- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2024-05-29
جريدة الراية: مكانة أمريكا في قيادة العالم – إلى أين؟
نشر موقع الجزيرة نت بتاريخ 2024/4/29 مقالة بعنوان: (مؤسسة راند الأمريكية: هل شمس الولايات المتحدة في طور الأفول؟)، جاء فيها نقلا عن الكاتب الأمريكي البارز ديفيد إغناتيوس: "أن دراسة معمقة أجرتها مؤسسة راند للأبحاث؛ بتكليف من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، أكدت أن الولايات المتحدة ربما تتجه نحو منحدر، لم تتعاف منه سوى القليل من الدول العظمى". ووصف إغناتيوس تقرير راند بـ"المتفجر"، وقال إن التقرير تساءل عن الأسباب التي أدت إلى "التراجع النسبي لمكانة الولايات المتحدة". فهل هذه المقالة بهذه التصورات المستقبلية تتوافق مع واقع أمريكا ومكانتها الدولية، وما يجري معها في الساحة الداخلية والخارجية؟ وما هو مستقبل هذا العملاق المترهّل؟ هل يستطيع إصلاح ما أصابه من وهن وشيخوخة، أم أنه سيتهاوى مستقبلا كما تهاوت ما سبقته من حضارات وإمبراطوريات ودول عظمى، بعدما وصلت القمة، وتربّعت على عرش النفوذ والتفرد الدولي سنوات طويلة؟
لا بد أولا من ذكر الحقيقة الربانية السامية بخصوص الأمم والشعوب التي تسير على غير هدى، وبلا استقامة في حياتها، فالله عز وجل يقول: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾. فجميع الحضارات التي قامت على غير هدى من الله، قد ذهب ريحها وانحدرت إلى أسفل، ثم أفلت بلا رجعة. فالرومان واليونان والفراعنة والفرس والروم، وغيرهم ممن لم يذكرهم التاريخ قد انهدم بنيانهم من القواعد، واندثروا وماتت حضاراتهم وانتهت. وفي العصر الحديث انتكست دول كانت قوية ثم أصبحت ضعيفة ومنها من انتهى بلا رجعة. فنابليون ومن قبله الاسكندر المقدوني، ثم مملكة النمسا وألمانيا في عهد هتلر وبريطانيا العظمى... كل هذه الممالك قد وصلت إلى ذروة الهرم بين الدول ثم انحدرت وشاخت. ولا يستثنى من هذا الأمر إلا حضارة الإسلام لأنها مبنية على أسس ربانية سليمة، وقواعد صحيحة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. لذلك فهي باقية حتى تقوم الساعة؛ كلما انتكست أو ضعفت تجددت من جديد، ونهضت من كبوتها فعادت أقوى مما كانت.
لقد قامت أمريكا شأنها شأن من سبقتها من حضارات بائدة على أسس خاطئة معوجة، فقامت كحضارة مادية لا تستند إلى أساس روحي، وقدست المادة، واعتبرت رأس المال والمنافع والمصالح هي أساس الحياة وأساس كلّ التصورات والتقييمات والتقديرات، وقد بنت أعمالها وسياساتها وتصوراتها في الحياة على أساس هذه النظرة السقيمة.
والحقيقة أن أمريكا تربعت على عرش العالم بلا منازع فاعل أو مؤثر، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وما زالت. وصارت سيدة العالم في كل شيء، وصاحبة القوة الأولى عسكريا وسياسيا واقتصاديا، فأصبحت هي القائد لدول العالم في الأحداث الفاعلة؛ تسير خلفها دول أوروبا، وأحيانا الصين وروسيا في تحقيق مصالحها وغاياتها!! لكن هذا الصعود للأعلى، وهذه القوة العملاقة قد بدأت تهرم شيئا فشيئا، ويصيبها الوهن والضعف والانحلال الداخلي. ونريد هنا أن نقف على بعض الأمور بإيجاز لمظاهر هذا التردّي والترهل، في الداخل والخارج الأمريكي:
1- تصاعد الأزمة المالية منذ سنة 2008: فقد كانت الأزمة المالية ثمرة سيئة لما قامت به أمريكا من أعمال كبيرة خارج أرضها مثل الحرب على العراق وأفغانستان. فقد كشفت صحيفة الغارديان في 2021/9/12: (أنه بعد 20 عاما، وبعد إنفاق ما يقرب من 5 تريليونات دولار على "الحروب الأبدية" بالعراق وأفغانستان، هناك فائز واحد واضح وهو "صناعة الدفاع الأمريكية").
2- خروج أمريكا من العراق وأفغانستان محملة بالأوزار والتبعات الكبيرة، وانعكاس هذه الحرب على مصداقيتها، وعلى النخب السياسية فيها، وانكشاف الأكاذيب في مسألة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل: تقول المؤرخة الأمريكية فيبي مار، المتخصصة في تاريخ العراق وأستاذة التاريخ في عدد من الجامعات الأمريكية: "الهدف المعلن لتلك الحرب كان التخلص من أسلحة الدمار الشامل، وهو ما لم يعثر عليه أحد، غير أن الثمن كان باهظا، سواء بالنسبة للشعب العراقي أو للولايات المتحدة".
3- الداخل الأمريكي المفكك والمتخاصم: فقد نشرت مجلة الإيكونومست في عددها بتاريخ 2022/9/3 مقالاً يستعرض فيه هذه المشاكل والأزمات، تحت عنوان "الولايات الأمريكية المفككة"، وأرفقته بصورة لتمثال الحرية في نيويورك وهو ينقسم إلى قسمين فوق أحد أبراج المدينة؛ في إشارة إلى حجم التفكك والانقسامات بين الولايات.
4- أزمة مصداقية الفكر والمبدأ خاصة في موضوع الجامعات مؤخرا: فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 2024/4/30: "أن تزايد الانقسام بين الدفاع عن حرية التعبير ومواجهة "العداء للسامية".. ومشاهد الفوضى في الحرم الجامعي تزيد المخاطر السياسية قبل الانتخابات".
5- ما يصيبها من انحلال أخلاقي وتصاعد الجريمة وانتشار الفساد: يقول الكاتب كريس هيدجيز في كتاب: (أمريكا: رحلة الوداع): "أمريكا المنحطة أخلاقياً والمستهلكة من مبدأ الركض وراء المتعة والتخبط في الجهل، يقودها من الحكام اللصوص والحمقى، مجزأة إلى حروب وغالباً التطرف الثقافي العنيف".
6- التهديد الداخلي في الولايات: يقول الكاتب الأمريكي مالك شرقاوي في حديث لآر تي الروسية: "إن الحرب الأهلية في أمريكا هي قيد شرارة، ليست خروج تكساس، بل لو تم منع ترامب من دخول انتخابات 2024 أو اغتياله، حينها ستكون هناك حرب أهلية، مليون قطعة سلاح، فالمواطنون في ولايات الجنوب، والجنوب الغربي يحشدون الأسلحة والذخائر تحسبا للجبهة عندما تكون هناك حرب أهلية".
7- موضوع صعود الصين والتقارب بينها وبين روسيا: فقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط مقالا بعنوان: (أمريكا تخسر نفوذها أمام الصين في جنوب شرق آسيا) جاء فيه: "بحسب دراسة جديدة شاملة ومثيرة لمعهد لوي الأسترالي للأبحاث فإن النفوذ الصيني في جنوب شرق آسيا زاد خلال السنوات الخمس الماضية، ليس هذا فقط، لكن تزايُد النفوذ الصيني يأتي على حساب الولايات المتحدة التي تشهد تراجعاً سريعاً في نفوذها في إحدى أهم ساحات التنافس بين بكين وواشنطن".
إن ما سبق ذكره من عوامل الضعف والانحلال والتردي إلى أسفل لا يعني أن أمريكا قد نزلت عن مرتبتها الأولى، أو أنها لم تعد قوة كبيرة، بل إن ذلك يعني أنها شاخت وبدأت بالفعل تنحدر، وبدأ السوس ينخر أوصالها، ولا توجد مؤشرات تدلل على انعكاس البوصلة، أي لتعود لمزاولة صعودها الذي بدأته في السابق، بل إن الأمور تنحدر وتتردى نحو الأسوأ في جميع المجالات. وإن ما يؤخر انكشافها وسقوطها نحو الهاوية هو عدم وجود منافس حقيقي ومؤثر في الساحة الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1990.
إن العالم لا ينتظر الصين لتكون هي القوة القادمة لقيادة العالم لأنها لا تملك هذه المقومات في الحقيقة؛ فالصين شأنها شأن غيرها من الدول تحمل فكرا خاطئا عن الحياة، وتسعى من أجل السيطرة وخدمة الشركات الكبرى على حساب الطبقات الكادحة، وتتصرف في مناطق نفوذها بالسياسات نفسها التي يقوم بها الرأسماليون، ولا ينتظر منها حتى لو صعدت إلى الدولة الأولى أن تقود البشرية إلى العدل والطمأنينة.
إن العالم ينتظر نظاما عادلا يقوم على الاستقامة، ويحقق العدالة في الأرض، وينشر الأمن والرفاه وبحبوحة العيش، ولا ينظر إلى المتع والشهوات منفصلة عن الخالق جل جلاله، ولا ينظر إلى الأموال وحيازة الثروة على حساب باقي الشعوب. وهذا لا يوجد إلا في نظام الإسلام في ظل دولة الإسلام؛ الخلافة على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذ حمد طبيب – بيت المقدس
المصدر: جريدة الراية