الأحد، 20 جمادى الثانية 1446هـ| 2024/12/22م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
  •   الموافق  
  • كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 


سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير

على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك "فقهي"

 

جواب سؤال

ما لا يدرك كله لا يترك ما تيسر منه

إلى ابو عمر

 

السؤال:

 

أميرنا الفاضل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

حفظكم الله ورعاكم وفتح بالخير على أيديكم

 

ما صحة هذه القاعدة الشرعية، وهل يجوز الاستدلال بها على التدرج في تطبيق أحكام الشريعة؟ "ما لا يدرك كله لا يترك ما تيسر منه"، وجزاكم الله خيرا

 

الجواب:

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،

في البداية بارك الله فيك على دعائك الطيب لنا، ونحن ندعو لك بالخير.

 

إنك تسأل عن أمرين: الأول: ما صحة القاعدة الشرعية القائلة (ما لا يدرك كله لا يترك ما تيسر منه)، والثاني: تسأل إن كان يجوز الاستدلال بها على التدرج في تطبيق أحكام الشريعة. والجواب على ذلك ما يلي:

 

أولاً: بالنسبة لسؤالك حول صحة قاعدة (ما لا يدرك كله لا يترك ما تيسر منه):

 

1- هذه المقولة لها صيغ عدة متداولة في كتب العلماء وهي متقاربة: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)، (ما لا يدرك كله لا يترك جله)، (ما لا يدرك كله لا يترك قله)، (ما لا يدرك كله لا يترك أقله)، (ما لا يدرك كله لا يترك بعضه) بالإضافة إلى الصيغة التي جاءت في سؤالك (ما لا يدرك كله لا يترك ما تيسر منه)... ويَسمُها البعض بأنها مَثَل أو مقولة فيما يصفها آخرون بأنها قاعدة شرعية... بل كأنها جرت على ألسنة بعض الناس باعتبارها حديثاً عن النبي ﷺ ما جعل محدث الشام في أيامه إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي الجراحي العجلوني الدمشقي، أبو الفداء المتوفى 1162هـ يذكرها في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) ويقول عنها: [ما لا يدرك كله لا يترك كله هو في معنى الآية ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ والحديث: «اتَّقِ اللهَ مَا اسْتَطَعْتَ»، ولفظ الترجمة قاعدة وليس بحديث]. وكذلك ذكرها أحمد بن عبد الكريم الغزي العامري المتوفى سنة 1143هـ في كتابه (الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث) فقال عنها: [مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ: قَاعِدَةٌ وَلَيْسَ بِحَدِيثٍ وَهُوَ فِي مَعْنَى الآيَةِ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾].

 

2- بالتدقيق في الأمر يتبين أن مرجع مقولة (مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ) هو إلى القاعدة الشرعية القائلة (الميسور لا يسقط بالمعسور)، أي هي تعبير آخر عن قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)، وهذه الأخيرة هي قاعدة مذكورة في كتب القواعد الشرعية مع أدلتها، فمثلاً يقول السيوطي في الأشباه والنظائر: [الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ "الْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ" قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ: وَهِيَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»]. وذكرها الزركشي في كتابه (المنثور في القواعد) فقال: [الميسور لا يسقط بالمعسور: هذه ترجع لقاعدة القدرة على بعض الأصل]، وقد شرحها وبين حدودها عند حديثه عن موضوع (الْبَعْضُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ هَلْ يَجِبُ).

 

3- لقد استدل العلماء لقاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) أو لنظيرتها الأخرى (ما لا يدرك كله لا يترك كله) أو لموضوع (الْبَعْضُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ هَلْ يَجِبُ)، استدلوا لذلك بقوله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾ وقول النبي ﷺ «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومثلوا لذلك بأمثلة تفصيلية لتجلية واقع هذه القواعد، فقد ذكر في الأشباه والنظائر فروعاً كثيرة نذكر بعضاً منها:

 

["الْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ"... وَفُرُوعُهَا كَثِيرَةٌ: مِنْهَا: إذَا كَانَ مَقْطُوعَ بَعْض الْأَطْرَافِ، يَجِبُ غَسْلُ الْبَاقِي جَزْماً. وَمِنْهَا: الْقَادِرُ عَلَى بَعْضِ السُّتْرَةِ، يَسْتُرُ بِهِ الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ جَزْماً. وَمِنْهَا: الْقَادِرُ عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ، يَأْتِي بِهِ بِلَا خِلَافٍ... وَمِنْهَا: لَوْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ الْقِيَامِ لَزِمَهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا... وَمِنْهَا: وَاجِدُ بَعْضِ الصَّاعِ فِي الْفطْرَةِ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ فِي الْأَصَحِّ...].

 

4- من دراسة ما مثَّل به العلماء لقاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) ونظيراتها يتبين أنهم يقصدون بالقاعدة أن الحكم المعين المأمور به شرعاً إذا لم يستطع المكلف القيام ببعضه لعدم قدرته عليه أي لتعسره فإن قيامه بسائر الفعل المأمور به لا يسقط عنه بل عليه أداء ما يستطيع القيام به من الفعل المأمور به لأن المكلف مطالب شرعاً بأن يؤدي من المأمور به ما استطاع وفق نصوص الكتاب والسنة... ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾، «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، فمثلاً يجب على المصلي قراءة الفاتحة كاملة في كل ركعة فإذا أسلم شخص وأراد أن يصلي لكنه لا يعرف من الفاتحة إلا بعضها فهل يجب عليه في صلاته أن يقرأ الآيات التي يعرفها من الفاتحة أو عليه أن يترك قراءة الفاتحة بالكلية لأنه لا يعرف بعض آياتها؟ والجواب على ذلك وفق هذه القاعدة أن عليه أن يقرأ ما يعرفه من الفاتحة ولا يصح له أن يترك قراءتها لأن الميسور (قراءة الآيات التي يعرفها من الفاتحة) لا يسقط بالمعسور (قراءة الآيات التي لا يعرفها من الفاتحة)... ومثلاً يجب على المكلف في الوضوء أن يغسل يديه إلى المرفقين، ولكن إذا كانت كفه مقطوعة فهل يجب عليه غسل سائر يده أو يسقط غسل سائر اليد لأنه لا يستطيع غسل بعض اليد (الكف)؟ والجواب على ذلك وفق هذه القاعدة أن غسل سائر اليد (الميسور) لازم حتى لو كان غسل الكف متعذراً (المعسور) لأن الميسور لا يسقط بالمعسور... وهكذا فإن موضوع هذه القاعدة عند العلماء هو الحكم الشرعي المأمور به فإذا كان المكلف لا يستطيع القيام ببعضه لتعسر ذلك فإنه لا يسقط عنه لزوم القيام بما يتيسر له من الفعل المطلوب...

 

5- إن قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) ونظيراتها هي قواعد غير مطردة، فهي صحيحة في بعض المجالات وغير صحيحة في مجالات أخرى، فمثلاً من لا يقدر على صيام بعض يوم في رمضان فإنه لا يجب عليه أن يمسك سائر اليوم ويكون كأنه صام اليوم بحجة أن الميسور لا يسقط بالمعسور، بل يفطر ويقضي صيام اليوم الذي فاته... وهكذا يظهر أن هذه القواعد غير مطردة، فيصلح تطبيقها في حالات ولا يصلح تطبيقها في حالات أخرى، وتطبيقها يحتاج إلى اجتهاد في دراسة الواقع المراد تطبيقها عليه ومعرفة الأحكام الشرعية ذات العلاقة... وقد تنبه العلماء إلى كون هذه القواعد غير مطردة:

 

أ- ذكر السيوطي في الأشباه والنظائر ما يلي: [تَنْبِيهٌ: خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِل: مِنْهَا: وَاجِدُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، لَا يَعْتِقُهَا، بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى الْبَدَلِ بِلَا خِلَافٍ. وَوُجِّهَ بِأَنَّ إيجَابَ بَعْضِ الرَّقَبَةِ مَعَ صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ، جَمْعٌ بَيْن الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَصِيَامُ شَهْرٍ مَعَ عِتْقِ نِصْفِ الرَّقَبَةِ فِيهِ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَبِأَنَّ الشَّارِعَ قَالَ ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ وَوَاجِد بَعْض الرَّقَبَةِ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً... وَمِنْهَا: الْقَادِرُ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ يَوْمٍ دُونَ كُلِّهِ، لَا يَلْزَمُهُ إمْسَاكُهُ...].

 

ب- وكذلك وضح الزركشي في المنثور في القواعد هذا الأمر فقال: [الْبَعْضُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ هَلْ يَجِبُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

 

(أَحَدُهَا) مَا يَجِبُ قَطْعاً كَمَا إذَا قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ لَزِمَهُ قَطْعاً...

 

الثَّانِي: مَا يَجِبُ عَلَى الْأَصَحِّ... وَلَوْ كَانَ بِجَسَدِهِ جِرَاحَاتٌ تَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِيعَابِ الْمَاءِ فَالْمَذْهَبُ غَسْلُ الصَّحِيحِ، وَالتَّيَمُّمُ عَنْ الْجَرِيحِ...

 

الثَّالِثُ: مَا لَا يَجِبُ قَطْعاً، كَمَا إذَا وَجَدَ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ بَعْضَ الرَّقَبَةِ، لَا يَجِبُ قَطْعاً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَصْدُهُ تَكْمِيلَ الْعِتْقِ مَا أَمْكَنَ؛... وَيَنْتَقِلُ لِلْبَدَلِ...

 

الرَّابِعُ: مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْأَصَحّ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ الْفَاقِدُ لِلْمَاءِ ثَلْجاً، أَوْ بَرَداً وَتَعَذَّرَتْ إذَابَتُه، فَلَا يَجِبُ مَسْحُ الرَّأْسِ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا فِي الرَّأْسِ قَبْلَ التَّيْمِيمِ عَنْ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ...]

 

وبهذا يظهر أن القاعدة / القواعد المشار إليها ليست صحيحة على إطلاق وليست خطأ على إطلاق، بل هي صحيحة مستقيمة في بعض المجالات وغير صحيحة في مجالات أخرى.

 

ثانياً: بالنسبة للاستدلال بقاعدة (ما يدرك كله لا يترك ما تيسر منه) أو (الميسور لا يسقط بالمعسور) على موضوع التدرج في تطبيق أحكام الشريعة:

 

إن الاستدلال بهذه القواعد على جواز التدرج في تطبيق أحكام الشريعة هو من قبيل التلبيس على الناس ومن قبيل الافتراء على دين الله، وذلك لأنه لا مجال مطلقاً للاستدلال بهذه القواعد على التدرج في تطبيق الشرع وذلك من أبواب عدة:

 

1- إن معنى التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية هو أن يطبق جزء من الأحكام الشرعية في بعض الأمور وتطبق في غيرها أحكام الكفر، وذلك كأن تجعل عقود الزواج وفق أحكام الإسلام ولكن يسمح بالربا والزنا وشرب الخمر، وتجعل عقوبة السارق قطع اليد ولا توضع عقوبة للزاني ولا لشارب الخمر... فالمعنى الحقيقي للتدرج في تطبيق أحكام الشرع هو الحكم بأحكام الكفر في مسائل معينة بدلاً من الحكم بالشرع، وهذا ولا شك بعيد كل البعد عن موضوع قاعدة ما لا يدرك كله لا يترك كله لأن هذا القاعدة تقول بأن الفعل المأمور به شرعاً يجب القيام ببعضه الميسور إذا كان القيام ببعضه الآخر غير متيسر لعدم القدرة، فالقاعدة لا تقول بأنه يجوز القيام بالحرام أو بتطبيق الكفر عند عدم القدرة على أداء المأمور به...

 

2- هذه القواعد تتحدث عن الفعل المأمور به لا عن الفعل المنهي عنه، فالفعل المأمور به هو أن يُطبّق الشرع، وأما تطبيق غير الشرع فهو لا شك منهي عنه بل هو من أعظم الذنوب، فكيف يستدل بهذه القاعدة على جواز تطبيق أحكام الكفر؟ أليس هذا أمراً عجيباً؟!

 

3- إن الذين يقولون بالتدرج في تطبيق الأحكام يقصدون بذلك تدرج الحاكم في تطبيق الشرع، والحاكم لا يمنعه شيء من تطبيق الشرع فلا يرد في شأنه موضوع عدم القدرة لأنه هو الحاكم، فمثلاً ما الذي يمنع الحاكم المسلم من تطبيق أحكام الشرع كلها بدلاً من تطبيق أحكام الكفر في أغلب مجالات الحياة؟ أليس هو الحاكم الفعلي في البلد؟ فلماذا لا يطبق أحكام الشرع بل يقدم عليها أحكام الكفر؟ هل واقع الحاكم مثل الشخص الذي لا يستطيع القيام في الصلاة لمرض عنده فيسقط عنه وجوب القيام ويصلي الصلاة دون قيام؟ فأين وجه الشبه بينهما؟!

 

4- وقبل كل ذلك وبعده فإن النصوص الشرعية التي استدل بها لهذه القواعد لا تدل على التدرج مطلقاً:

 

أ- فقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾ ليس له مفهوم مخالفة أي لا يفهم من الآية أن التقوى غير مأمور بها عند عدم الاستطاعة، بل على العكس من ذلك فالآية تدل على وجوب بذل الوسع في تحصيل التقوى والالتزام بأوامر الله ونواهيه، وقد أبرز الإمام الطبري في تفسيره هذا المعنى فقال: [... قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) يقول تعالى ذكره: واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يُقرّب إليه ما أطقتُم وبلَغه وُسعُكم.] وأجاد ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) عندما تناول هذه الآية بالشرح، فقد قال:

 

[...﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (16)

 

فَاءٌ فَصِيحَةٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ إِذَا عَلِمْتُمْ هَذَا فَاتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا يَجِبُ مِنَ التَّقْوَى... وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ (اتَّقُوا) لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّقْوَى مِنْ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا وَبِذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ كَالتَّذْيِيلِ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ. وَلَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى فِي شَأْنِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا قَدْ يَعْرِضُ لِصَاحِبِهَا التَّقْصِيرُ فِي إِقَامَتِهَا حِرْصاً عَلَى إِرْضَاءِ شَهْوَةِ النَّفْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ زِيدَ تَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِقَوْلِهِ: مَا اسْتَطَعْتُمْ. ومَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِكُمْ لِيَعُمَّ الْأَزْمَانَ كُلَّهَا وَيَعُمَّ الْأَحْوَالَ تَبَعاً لِعُمُومِ الْأَزْمَانِ وَيَعُمَّ الِاسْتِطَاعَاتِ، فَلَا يَتَخَلَّوْا عَنِ التَّقْوَى فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمَانِ. وَجُعِلَتِ الْأَزْمَانُ ظَرْفاً لِلِاسْتِطَاعَةِ لِئَلَّا يُقَصِّرُوا بَالتَّفْرِيطِ فِي شَيْءٍ يَسْتَطِيعُونَهُ فِيمَا أُمِرُوا بِالتَّقْوَى فِي شَأْنِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَى حَدِّ الْمَشَقَّةِ...] انتهى.

 

فالآية الكريمة تدل بكل وضوح على لزوم بذل الجهد في تقوى الله سبحانه وعدم الحيد عن أوامره ونواهيه ما استطاع المسلم إلى ذلك من سبيل، ولا تدل بوجه من الوجوه على التدرج أي على جواز تطبيق أحكام الكفر إلى جانب أحكام الشرع، بل هي تطلب الالتزام بالشرع كله بأقصى درجات الالتزام.

 

ب- الحديث الشريف الذي استدل به على القواعد المشار إليها هو كما رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، فالحديث يقول بالنسبة للمنهيات أنه لا بد من تجنبها، فالمحرمات يجب الابتعاد عنها حتماً، وأما المأمورات فهي التي أنيطت بالاستطاعة، ولا شك أن تطبيق أحكام الكفر (إلى جانب أحكام الإسلام) بدعوى التدرج هو من الأمور التي نهى الشرع عنها بأدلة قاطعة، فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾، ولذلك فلا يدل الحديث بوجه من الوجوه على جواز التفريط في تحكيم الشرع وتطبيق أحكام الكفر بدعوى التدرج لأن الحكم بغير ما أنزل الله هو من المحرمات والمنهيات التي أوجب الحديث تجنبها.

 

وعليه فإن الاستدلال بهذه القاعدة على التدرج في تطبيق أحكام الشرع هو استدلال باطل لا تقوم به حجة مطلقاً.

 

أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة

 

05 ربيع الآخر 1443هـ

الموافق 2021/11/10م

 

رابط الجواب من صفحة الأمير (حفظه الله) على الفيسبوك

رابط الجواب من صفحة الأمير(حفظه الله) ويب

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع