- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال
الصراع الأوروبي الأمريكي في الشمال الأفريقي
السؤال:
سؤالي عن الشمال الأفريقي، والمعذرة على كونه متعدد الجوانب ولكنها متصلة كما أراها:
1- لقد اختلطت الأمور علي في موضوع الشمال الأفريقي وبخاصة ليبيا؛ فقد كان ليون قد حدد 20/9/2015 موعداً نهائياً للحل بين الأطراف المتفاوضة في الصخيرات بالمغرب ولكن قبيل ذلك في 19/9/2015 قام حفتر بعملية عسكرية في بنغازي ما جعل المبعوث الأممي ليون ينتقد هذا العمل كأنه مقصود للاستفزاز ولعرقلة الوصول إلى حل، وهذا ما كان، فتم وضع موعد نهائي آخر يصل إلى 20/10/2015! ومعروف أن حفتر مدعوم من أمريكا، وحكومة طبرق كذلك مدعومة من أمريكا وهي تفاوض، وحفتر يعرقل التفاوض، فما تفسير هذا التناقض؟
2- في 7/9/2015 أعطى مجلس الشيوخ الإسباني وبصفة رسمية، الضوء الأخضر لإقامة قاعدة عسكرية أمريكية جنوب البلاد (أفريكوم)، التي طالما حاولت أمريكا إقامتها في شمال أفريقيا فلم تجد قبولاً... وأُعلن أن المهمة الرئيسية لهذه القوة الجديدة بموجب التعديل الجديد بمجلس الشيوخ، هي "التدخل بحرا وبرا وجوا في مختلف الأزمات بالقارة الأفريقية..." فهل يعني ذلك أن أمريكا قررت الصراع مع أوروبا وبخاصة بريطانيا وفرنسا صاحبتي الجذور الاستعمارية في الشمال الأفريقي؟ وما مدى نجاحها في ذلك؟
3- وقد سبق ذلك ورافقه زيارات مكثفة من الأمريكان لشمال أفريقيا وخاصة تونس، فهل هذه الزيارات المكثفة للشمال الأفريقي تؤكد ما ذكرته في النقطة الثانية عن الصراع مع أوروبا؟ وهل يمكن بيان هذا الصراع في الشمال الأفريقي "المغرب والجزائر وتونس وليبيا" ولو بخطوط عريضة، فالتساؤل عنها وارد خاصة في الظروف الحالية؟ ولك الشكر وعذراً مرة أخرى على طول السؤال.
الجواب:
عذرك مقبول يغفر الله لنا ولك وهو أرحم الراحمين، وسأجيبك بإذن الله مراعياً تسلسل الأحداث:
أولاً: بالنسبة إلى اهتمام أمريكا بالشمال الأفريقي وإنشاء قاعدة أفريكوم:
1- لقد اهتمت أمريكا بالشمال الأفريقي منذ الخمسينات وليس اليوم، فعندما اجتمع سفراؤها في إستانبول في شهر 11/1950م، وعقدوا أول مؤتمر لهم في إستانبول برئاسة جورج ماغي الوكيل في وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، منذ ذلك التاريخ وأمريكا تصارع أوروبا لتزيحها وتحل مكانها في مستعمراتها، وهذا الصراع يشتد تارة ويخف تارة وفق الظروف الدولية والإقليمية. لقد استمر المؤتمر خمسة أيام، وقد استعرضوا فيه أبرز الأوضاع السياسية والاستراتيجية والاقتصادية لهذه المنطقة، وبدأ منذئذ صراع الاستعمار الأمريكي الجديد للاستعمار الأوروبي القديم... وقد نجحت أمريكا في إدخال نفوذها في كثير من مناطق الشرق الأوسط وحوض النيل على حساب النفوذ الأوروبي "بريطانيا وفرنسا" إلا أن نفوذها لم يستقر في شمال أفريقيا، لأن الأولوية كانت عند أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط مع حوض النيل...
2- إن أمريكا تدرك أن الوسط السياسي، في الشمال الأفريقي هو لأوروبا، ولذلك عمدت إلى وسائل أخرى غير الأعمال السياسية المعتادة مع الوسط السياسي للنفاذ إلى المنطقة، ومن أبرزها أمران: الأول موضوع الإرهاب واستغلاله للاتفاقيات العسكرية والنفاذ عن طريق الجيش والتدريب والمساعدات العسكرية ثم القواعد العسكرية. والثاني المساعدات الاقتصادية والمؤسسات الدولية التابعة، وكانت أمريكا تحرك هذين الأمرين باستمرار إلا في فترات تقع في باب استراحة المحارب! وكان من محاولات إنشاء القواعد القرار الذي اتخذه جورج بوش الابن بإنشاء قيادة عسكرية أمريكية في إفريقيا "أفريكوم": (في 6/2/2007م أعلن الرئيس بوش ووزير الدفاع روبرت غيتس إنشاء قيادة الولايات المتحدة لأفريقيا) صفحة أفريكوم على الفيس بوك... ومع أن هذه القيادة مصنوعة أصلاً للهيمنة على أفريقيا ونهب ثرواتها واستعمار أهلها إلا أن أمريكا على عادة المستعمرين حاولت أن تُظهرها كما لو كانت لحماية أفريقيا لذلك دعت عدداً من الرؤساء الأفارقة لحضور الاحتفال بتلك القيادة! (وقد بدأت القيادة الأفريقية نشاطها رسميا في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2008 من خلال احتفال في وزارة الدفاع على اعتبار أن القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا usafricom هي وحدة مكونة من قوات مقاتلة موحدة بإدارة وزارة الدفاع الأمريكية. حضره ممثلون عن الدول الأفريقية في واشنطن دي سي) من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
3- لقد حاولت أمريكا جاهدة إقامة هذه القاعدة في الشمال الأفريقي للهيمنة عليه ليحل نفوذها فيه بدل النفوذ الأوروبي فلم تستطع لأن عملاء أوروبا كانوا لها بالمرصاد إخلاصا للنفوذ الأوروبي، وبقي مشروع أفريكوم يراوح مكانه. فلما يئست أمريكا من تنفيذه كما خطط له في الشمال الأفريقي توجهت إلى شمال الشمال الأفريقي وحطت الرحال في إسبانيا وذلك في 7/9/2015 (أعطى مجلس الشيوخ الإسباني وبصفة رسمية الضوء الأخضر لإقامة قاعدة عسكرية أمريكية لقوات المارينز جنوب البلاد في إطار ما يعرف بقيادة أفريكوم) بوابة الشروق 7/9/2015م. وهذه القاعدة ليست بعيدة عن الشمال الأفريقي بل على تخومه، وتمكِّنهم من مخططاتهم الخبيثة في المنطقة. إن مشروع "أفريكوم" قد تم تسويقه بحجة الحرب العالمية على "الإرهاب"، إلا أن هذا المشروع يحمل في طياته الكثير من الأهداف التي تصب كلها لتكريس الهيمنة الأمريكية على العالم، فهو ليس لحماية أفريقيا من مخاطر "الإرهاب"، وإنما هو في إطار الاستراتيجية الأمريكية العالمية للسيطرة على منابع البترول والثروات ومراقبة كل الممرات البحرية في العالم من جهة، وإزاحة النفوذ الاستعماري القديم ليكون مكانه الاستعمار الجديد، أي هو صراع على امتصاص الدماء ونهب الثروات من جهة أخرى.
وعلى الرغم من كل ذلك فكون أمريكا لم تستطع أن تبني قاعدة أفريكوم في مكان ما في الشمال الأفريقي، فهذا يعني أنها لم تملك موطئ قدم ثابتاً في هذه المنطقة، فقد حاولت أن تنشئها في الجزائر فلقيت صداً كبيراً... وكذلك لم تتمكن في المغرب وليبيا وتونس... وهي تركز حالياً على ليبيا مستغلة الاضطرابات فيها، وأيضاً على تونس مستغلة هشاشة الحكم فيه بسبب رجوع الطبقة السياسية السابقة التي انتفض الناس أصلا عليها والمكروهة من الناس... ومع ذلك فليس من السهل أن تُنقل قاعدة أفريكوم إلى الشمال الأفريقي لأن حاجز الخوف قد كسر عند الناس ويستبعد سكوتهم على نصب قواعد شريرة في بلادهم... وهذا لا يعني أن عمل قاعدة أفريكوم وهي في إسبانيا سيكون بعيداً عن التأثير في الوضع السياسي في الشمال الأفريقي، وإنما هو فقط أقل أثراً، أي أن أمريكا ستكرر المحاولة مرة بعد أخرى حتى إذا وجدت ثغرة دخلت منها، وبخاصة في تونس وليبيا.
ثانياً: بالنسبة لتكثيف الزيارات والصراع الأوروبي الأمريكي في المغرب والجزائر وتونس وليبيا:
إن تكثيف الزيارات ما هو إلا استمرار للمخططات الأمريكية والأوروبية في التنافس على ثروات المنطقة وموقعها الاستراتيجي، فأمريكا وأوروبا، كما قلنا آنفاً، لم تبدأ أطماعهما اليوم في الشمال الأفريقي، بل قبل أفريكوم وخلالها وبعدها... ونستعرض بعض هذه الأعمال والمخططات التي تتقاذفها أمريكا وأوروبا على ساحة بلاد المسلمين في الشمال الأفريقي "المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا":
• المغرب:
أ- ساندت أمريكا حركات (التحرر) من فرنسا في المغرب من أجل أن تحل محلها، وهكذا تمكنت من إدخال نفوذها عند الاستقلال في المغرب في عهد محمد الخامس، ولكن هذا الأمر لَم يطل فقد أصبح نفوذ بريطانيا بعد وفاة محمد الخامس هو الموجود بقوة مع مجيء الحسن الثاني في 1961م. وأصبح الطريق إلى المغرب مغلقاً أمام أمريكا، إلى أن وجدت الفرصة في حركة بوليساريو لاستقلال الصحراء بعد خروج إسبانيا منها في 26/2/1976م، بعد (91) سنةً من الاستعمار. وكانت الأمم المتحدة قبل ذلك بتأثير من أمريكا قد شكلت بعثة تقصي الحقائق وأرسلتها إلى الصحراء الغربية، ورفعت هذه البعثة تقريرها إلى الجمعية العامة في 9/6/75 توصي فيه باستقلال الصحراء عن إسبانيا وأن منظمة البوليساريو هي الحركة المسيطرة في الإقليم ولها تأثير معتبر فيه. وهكذا أبرزت أمريكا البوليساريو ودعمتها كممثل للشعب الصحراوي وكان الغرض من ذلك أن لا تعود الصحراء للمغرب بعد خروج إسبانيا منها لتبقى بؤرة توتر تطالب بالاستقلال تستغلها أمريكا لمصالحها في الشمال الأفريقي.
ولكن الحسن الثاني تصدى للمخطط الأمريكي بدعم من بريطانيا وذلك خلال فترة حكمه من 1961-1999م حيث عرف بحنكته ودهائه السياسي منذ ريعان شبابه فاستطاع قيادة المغرب بقوة وتحقيق استقرار عجزت دول مجاورة عن تحقيقه إلى حد الآن، وقد نال شعبية إلى حد ما بعد المسيرة الخضراء لتحرير الصحراء المغربية من الاستعمار الإسباني سنة 1975.
https://ar.wikipedia.org/wiki/1975
ب- انسحبت إسبانيا من الصحراء في 26/2/1976م فأعلن المجلس الوطني الصحراوي في اليوم التالي قيام الجمهورية العربية الصحراوية... ولقد بدأت أمريكا بالتدخل الفعلي بعد ذلك مباشرة عن طريق تأثيرها في إصدار قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصحراء ولكن الحسن كان بدهائه ومن ورائه الإنجليز كلما حاولت أمريكا استفزازه بقرار التف عليه! وهكذا امتص الحسن الضغوط الأمريكية دون أن يتغير شيء في واقع الصحراء. ولما توفي الحسن الثاني خلفه ابنه محمد السادس في 23/7/1999م وكان مثل والده موالياً لبريطانيا ولكنه ليس رجل سياسة ودهاء كوالده، فنشطت أمريكا للاستحواذ عليه، ومن ثم خشيت بريطانيا عليه من الوقوع أمام دهاليز المخططات الأمريكية...
ج- لقد خشيت بريطانيا على محمد السادس أمام الضغوط الأمريكية ومخططاتها فالملك أقل من والده دهاءً وخبرةً في خوض غمار الحياة السياسية، لذلك فإن بريطانيا نصحته "أو أمرته" كعادتها للمحافظة على عملائها الصغار بأن لا يستمر في السير المتشدد تجاه أمريكا كما كان أبوه، ولذلك أظهر تفهُّماً لما تقوله أمريكا من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعامل مع أمريكا بليونة زائدة، فأصبحت أمريكا رابع زبون تجاري للمغرب وأول متعامل خارج الاتحاد الأوروبي "1.5 بليون دولار حجم التبادل التجاري"... ولما اقترحت أمريكا خلال انعقاد قمة الحلف الأطلسي في اسطنبول في حزيران 2004م منح المغرب مرتبة حلف رئيس من خارج الحلف الأطلسي كأول دولة عربية من شمال أفريقيا تدخل نادي الناتو، لما اقترحت أمريكا ذلك جعلته بريطانيا يوافق على ذلك مع الحيطة والحذر لأنها تدرك أن اقتراح أمريكا هو للتأثير في وضع المغرب السياسي... وكذلك فقد أصبح موقفه تجاه القرارات الأمريكية ليس متشدداً كما كان والده بل يوافق ويماطل في التنفيذ، ولذلك فقد وافق على اقتراح بيكر حول الحل الوسط باسم الحل الثالث الذي يكون على مراحل تبدأ بالحكم الذاتي للصحراء، ثم بعد خمس سنوات يكون الاستفتاء على تقرير المصير، وهو الاقتراح الذي أقره مجلس الأمن بقراره رقم "1359" في 29/6/2001، وافق عليه ولكن على الطريقة الإنجليزية، أي بعد أخذ ورد مدة سبع سنين في 2007 وكذلك بتسميتها مبادرة مغربية! ولم تتوقف مخططات أمريكا تجاه المغرب إلا بضع سنين بسبب انشغالها بأولويات أخرى مثل أزمتها الاقتصادية التي تصاعدت في 2008 وما بعدها وكذلك الأزمات السياسية والعسكرية الخارجية... وذلك إلى ربيع سنة 2013 حيث بدأت أمريكا تحريك الأزمة من جديد بقوة لتتخذ من أزمة الصحراء حجة للتدخل في شمال أفريقيا وما يلاصقها من الدول الأفريقية الأخرى... فأعدت مسودة مشروع توسيع مهمة البعثة الأممية "المينورسو" بالصحراء المغربية وجعلها تشمل مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء، فتكون حجة لها في الوقوف على الصغيرة والكبيرة في الصحراء بحجة حقوق الإنسان! ورغم أن المشروع قد أجل لسنة أخرى بموجب قرار مجلس الأمن رقم "2099" الصادر في 25/4/2013... إلا أن أمريكا نشطت هي والأمين العام ومبعوثه روس خلال سنة التمديد في تهيئة الأجواء من جديد لبحث الاستفتاء وحقوق الإنسان... فقام الدبلوماسي الأمريكي كريستوفر روس بصفته المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية بزيارة للمنطقة في شهر تشرين أول/أكتوبر 2013 ثم في 28/1/2014، وكان روس مهتماً في زياراته بموضوع الاستفتاء وحقوق الإنسان...
د- ومع ذلك فقد كان موقف المغرب شبيهاً بموقف الأردن بعدم المجابهة الصريحة، ثم أصبحت المغرب فيما بعد تُزايد على أمريكا في الحرب على الإرهاب بمواجهته بما يسمى "بالخطاب الديني المعتدل" لكون المغرب يشكل مرجعية دينية إسلامية وخاصة للمذهب المالكي والتيجانية المنتشرة في دول الساحل والصحراء مالي والسنغال والنيجر. وقد تم بالفعل نشر عشرات الوعاظ والخطباء ورجال الدين في السنغال وساحل العاج ومالي وبنين إضافة إلى استقبال 500 تلميذ للدراسات الدينية في معاهد وجامعات مغربية! وقد اضطرت أمريكا للثناء على دور المغرب، "قالت نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي المكلفة بالشؤون الإفريقية، بيسا وليامس داس، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، على هامش ندوة دولية تحتضنها نواكشوط يومي 19 و 20 من الشهر الجاري (إننا نقدر عاليا التجربة المغربية في إفريقيا برمتها ولا سيما في منطقة الساحل، لأن المغرب لم يدخر أي جهد من أجل إفادة البلدان الأخرى من تجربته في مجال مكافحة التطرف العنيف)". هسبريس: 21/08/2015م
وهكذا فلم تنجح أمريكا في استغلال قضية الصحراء ولا موضوع الاستفتاء وحقوق الإنسان، لم تنجح في كل ذلك حتى الآن في إزاحة النفوذ الإنجليزي في المغرب، ونقول حتى الآن لأن الصراع بين أمريكا وأوروبا مستمر في أفريقيا.
• أما الجزائر:
فهي دولة ذات شأن قاومت مخططات أمريكا بقوة أكثر من جارتها فمنذ انقلاب بومدين على بن بيلا الذي كان يسير في خط أمريكا مع عبد الناصر، ومنذ ذلك التاريخ والنفوذ البريطاني مستحكم في الجزائر مع بعض النتوءات الفرنسية التي كانت تشتد أحياناً وبخاصة في عهد بعض الرؤساء الضعفاء. لقد استمر بومدين في الحكم من 19/6/1965حتى وفاته في 27/12/1978. بعد فترة بومدين في الجزائر تولى الحكم رؤساء ضعفاء، فأصبح الحكم بيد الجيش، وكان المتنفذون فيه فرنسيي الولاء والثقافة والتدريب، وقد تحركوا بانقلابهم عام 1992، وذلك ليحولوا دون وصول جبهة الإنقاذ الإسلامية إلى الحكم بعد أن نجحت في الانتخابات... وقد ارتكبوا مجازر عدة ضد جبهة الإنقاذ بخاصة وضد كثير من المسلمين بعامة، ولم يستطيعوا إدارة البلاد، بل كرههم الناس ومقتوهم... وتخلل سنوات نفوذهم من 1992 إلى 1999 أربعة رؤساء، دونما فاعلية، وإنما كان الجيش هو القوة المتحكمة، ولكن لم يستطع رجال الجيش الموالون لفرنسا حينذاك أن يعالجوا تبعات انقلابهم وتهدئة الأوضاع في البلاد بعدما ارتكبوا مجازر فظيعة في حق أهل الجزائر المسلمين...
في تلك الأجواء أحضرت بريطانيا بوتفليقة من سويسرا وأعادته للجزائر، وأوجدت له جواً سياسياً كمنقذ مستغلة فشل قادة الجيش في الإدارة، ولكره الناس لهم بسبب مجازرهم فقد اتفق رجال الجيش مع عبد العزيز بوتفليقة سنة 1999 ليكون الرئيس على أن لا تمسهم أية مساءلة عن جرائمهم وتدميرهم للبلد وليعمل على دمل الجراح بالدعوة إلى الوئام والسلم والمصالحة... أي لجأوا إليه لينقذهم!... لقد أصبح بوتفليقة الرئيس منذ 1999حتى اليوم، وما زال بوتفليقة على علاقة وثيقة ببريطانيا، وقام بتتويج ذلك بزيارة بريطانيا عام 2006 لتكون أول زيارة لرئيس جزائري إلى بريطانيا. ومع أن مجموعة فرنسا في الجيش الجزائري، وهم مؤثرون إلى حد ما، يدركون علاقة بوتفليقة مع بريطانيا، وكذلك يدركون أن بوتفليقة لم يكن على وئام مع السياسة الفرنسية، فقد رفض مشروع الاتحاد المتوسطي الذي جاءت به فرنسا على عهد ساركوزي... ومع ذلك فلم يستطع الموالون لفرنسا في الجيش أن يوقفوا رئاسته حتى اليوم! ومع أن بريطانيا لم تكن تخشى فرنسا على نفوذها في الجزائر خشيتها لأمريكا لكنها رأت أن تنهي تلك النتوءات الفرنسية فذلك أقوى لنفوذها، ولكنها سارت في هذا الأمر بالتدريج لأنها ليست في صراع مع فرنسا بل الصراع مع أمريكا لذلك مرت تلك التغييرات للضباط الموالين لفرنسا دون تسخين للأجواء كما لو كان صراع! فمثلاً "استقال العماري رئيس الأركان لأسباب صحية "أو أُقيل" في 3/8/2004م، وبعد الاستقالة بـ48 ساعة أقال بوتفليقة في 5/8/2004 اللواء إبراهيم الشريف قائد الناحية العسكرية الأولى... وفي بداية 2014 أقيل الجنرال حسان من مهامه قائداً لفرقة مكافحة الإرهاب في المخابرات، ثم قام بوتفليقة بإقالات أخرى... ولكن تلك الإقالات كانت تتم دون صدام ساخن يؤثر في بنية النظام ويؤكد ذلك أنه عندما اعتقل الجنرال حسان في 27/8/2015م وقُدِّم للمحاكمة سُئل أحمد أويحيى مدير ديوان رئيس الجمهورية إن كان هذا يعني صراعاً في هرم السلطة في الجزائر نفى ذلك مؤكداً أن ما يشاع هو حديث صالونات" الجزيرة 12/9/2015م... وحتى عندما أعفى بوتفليقة في 13/9/2015 ضابطاً كبيراً من أصحاب الميول الفرنسية وهو مدير أجهزة الاستخبارات العامة محمد لمين مدين المعروف بالجنرال توفيق من مهامه فقد تم ذلك دون أي سخونة أو تأثير في بنية النظام! ويمكن القول إن بوتفليقة نجح إلى حد ما في هذه الإقالات بدعم بريطانيا له، وإن كان لا زال في الجيش مكان لفرنسا حيث ثقافة الجيش وتدريبه في معظمه من فرنسا... ولكن كما قلنا فقد كان "صراع" بوتفليقة مع الجيش ليناً يتم بهدوء أقرب للتنافس الرياضي ولا يؤثر في القضايا الأساسية للنظام، وهذا يختلف عن الصراع الحقيقي مع أمريكا ومخططاتها في الجزائر للاستحواذ السياسي على الجزائر، والحلول فيها مكان بريطانيا، فمثلاً:
أ- بعد خروج إسبانيا من الصحراء في 1976م بعد 91 سنة من الاستعمار، وجدت أمريكا الفرصة في حركة بوليساريو لاستقلال الصحراء، واتخذتها ذريعة للتدخل في الشمال الأفريقي وخاصة الجزائر... ولكن الحكم في الجزائر "بريطانيا" كان منتبهاً للمسألة، فحصر البوليساريو في شريط عند الحدود، وأحاطها بعيونه لأنه كان يدرك أن أمريكا لها اختراقات فيها... وحتى اليوم رغم هيمنة أمريكا على بعثات الأمم المتحدة ومندوبيها بشأن الصحراء إلا أنها لم تستطع الاستحواذ عن طريقها على النفوذ في الجزائر.
ب- حاولت أمريكا إيجاد قاعدة في الجزائر للقوات التي أنشأتها بحجة محاربة الإرهاب، وهي القوات المسماة "أفريكوم"، ولكن الجزائر رفضت لأنها ومن خلفها بريطانيا تدرك أن هذه القاعدة الأمريكية هي للتدخل في شئون الجزائر، ولذلك صرحت الخارجية الجزائرية في 3/3/2007: (أن الجزائر غير معنية باستضافة مقر القوات الأمريكية الخاصة لأفريقيا "أفريكوم")
ج- حاولت مرة أخرى إثارة موضوع محاربة الإرهاب مستغلة أحداث مالي في 22/3/2012م وحدثت بينها وبين الجزائر زيارات لإشراك الجزائر بالتعاون مع أمريكا في مكافحة الإرهاب بحجة أنه قد يصل الجزائر ومع ذلك رفضت الجزائر "ومن خلفها بريطانيا"، رفضت خطة أمريكا، وأبرز هذه الزيارات زيارة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية واجتماعها بعبد العزيز بوتفليقة في 29/10/2012م...
د- بعد أن زار السبسي أمريكا في 21/5/2015م وعقد بعض الاتفاقيات مع أمريكا ومنحوه عضواً من خارج حلف الناتو كما فعلوا مع المغرب والأردن والبحرين، صعَّدت الجزائر حملة قوية ضد هذه الاتفاقات، وحاول الرئيس التونسي تلطيف الأجواء السياسية بينهما فأرسل مبعوثه الخاص خميس جهيناوي وحمله رسالة إلى نظيره الجزائري يوم 24/6/2015..
ولم يكن انزعاج الجزائر بسبب زيارة السبسي إلى أمريكا لأن كل ما تم هو ضمن خطة سياسية إنجليزية تتبعها الجزائر وتونس، وإنما كان المقصود منه أمرين: إعطاء تونس ذريعة لتتمكن من رفض بعض المطالب الأمريكية التي تعتبر خطراً على نفوذ أوروبا "بريطانيا" بحجة عدم الصدام مع الجوار، والأمر الآخر توجيه رسالة قوية لأمريكا أن الجزائر لا ترضى عن بريطانيا بديلاً، وأنها لن تقبل بالنفوذ الأمريكي وبخاصة إنشاء القواعد... وهذا كان واضحاً من أن الانزعاج لم يكن اعتراضا جدياً على زيارة السبسي بدليل أن الجزائر بعد مبعوث السبسي للقاء بوتفليقة أرسلت وزير خارجيتها رمطان لعمامرة إلى تونس في 13/7/2015م في زيارة رسمية وفق بيان الخارجية الجزائرية وانتهى الانزعاج!
• أما تونس:
فقد كانت تحت الاستعمار الفرنسي، وبعد ذلك وقعت تحت النفوذ البريطاني في ظل حكم الحبيب بورقيبة تونس من 1956-1987. وبحلول عام 1987 كان بورقيبة قد بلغ 84 سنة، وكان غير قادر على تنفيذ ما هو مطلوب منه. فجاء عندها زين العابدين بن علي إلى السلطة، الذي كان من بطانة بورقيبة، فتبع خطاه بالبقاء موالياً لبريطانيا. حاولت أمريكا في مناسبات عديدة أن تدخل نفوذها مكان النفوذ البريطاني فلم تستطع لوقوف الطبقة السياسية البريطانية في وجهها... لكن عندما اندلعت أحداث الربيع العربي في عام 2011 وأطيح بابن علي اعتبرت الولايات المتحدة ذلك فرصة جديدة للتدخل في شمال أفريقيا غير أن كلاً من فرنسا وبريطانيا رتبتا رحيل زين العابدين بن علي، وبما أن أوروبا تسيطر على الوسط السياسي فإنها استطاعت ضمان بقاء النظام الأساسي في البلاد دون تغيير، حتى مع ظهور حزب النهضة في البلاد! فالوسط السياسي في تونس لا يزال بقوة ضمن السيطرة البريطانية من خلال اتفاقات الاتحاد الأوروبي التي تربط تونس بأوروبا، وقد تمكنت أوروبا في حدود أربع سنوات من إعادة الطبقة الحاكمة التي كانت مع نظام بورقيبة وبن علي، ليس بتغيير الوجوه كما يفعل أشياعهم، بل فاقوهم في قلة الحياء، فأعادوا كبراءهم بالوجوه نفسها في فسادها وإفسادها! فكان كبير دهاقنة العملاء الإنجليز السبسي رئيسا لتونس!! لقد كانت هذه العودة استفزازاً للناس الذين ثاروا على طغيان النظام السابق وفساده وعمالته وظن الناس أنهم تخلصوا من شرهم وإذ بهم يُطلّون عليهم من جديد، فيثور الناس في وجوههم، فيقابلهم الطغاة بالقمع وبالطوارىء كما كان أشياعهم من قبل يفعلون... ولكن حاجز الخوف قد كسر ولم يعد بمقدور الطغاة أن يكمموا الأفواه كما كانوا من قبل، فلجأ النظام إلى حجة الإرهاب لإخافة الناس بتفجير هنا وتفجير هناك يضعه زبانية النظام ومأمورو حلف الناتو وجواسيس السفارات المتصارعة على أرض تونس، أرض البطولات والجهاد في أعماق التاريخ. وكان النظام ينسب هذا إلى إرهابيين مجهولين! لقد نشطت أمريكا في هذا الجو وهي ليست بعيدة عن صنعه أو المساهمة فيه، وأصبحت سفاراتها أوكاراً لشراء السياسيين التونسيين المؤيدين لأوروبا، ونشطت أيضاً في اختراق الجيش، وخشيت بريطانيا على النظام أن يسقط أمام أمريكا فأوعزت إليه على طريقتها في حماية عملائها الصغار الضعاف، أن ينحني أمام أمريكا ولكن دون المساس بمصالح بريطانيا الأساسية! وهي تثق بولاء السبسي فهو من دهاقنة عملاء بريطانيا... وهذا ما كان:
أ- قام السبسي بزيارة أمريكا والتقى مع رئيسها أوباما يوم 21/5/2015، وقد بحث أوباما في اجتماع مع السبسي الأوضاع في ليبيا والمنطقة قائلا: "إن الولايات المتحدة ستقدم مساعدة في وقت قريب لتتيح لتونس استكمال الإصلاحات الاقتصادية" موقع روسيا اليوم 21/5/2015م ولأن أمريكا تعتبر الحلف الأطلسي رباطاً قوياً لربط عملائها بها كي لا يفلتوا كما فعلت مع مصر فجعلتها حليفاً رئيساً خارج الناتو، فأمريكا كذلك تعتبر الحلف "طُعماً" لجذب عملاء جدد من بريطانيا، ولذلك أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 10/7/2015 استكمال إجراءات منح تونس رتبة حليف رئيس خارج حلف الناتو لتصبح الحليف السادس عشر لأمريكا بعد المغرب والأردن والبحرين والكويت من عملاء بريطانيا...! هكذا يتصارع الكفار المستعمرون في بلادنا على جذب العملاء الخونة من الحكام... هذا يحاول تثبيت عملائه وذاك يحاول اصطيادهم! ولولا الخيانة التي تعشش وتفرخ في قلوب أولئك الحكام لما استجابوا ولما وجد الكفار المستعمرون موطئ قدم لهم في بلادنا قاتلهم الله أنى يؤفكون...
ب- وحتى تجعل بريطانيا لتونس خط رجعة ومبرراً لعدم خضوع تونس للضغوط الأمريكية فقد اتفقت مع بوتفليقة بتصعيد الانزعاج بسبب زيارة السبسي إلى أمريكا والاتفاقات التي تمت وذلك لتحقيق هدفين: إعطاء تونس ذريعة لتتمكن من رفض بعض المطالب الأمريكية التي تعتبر خطراً على نفوذ أوروبا "بريطانيا"، ولهذا صعدت الجزائر الاحتجاج بل ضخمته فكان زوبعة من ريح عاصف... والأمر الآخر توجيه رسالة قوية لأمريكا أن الجزائر لا ترضى عن بريطانيا بديلاً، وأنها لن تقبل بالنفوذ الأمريكي وبخاصة إنشاء القواعد... وقد كان هذا واضحاً من أن الانزعاج لم يكن اعتراضا جدياً على زيارة السبسي بدليل أن الجزائر بعد مبعوثي السبسي للقاء بوتفليقة أرسلت وزير خارجيتها رمطان لعمامرة إلى تونس في 13/7/2015م في زيارة رسمية وفق بيان الخارجية الجزائرية وتبعثرت الزوبعة وأصبحت درجة حرارتها تخف بالتدريج!
ج- ثم تواصلت الاتصالات الأمريكية مع المسؤولين في تونس:
- "أعرب وزير الداخلية التونسي، "ناجم الغرسلي" في تصريحات صحفية، اليوم الجمعة، عقب لقائه نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي، "داس أرفيزي"، في تونس عن امتنانه وتقديره للدعم الأمريكي للديمقراطية في تونس. وأضاف الوزير التونسي أن "التعاون بين بلاده والولايات المتحدة سيتواصل، لأن العدو المشترك واحد، وهو محاربة الإرهاب"". مصر العربية 28/8/2015م.
- "أفادت مساعدة كاتب الدولة للشؤون الخارجية الأمريكي، مكلفة بالشرق الأوسط "آن باترسون" عقب لقائها صباح الثلاثاء في القصبة برئيس الحكومة الحبيب الصيد بأنه تم التطرق إلى "التعاون الثنائي القائم بخصوص التبادل الاستعلامي الوثيق والتنسيق المعلوماتي المستمر بين البلدين حول ملف الإرهاب من أجل تأمين التصدي الناجع لهذه الآفة" أرابسك 1/9/2015.
- "قام مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان توم مالينوسكي بزيارة تونس في 2/9/2015 ورافقته آن باترسون مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، وقد صرح قائلًا: "إن الولايات المتحدة ما زالت ملتزمة بمساعدة تونس لتعزيز قدراتها الأمنية في مجال الاستخبارات والمعدات والتدريب. وإن تونس بحاجة أيضا للدعم في المجال الاقتصادي وتحقيق التنمية خاصة في مناطق الجنوب والمناطق الداخلية"". (وكالة أنباء السعودية 2/9/2015).
- قامت أمريكا "بتعيين سفير جديد فوق العادة في تموز/يوليو الماضي وهو دانيال روبنشتاين وقد شغل مناصب سياسية منها مدير مكتب إسرائيل والشؤون الفلسطينية في وزارة الخارجة الأمريكية وهو يجيد العربية والعبرية وسيتولى المسؤولية أيضا عن أعمال السفارة في ليبيا. ما يعني أن أمريكا تولي تونس أهمية للقيام بالعمل السياسي بداخلها ونقطة انطلاق في منطقة شمال إفريقيا..." ويكيبيديا - الموسوعة الحرة.
- "بدأت كريستين لاجارد زيارة عمل إلى تونس منذ أمس الثلاثاء لتقييم حزمة الإصلاحات التي اتخذتها تونس قبل أيام من المراجعة السادسة لاتفاق الاستعداد الائتماني والبالغ قيمته نحو 1.7 مليار دولار... ودعت لاجارد خلال لقائها بعدد من ممثلي المجتمع المدني والأحزاب والمؤسسات الاقتصادية إلى تعزيز مناعة القطاع البنكي وإرساء إصلاحات ضريبية والحد من البيروقراطية المعيقة للاستثمار." موقع الأيام العدد 9649 الأربعاء 9 أيلول/سبتمبر 2015 الموافق 25 ذو القعدة 1436هـ.
د- ولكن هذه المداراة لأمريكا، والزيارات المكثفة، وكونها بمرتبة حليف من خارج الناتو، لم تجعل تونس تنفذ لأمريكا الأمور الأساسية إخلاصاً من حكامها "القدامى الجدد" لبريطانيا، فقد ضغطت الولايات المتحدة على تونس لتمكينها من إقامة قاعدة عسكرية في البلاد تحت ستار الإرهاب، ولكن زعماء تونس رفضوا ذلك دائما بأمر من بريطانيا، فرفض الحكم السابق والحالي "استضافة" مقر القيادة الأمريكية الإفريقية "أفريكوم" في تونس، وحتى الآن لم تنجح أمريكا في إقامة القاعدة في تونس بسبب ولاء العهدين لبريطانيا! ونقول حتى الآن، لأن أمريكا مستمرة في سياسة الجزرة والعصا مع تونس مستغلة هشاشة النظام وفساده واستفزازه للناس بعودة دهاقنة الساسة الإنجليز في النظام الذي ثار الناس ضده... حتى إذا وجدت أمريكا ثغرة تنفذ منها إلى بسط نفوذها في تونس بدل نفوذ الإنجليز أو تقاسمه، فإنها ستفعل...!
• ليبيا:
أ- حاولت أمريكا لعقود طويلة كسب نفوذ في ليبيا فلم تنجح، وذلك لأن القذافي كان مخلصاً لبريطانيا حريصا على استمرار نفوذها في ليبيا. وقد تعرفت بريطانيا عليه وهو طالب في ساندهيرست ثم رعته وحمته لعقود عدة، واستمر يحفظ لها مصالحها... وهكذا فإنه حتى حصول الانتفاضة في ليبيا في عام 2011 لم يكن لدى الولايات المتحدة أي نفوذ في ليبيا... وقد رأت الولايات المتحدة "المعروفة بالبراغماتية وسياسة فن الممكن" التطورات التي شهدتها منطقة شمال إفريقيا أو ما عرف بالربيع العربي انطلاقا من تونس ثم مصر ثم ليبيا، رأت فيها فرصة للتدخل الأمريكي وإيجاد نفوذ لها يزاحم ذاك الأوروبي. ومن ثم حاولت استغلال الاضطرابات التي حدثت خلال ثورات الربيع العربي وعملت جاهدة هي وعملاؤها على حرفها عن مسارها بشتى الوسائل القذرة فانضمت الولايات المتحدة للتدخل العسكري من أجل كسب النفوذ في ليبيا...
ب- إن أمريكا تدرك أن الوسط السياسي في ليبيا هو صناعة بريطانية، ولذلك بذلت الوسع في عدم استقرار الوضع السياسي في ليبيا إلى أن تتمكن من إنشاء طبقة سياسية تنازع الطبقة السياسية الأوروبية لتزيحها إن استطاعت أو تشاركها السلطة بفاعلية... فكان أن فكرت في خلط الأوراق عسكرياً، وكانت الخطوة الأولى أن تكلف رجلاً عسكريا بالتحرك بما يشبه الانقلاب ضد الوضع القائم الذي يهيمن عليه المؤتمر الوطني حيث الغالبية فيه لرجال أوروبا... وهكذا تحرك حفتر وسيرة حياته تنطق بولائه لأمريكا... فقد أمضى حفتر نحو عشرين سنة في ولاية فرجينيا الأمريكية، حيث "تدرب" على أيدي وكالة المخابرات المركزية، ولم يعد إلى ليبيا، إلا بعد ثورة 17 شباط (فبراير) 2011، التي لعب دوراً فيها خصوصاً في مدينة بنغازي، يصغر ويكبر... ثم تحرك حفتر في 16/5/2014 فشن هجوما على مجموعات مسلحة وصفها بالإرهابية في بنغازي باسم عملية عسكرية أطلق عليها اسم كرامة ليبيا واستمر في مناوشاته وفق السياسة الأمريكية... ثم استمر حفتر بتعطيل أي وضع سياسي مستقر في ليبيا إلا بعد أن يكون له، أي لأمريكا الحظ الوافر، وهكذا كان الطرف الآخر يسعى لأن يكون له، أي لبريطانيا النصيب الأكبر... فأصبح في البلد حكومتان وبرلمانان! البرلمان الليبي في طبرق والمؤتمر العام في طرابلس، وكل منهما له قوة عسكرية! واستطاع حفتر أن يفرض على برلمان طبرق أن يعتمدوه قائداً عاماً للجيش الليبي برتبة فريق، ثم أقسم رسمياً في 9/3/2015، وبذلك فإن حكومة طبرق تهيمن عليها أمريكا... وأما المؤتمر العام وحكومة طرابلس فإن المؤثرين فيه يسيرون مع أوروبا وبخاصة الإنجليز، وشيء من فرنسا، ومع هؤلاء يوجد في المؤتمر رجال مسلمون بعيدون عن الإنجليز ولكن ينقصهم الوعي السياسي الكافي ما يجعل من السهل على رجال أوروبا أن يأخذوهم إلى الجهة التي يريدون!
ج- كانت أمريكا وأوروبا تتقاذف الحلول في ليبيا حسب مصالحهما... أما أمريكا فتفتقر إلى الوسط السياسي في ليبيا كما ذكرنا فجُلُّه من عملاء الإنجليز تقريباً ومن يدور حولهم أو يسير تحت مظلتهم من بعض الحركات الإسلامية التي لا تعي الألاعيب السياسية ونتائجها الوخيمة... ولذلك فإن اعتماد أمريكا هو على الأعمال العسكرية، فكان حفتر ثم دعمُه من مصر، بل إن طلب أوباما من الكونغرس تفويضه القيام بأعمال عسكرية في حالات، هذا الطلب لا يستبعد أن يكون موضوع ليبيا من مفرداته، فقد ذكرت وكالة رويترز في 23/2/2015 أن أوباما بعث برسالة إلى الكونغرس يقول فيها: "إن الوضع في ليبيا ما زال يمثل تهديدا غير عادي واستثنائي للأمن والسياسة الخارجية للولايات المتحدة"، ويفهم من رسالة أوباما أن وضع أمريكا في ليبيا حرج أو في خطر، ولذلك فإن التدخل العسكري يخدم مصالح أمريكا وينقذ عملاءها... وكانت أوروبا قد استبقت ذلك بأن وقفت بقوة ضد التدخل العسكري في الأزمة، فقد صرح وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند في مؤتمر صحافي في الجزائر "لا نعتقد أن عملا عسكريا يمكن أن يؤدي إلى تسوية المشكلة في ليبيا" (روسيا اليوم 19/2/2015).
وهكذا كانت بريطانيا على رأس المعارضين في مجلس الأمن للتدخل العسكري أو بتسليح حكومة طبرق وجيش حفتر فقد صرح إبراهيم الدباشي مندوب ليبيا في الأمم المتحدة لصحيفة الشرق الأوسط (أن بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي بقيادة بريطانيا طلبوا من فريق الخبراء إرسال رسالة ليبرروا معارضتهم الموافقة على صفقة رفع الحظر على السلاح للجيش الليبي، موضحا أن هذه محاولة لإزالة الإحراج عنهم" وقال "بريطانيا لا تريد للجيش الليبي أن يحسم الأمر مع الإرهابيين والميليشيات المسيطرة على العاصمة طرابلس.. هذه لعبة مكشوفة") (الشرق الأوسط 7/3/2015).
د- بعد صرف النظر عن التدخل العسكري بقرار من مجلس الأمن، فقد وافقت أمريكا وأوروبا على القرار بالعمل على الحل التفاوضي لإيجاد حل سياسي للأزمة كل على طريقته! أما أوروبا فتريد من المفاوضات أن تنتج حلاً سياسياً بالسرعة الممكنة لأن الوسط السياسي في غالبه معها؛ فأي حل يديره الوسط السياسي سيكون في صالحها، وأما أمريكا فهي قد وافقت على المفاوضات لأنها لم تستطع أن توجد مدخلاً للتدخل العسكري، ولأنها تفتقر إلى الوسط السياسي في ليبيا، لهذا فهي ستعمل على ابتداع أساليب للتعطيل، فإذا اقتربت المفاوضات من الوصول إلى حل فإنها تفسدها بأعمال عسكرية كغارات من الطيران أو استعمال المضايقة الاقتصادية مثلما حدث عندما طلبت حكومة طبرق من الشركة الوطنية للنفط عدم تحويل عائدات النفط إلى البنك المركزي (مصر العربية - عن نيويورك تايمز 6/4/2015). وجميع هذه الأمور تؤثر سلبياً في استمرار المفاوضات بشكل منتج، ومن ثم توفر مهلة إلى حفتر ليوجد مرتكزاً مؤثراً له يمكنه من تشكيل وسط سياسي فاعل... وهكذا تنتقل المفاوضات من الصخيرات إلى جنيف، وبالعكس دون حسم، وذلك لأن الحوار ليس بين أهل ليبيا، بل حقيقته بين الاستعمار القديم والاستعمار الجديد وفق مصالحهم هم دون اكتراث بمصالح أهل البلد!
ثالثاً: موضوع حفتر وحملته العسكرية في بنغازي في 19/9/2015م:
إن ما قام به حفتر من حملة عسكرية في بنغازي تحت اسم "عملية الحتف" هو ضمن السياسة المرسومة أمريكياً، وهي الضغط والتعطيل إلى أن يحقق مرتكزات ذات شأن على الأرض ومن ثم يوجد وسطاً سياسياً جديداً... أي هو ليس تناقضاً ولا هو صدفة أن يختار حفتر السبت 19/9/2015 أي قبيل الموعد النهائي20/9/2015 الذي كان محدداً سابقاً "أعلن مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، برناردينو ليون، 20 أيلول/سبتمبر موعداً ثابتاً للتوصل إلى اتفاق نهائي بين أطراف النزاع الليبي حول حكومة وحدة وطنية للخروج من الأزمة. وأضاف في حديث للصحفيين في الصخيرات حيث تعقد المحادثات أن ذلك الموعد ثابت وغير قابل للتأجيل." سكاي نيوز عربية 10/9/2015م. وحفتر سيستمر في مثل هذه الأعمال حتى تأمره أمريكا بالتوقف عندما ترى أنها حققت مصالحها... وبريطانيا وأوروبا معها تدرك ذلك ولهذا بذلت الوسع في ترشيح ليون ثم اختياره مبعوثاً للأمم المتحدة في موضوع ليبيا وقد نجحت في ذلك وهي من المرات القليلة التي لا يكون فيها المندوب الأممي أمريكي الهوى! إن ليون هو أقرب إلى كونه مبعوث أوروبا منه إلى مبعوث الأمم المتحدة لذلك فقد كان ليون يبذل الوسع في عدم تمكين حفتر ومن ورائه أمريكا من التعطيل، فكلما أثاروا مسألة يحاول أن يحبطها أو يبدي مرونة تجاهها، بل حاول استقطاب القبائل للمفاوضات لإيجاد قوة دفع لها في وجه التعطيل وكان ذلك برأي من بريطانيا لكنه فشل في ذلك "ذكر حسين الحبوني أحد أعيان المنطقة الشرقيّة أنّ المبعوث الدّولي استدعى المشايخ والحكماء عندما أيقن أنّ حوار الفرقاء فشل ويدور في حلقة مفرغة فلجأ ليون إلى عقد اجتماع بأعيان القبائل... وكانت تسريبات من القاهرة كشفت أن سفير بريطانيا السابق لدى ليبيا مايكل آرون هو من طلب من المبعوث الدّولي الاجتماع مع مشايخ القبائل مشيرا إلى أنّهم مكوّن أساسيّ ومن غير الممكن تجاهل بعثة الأمم المتحدة لذلك المكون." المغرب - جريدة يومية مستقلة تونسية - 11/09/2015م".
ورغم حصافة ليون في إظهار أنه على الحياد وإخفاء أنه أوروبي الهوى إلا أنه كان أحياناً ينكشف ويتهمه برلمان طبرق بالتحيز "وأثارت خطوات ليون الأخيرة غضب برلمانيين ليبيين، حيث اتهموه بأن همه الوحيد الاستجابة لكل مطالب المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، وكانت القطرة التي أفاضت الكأس اجتماعه بمجموعة من فجر ليبيا والإسلاميين المتشددين في تركيا ثم إشراك عبد الرحمن السويحلي أحد المتهمين بجرائم حرب من طرف مجلس الأمن... "صفحة أخبار ليبيا 24 في 11/9/2015م، ولا يهتم ليون بهذا الاتهام، بل هو انتقد بشدة حملة حفتر العسكرية تلك في بنغازي (جاء في بيان بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا أنها "تدين بشدة التصعيد العسكري في بنغازي، السبت 19/9/2015م، حيث يهدف توقيت الضربات الجوية بشكل واضح إلى تقويض الجهود المستمرة لإنهاء الصراع، وعرقلتها في الوقت الذي وصلت فيه المفاوضات إلى مرحلة نهائية وحرجة..." صحيفة المصريون 21/9/2015م)... وبطبيعة الحال فإن بريطانيا تدرك موضوع التعطيل من حفتر بدافع من أمريكا وأنها الممسكة بزمامه وأن الحل يمر عبرها... ومن ثم فإن مفاوضي المؤتمر يدركون ذلك، وقد تناقلت بعض الأنباء أن ثمة توجهاً من أطراف المؤتمر للقاء بعض المسئولين الأمريكيين لمحاولة التفاهم معهم. "استبقت حكومة
الإنقاذ في طرابلس المنبثقة عن المؤتمر اجتماع الصخيرات، واستقبل رئيسها خليفة الغويل مسؤولاً أمريكياً في تطور ملفت. وأبلغت مصادر حكومة طرابلس «الحياة» أن الغويل وقع سلسلة اتفاقات ليل الأحد - الاثنين مع وليام بلمور نائب رئيس مؤسسة إدارة الخدمات اللوجستية الأمريكية، شملت مذكرات تفاهم لـ «فتح آفاق جديدة للتعاون في مجالات الدفاع والصحة والاستثمار». ووصفت مصادر في حكومة طرابلس تلك الاتفاقات بأنها «خطوة مهمة» في العلاقة مع أمريكا." الحياة: الثلاثاء 22/09/2015م.
وعلى ضوء كل ذلك فيبدو أن الطرفين كفرسي رهان لم يستطع أي منهما حسم الأمر لصالحه بل يحتاجان إلى مناورات خبيثة لاحقة يتنافسان فيها على امتصاص دماء أهل ليبيا وثرواتهم يساعدهم في ذلك عملاء محليون لا يخشون الله ورسوله والمؤمنين... وهكذا كان الطرفان بحاجة إلى استراحة محارب! تمتد إلى 20/10/2015 كما قال ليون أو تزيد كما هو متوقع: (قال الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة برناردينو ليون في ليبيا، خلال مؤتمر صحفي لاستعراض مستجدات الحوار السياسي الليبي في الصخيرات الذي نظم مساء أمس الاثنين "لدينا نص نهائي ومهمتنا انتهت، والأمر الآن يعود إلى المشاركين للرد على هذا النص، ولن يكون الرد بمزيد من التفاوض والتعديل، ولكن بقول نعم أو لا للاتفاق"... وشدد المبعوث الأممي على ضرورة البدء في تنزيل الاتفاق قبل تاريخ العشرين من أكتوبر المقبل..." المغرب اليوم الثلاثاء 22/9/2015م).
والخلاصة هي أن ليون يريد إيجاد حل سياسي بالسرعة الممكنة لأن أوروبا تريد ذلك بشرط أن تكون المكاسب الفعلية من خلال هذا الحل لصالحها لأنها تعتبر نفسها المالكة لليبيا منذ عقود، وأمريكا تعتبر أوروبا كانت ثم ماتت وهي وريثتها الوحيدة، فإن لم تكن الوحيدة، فهي وأوروبا شركاء في التركة... أما أن تعود أوروبا منفردة في ليبيا فهو خط أحمر! وهذان المطلبان يصعب التقاؤهما على الأقل في المدى المنظور، ولذلك فإنه يصعب، إن لم يستحل، على ليون أن يوجد حلاً حقيقياً مستقراً، وإنما يمكنه إيجاد حل على الورق، واتفاق موقع عليه اليوم ثم يُنقض غداً وهذا ما يجري حالياً... إلا أن يستقوي أحد الطرفين على الآخر فيفرض الحل الذي يريد، أو أن يمسك أهل البلد زمام قضيتهم بيدهم ويتقوا الله ربهم فيحكِّموا شرعه ويدوسوا الاستعمار القديم والجديد ومعهم أو قبلهم العملاء والأتباع والأشياع. والجدير بالذكر أن ولايات تونس وطرابلس الغرب والجزائر لما كانت تابعة لدولة الخلافة كانت تفرض على أمريكا الضرائب والشروط حتى تمر سفنها من مياه هذه الولايات فأين كانت في ظل الخلافة... وإلى أين وصلت الآن في ظل غياب الخلافة...
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾