لأن المحتويات مع تراكمها تمثل ذاكرة للشعوب، ومن شأنها أن تزيد من وعيها الجماعي على حقيقة الأحداث. من أجل هذا تتم الحملات تلو الحملات على حسابات وصفحات ومواقع لحذفها وحذف محتوياتها دون سابق إنذار.
والحد من انتشار المعلومات والأفكار هو حد من تسارع التاريخ، أي الحد من مسار الانهيار الحتمي للحضارة الغربية المتداعية وصعود الحضارة الإسلامية مكانها، لأن حرب الأفكار محسومة لصالح الإسلام ولذلك تسعى أمريكا إلى طمس الحقائق وتغييبها، وإلى طمس القناعات الفكرية دون الخوض فيها، وإلى حجب المضامين والدعوات السياسية التي تقوض مشاريعها وتهدد وجودها وتبنئ بأفول الحضارة الغربية ونهاية عهد التفرد الأمريكي.
ولذلك لا غرابة أن يصل تطوير البرمجيات اليوم، إلى مرحلة أصبح فيها عقل المتلقي رهينة بعض الخوارزميات، وأصبح حذف المحتويات في اليوتيوب أو فيسبوك يتم بشكل آلي ومتزامن، حيث تتم برمجة إعدادات هذه الشبكات على "كلمات مفاتيح" يتم على إثرها حذف المحتوى بمجرد وجود إحدى هذه الكلمات في المواد المنشورة. وهو ما وقع مع حسابات حزب التحرير عالميا إثر إعلان حظره من قبل بريطانيا، حيث أدرك الغرب خطورة انتشار أفكار الحزب بين الناس، على حضارة انبنت على الكذب وتزييف الذاكرات لشعوب كاملة بل لقارات بأكملها.
في المقابل، يسعى الغرب إلى توسيع الفجوة الحضارية بينه وبين البلاد الإسلامية، انطلاقا من أن الغرب هو مركز العالم الذي يختزل تاريخ الأطراف، ويمنحها ذاتاً ومعنى، مدعيا أنها عاجزة عن تمثيل ذاتها، أو تمثل العملية التاريخية بكليتها، ولذلك تسعى الدول والحكومات الغربية إلى احتكار صياغة التاريخ وفهم الواقع ومحاولة التحكم في التوجهات المستقبلية للشعوب، ومن أداوت ذلك تطوير آليات التجسس على المسلمين، وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى الاتفاقية التي حصلت أواخر 2019 بين بريطانيا وشركتي فيسبوك وواتسآب، والتي تلتزم بموجبها هاتان المنصتان بمشاركة رسائل المستخدمين المشفرة مع الشرطة البريطانية، لدعم تحقيقات بشأن أفراد يواجهون اتهامات مرتبطة بالإرهاب.
ما المطلوب لصناعة التاريخ من جديد؟
ختاما، إن المطلوب اليوم هو تثبيت الحقائق وأرشفة المواد بشكل يستحيل معه تزييف وتزوير التاريخ، وتخزين هذه الملفات جميعها، بعيدا عن شبكات التواصل الإلكتروني والاقتصار على استعمال هذه الشبكات للنشر. والخوادم الخاصة التي لها مثيلاتها الافتراضية هي أفضل وأنجع أسلوب للقيام بذلك في الوقت الحالي، لأنها تتطلب عزلا تاما عن الشبكة العامة للإنترنت. ولن تنفع بعدها كل محاولات تأخير دوران عجلة التاريخ وبالتالي تأخير لحظة المفاصلة التاريخية والحضارية بين الرأسمالية والإسلام. بل كل محاولة للقيام بذلك، سيكون لها مفعول عكسي، بحيث تسرع انكشاف الوجه الحقيقي للرأسمالية، مصداقا لقوله سبحانه: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وما دام تسارع التاريخ يأتي من تسارع انتقال المعلومة والتفاعل معها، فإن أقدر جهة على القيام بهذه المهمة بعون الله هو حزب التفاعل الفكري. فشبابه هم من سيصنعون التاريخ ويسرعونه بإذن الله، والاتصال الحي والمباشر هو سلاحهم الأول في التفاعل مع الناس ونشر وعي أساسه الوحي، مع صقل المفاهيم والمقاييس والقناعات بالإسلام، قبل قيام الدولة وبعدها. وليتأكد كلّ منا أن الوقت الذي يقضيه حامل الدعوة في غير عملية التفاعل، هو وقت يضاف إلى تأخير حدوث وعي ما على قضية ما، وبالتالي تأخير النصر، لا سمح الله، أو هكذا يجب أن نتعامل مع الأمر لخطورته، فليحذر أحدنا أن يؤتى الإسلام من قبله.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس وسام الأطرش – ولاية تونس