- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
تقصير الأمة وسبيل الخلاص
هل الأمة مقصرة؟
سؤال تكرر في الفترة الأخيرة تفاعلا مع أحداث غزة: هل الأمة مقصرة؟ وهل اعتبارها مقصرة هو جلد لها؟
نعم، الأمة مقصرة، ولكن هذا التقصير لم يظهر في أحداث غزة، مع أن المطلوب منها ومن أبنائها أكبر بلا شك، ولكن الأمة مقصرة، منذ أن غاب سلطان الإسلام، ولم تسعَ إلى استعادته، فحكمها أراذل الناس وبقيت بلا إمام ولا جنة ولا بيعة، ونبيها الأكرم ﷺ يقول: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». ولذلك هي تدفع فاتورة هذا التقصير بدماء أبنائها على رقعة واسعة من الأرض منذ استفاقت على فاجعة هدم الخلافة مطلع القرن الماضي والتي مهدت لاحقا إلى زرع كيان يهود في خاصرتها.
الأمة مقصرة قطعا منذ ذلك الوقت، وإلى اليوم، حتى وإن وُجد فيها من يسعى لإقامة الدولة وتنصيب الإمام. وهي تكاد تستفيق كل يوم على فاجعة جديدة نتاجا لهذا التقصير، وما يحصل في غزة ليس عنا ببعيد. وما دام الساعون إلى إقامة الدولة واستعادة سلطان الإسلام لم يحققوا الكفاية، ولم يتموا هذا الواجب العظيم، فالأمة في كلّيتها أو في مجموعها مقصرة، ومطالبة بتحقيق الكفاية، ولا يمكن اعتبارُها غيرَ مقصرة إلا حين تقوم بواجبها كأمة صاحبة رسالة، فتستأنف حياتها الإسلامية، وتحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم.
بل حتى وإن لبّت الأمة نداء المستضعفين في غزة أو سوريا أو بورما أو تركستان الشرقية، وتحركت من أجلهم، ثم عادت واستكانت ولم تعمل على استعادة سلطان الإسلام كاملا، والحكم بما أنزل الله، فهي تبقى أيضا مقصرة ويبقى في ذمتها جملة من الأحكام الشرعية الغائبة عن معترك الحياة، في مقدمتها ذروة سنام الإسلام وهو الجهاد في سبيل الله الذي أنيطت به الجيوش.
ومع ذلك، فقد أثبت الواقع أنه لا يمكن تحرير الأرض، ولا صون الأعراض والمقدسات، في غزة أو في غيرها، دون أن يكون للإسلام شوكة وسلطان، والقاعدة تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ولذلك فإن الأمة مقصرة تقصيرا كبيرا، والمطلوب منها عظيم، إلى أن يعود للإسلام سلطانه، وللمسلمين قائدهم وإمامهم، فتعمل على تضميد جراحها وإنهاء جميع مآسيها، في غزة وفي غير غزة، ومن ثم السعي إلى نشر الإسلام في ربوع الأرض. فالأمر لا يتطلب وقفة مساعدة لبلد شقيق والتبرع ببعض الأموال، إنما يتطلب وقفة حازمة لدين الله تقفها الأمة بوصفها أمة. والقول بأنها مقصرة هنا، لا يُقال من باب جلد الأمة، إنما هو توصيف لواقع.
ما المطلوب إذن؟
وعليه فالمطلوب اليوم، من القادة الربانيين والدعاة وحملة لواء الإسلام، هو رفع المعنويات، وشحذ الهمم، وتحريك العزائم، وتذكير الأمة بضرورة حسن الظن بربها، وتشويقها للقائه، وترغيبها برضوانه والجنة وترهيبها من عذابه والنار. قال ﷺ: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا».
والأهم هو الحرص في هذا كله على إثارة الفكر فيها وجعلها تفكر على أساس العقيدة الإسلامية لا غير، لتحدد العقيدة وحدها اتجاه سلوكها الجماعي، لأن إثارة العملية الفكرية في الأمة هي أساس النهضة.
وهنا لا يصح الوقوع في جلد الأمة، وإغراقها في السلبية، كاعتبارها أمة غثائية فاشلة، غير قادرة على الفعل، وكونها عبئا وعالة على غيرها من الأمم، دون توجيهها وتقديم الحلول لها، فهذا عين ما تروج له الأبواق العميلة للاستعمار في سياق الحرب النفسية على الأمة، بل يجب تحفيزها ودفعها نحو المطلوب من خلال قيادتها فكريا بمنهج النبوة، واستحضار النماذج الإسلامية المشرفة من الصحابة والفاتحين، وإذا فشلنا في ذلك فلا نحملها مسؤولية فشلنا، بل نعيد المحاولة إلى أن ننجح بإذن الله.
فالأمة كغيرها من الأمم تتبع القيادة... ومتى فُقدت القيادة أو قصرت، فالعتب لا يقع على العامة فحسب فهم بطبيعتهم تبع، بل يقع كذلك على من حمل نفسه مسؤولية قيادتها.
بعبارة أخرى، الأمة لن تقود نفسها بنفسها، بل هناك من يتصدر أمر قيادتها ورعاية شؤونها، وإذا لم يحركها القائد ويوجهها في اتجاه معين ومحدد، فإنها لن تتحرك من تلقاء نفسها، وهذا من بديهيات العمل السياسي بل من سنن التغيير.
وحتى نقف على عظم المسؤولية، فإن لدينا أمة بمجموعها مقصرة، وقادة يسعون إلى قيادتها بالإسلام، وهذا يحملهم مسؤولية البحث عن مواطن التقصير لتداركها وتوجيه الناس في الاتجاه المطلوب.
كيف نباشر فعل التحرر؟
لقد وجدت الأمة نفسها بعد طوفان الأقصى مكشوفة الظهر للمستعمر، عارية تماما عن كل أدوات القوة التي تمكنها من مباشرة فعل التحرر، وهذا جعلها في حالة من الصدمة والذهول.
ولكن كيف لها أن تحقق التحرر والسيادة والاستقلال؟ وكيف ستصبح الفاعل الأخطر على مستوى المآلات الاستراتيجية إن لم تلتف حول قادتها الواعين المخلصين؟ كيف ستقلب المعادلة لصالحها إن ظلت مكتفية بارتماءات عاطفية تجاه أقرب من يرفع أمامها شعارات الإسلام دون بحث في مضامين تلك الشعارات ودون وضعها في ميزان الإسلام؟ كيف ستغير الأمة واقعها إن ظلت تخير السير في أيسر الطرق وأسلمها دون أن تدفع ضريبة هذا التغيير؟ والأهم، كيف ستسترجع الأمة خيريتها، من كونها خير أمة أخرجت للناس، دون وعي على أحكام الإسلام ودون أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ودون اختيار أقدر الناس وأكثرهم وعيا وإخلاصا ومن هم على الحق ظاهرون؟ قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾. وجاء في الحديث قوله ﷺ: «وَإِنَّ دِينَ اللهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلا مَنْ أَحَاطَهُ اللهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ». رواه البيهقي في الدلائل.
إن القضية اليوم خطيرة للغاية، وهي قضية مصيرية وجودية، وإن قلب المعادلة ضد قوى الكفر والطغيان هو أمر ممكن متى أحسنت الأمة اختيار قادتها عن وعي عام بالمشروع الحضاري للإسلام فتلتف سريعا حول هذه القيادة، وتعطيها صفقة يدها وثمرة قلبها.
إن الناظر في حال الأنظمة اليوم، يجدها تعيش حالة انكشاف تام أمام الأمة، من كونها جزءاً من المؤامرة، تنوب عن الكافر المستعمر في احتلال بلاد الإسلام، وحماية كيان يهود، فنجدها فاعلة في اتجاه التآمر، عاجزة في اتجاه التحرر، وهي القبة الحديدية الفعلية لهذا الكيان الوظيفي لليهود، بل جميعها كيانات وظيفية جاءت من مشكاة واحدة وصنعت على عين الكافر المستعمر لتديم هيمنته على بلاد الإسلام وتمنع وحدة المسلمين على أساس دينهم.
هذه الخيانة الموصوفة، جعلت الأنظمة الساقطة أخلاقيا في حكم الزوال والأفول مع تأجيل التنفيذ، بل يتوقع أن يكون سقوطها مدويا ومفزعا لكيان يهود وللغرب من ورائه، ولا يُتصور اجتثاث هذا الكيان دون إسقاط حاجز الأنظمة التي توفر له الحماية.
هذا الانكشاف، شكل بعد طوفان الأقصى وعياً ينسحب على كل أفراد الأمة، من كبيرها إلى صغيرها، إن لم يكن بالفكر فبالإحساس. كما أن الأمة صارت واعية على أمهات القضايا التي تدفعها دفعاً نحو التحرر من ربقة الاستعمار، وفي مقدمتها قضية فلسطين، التي عدلت عليها الأمة بوصلتها باحثة عن الانتصار لذاتها وتحقيق كينونتها واستعادة دورها الريادي سيرا على نهج أسلافها وقادتها العظام.
هل قلب المعادلة ممكن سياسيا؟
إنه بالإمكان قلب الطاولة على الأنظمة، وجعلها تعيش عزلة أكبر أمام شعوبها في ظل الظروف الراهنة، تمهيدا للحظة الحسم النهائي، وذلك من خلال التركيز على صناعة الرأي العام الإسلامي وأخذ القيادة الفكرية في الأمّة، ومن خلال الدندنة حول أفكار الإسلام الرئيسية، وإنضاج الرأي العام عليها، وذلك من قبيل الوحدة الإسلامية، الدولة الإسلامية، الخلافة الإسلامية، الجهاد تحت لواء الخليفة وقيادته، مع رفض المشاريع الوطنية القطرية وحظائر سايكس بيكو وتصويرها للناس على حقيقتها، من كونها سبب كل الأزمات التي نعيشها.
فإنضاج الرأي العام بالإسلام وحسن إعداده للعيش في ظل سلطان الإسلام، هو بذرة التحرك الواعي المنتظر، وثمرته طوفان للأمة لا يبقي ولا يذر، وهو رصيد نافع بلا شك، وإن تباطأت أو تأخرت الجيوش في نصرة الإسلام والمسلمين لحكمة لا يعلمها إلا الله، فلسنا مكلفين بالنتائج إنما نحن مكلفون بالعمل، وسيتكفل الله سبحانه بالنتيجة. ولا نكترث مطلقا لكلام من يلومنا على طلب النصرة من الجيوش في بلاد الإسلام، ثم نجده يستجدي بدلا من ذلك قوى الكفر على غرار الأمم المتحدة ومجلس الأمن والحلف الأطلسي والمجتمع الدولي الويستفالي! فهذه كلها أدوات وأسلحة الاستعمار في حربه الصليبية المعلنة على الإسلام وأهله.
الحاجة الملحة إلى دولة من طراز خاص
أمتنا تدرك اليوم أن الأنظمة عميلة وخائنة وفاشلة، وعاجزة عن توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة، ولم تعد تنتظر منها نصرة لفلسطين والحال أنها تنكل بشعوبها وتسحقهم إلى الهاوية. بل صارت تدرك أيضا، أن هذه الكنتونات ليست دولا بالمعنى الحقيقي للدولة، بل هي حظائر استعمارية أو حدائق خلفية للاستعمار شيدت على مقاس الكافر المستعمر لتؤخر نهضة الأمة، في غفلة من أجدادنا، وها نحن ندفع ضريبة هذه الغفلة إلى اليوم، ولذلك لن نجد معارضة إذا قلنا للناس إن لبنان ليست دولة، أو أن تونس ليست دولة، بالمفهوم الحقيقي للدولة التي لديها كامل مقومات السيادة، وأن المطلوب للخروج من الواقع المتردي هو وجود دولة، ولكن ليس أي دولة، بل دولة للمسلمين تدافع عنهم وتقوم على أساس الإسلام، ولا شيء غير الإسلام. هذه الفكرة، ستجد لها قبولا واسعا أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد الأحداث الأخيرة، فقد مُعست الأمة معساً وسُحقت سحقا، وهي تنتظر من يخلصها من جحيم الرأسمالية العالمية ومن تنكيل الأنظمة الحالية. والكفر الشامل لا يواجه إلا بالإسلام الشامل، لا ببعض أحكامه المجتزأة من سياقها الفقهي والتاريخي والحضاري، وهذا لا بد له من دولة وكيان تنفيذي، ولا يكون ذلك إلا بدولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
خاتمة
ختاما، هذه الأمة غافلة، نعم. مقصرة، نعم. مستضعفة، نعم. جريحة، نعم. ولكنها أمة موعودة بالنصر والتمكين، وهي تسير اليوم رغم الآلام والجراح والقيود في سياق التمكين لهذا الدين بإذن الله وعونه، وتبحث سبل التحرر وعمن يقودها ويخلصها من هذا الواقع الأليم، ويكابد العناء في سبيل نهضتها وعزتها. بعبارة أخرى، الأمة تبحث عن عيون الأمة، وعن صفوة الصفوة فيها. بل إن أشد المستضعفين فيها اليوم، هم أئمة التغيير وقادة الغد بإذن الله. قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
ومع أنها أمة موعودة إلا أن الوعد الرباني بالاستخلاف والتمكين، جاء موجها في كتاب الله العزيز لعباده المؤمنين (أي من لهم قدر أعلى من الإيمان والعمل الصالح) ليشمل باستخلافهم ونيلهم هذا الشرف بقية الأمة، حيث قال سبحانه: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وعليه لا سبيل لخلاص الأمة إلا بالعودة إلى دينها، بكماله وشموله في دولة يرضى عنها ساكن الأرض وساكن السماء. عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلّاً لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس وسام الأطرش – ولاية تونس