- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
مصر بين قبضة المؤسسات الدولية واستحقاقات السيادة الشرعية
الخبر:
ذكرت الشرق بلومبيرج على موقعها الجمعة 14/11/2025م، أن مديرة إدارة الاتصالات بصندوق النقد الدولي، جولي كوزاك، قالت في إفادة صحفية إن الأداء الاقتصادي الكلي في مصر "يتحسن، إذ يتعزز النمو وتتحسن الانضباطات المالية". وألمحت إلى أن البلاد لا تزال تواجه مواطن ضعف تتمثل في ارتفاع مستوى الدين، وارتفاع احتياجات التمويل، واستمرار الحضور القوي للدولة في الاقتصاد.
التعليق:
تعيش مصر اليوم في خضم الأزمات الاقتصادية التي تتعمّق عاماً بعد عام، بينما تُصِرُّ السلطة على المضي في الطريق ذاته الذي أوصل البلاد إلى هذا المنحدر: الارتهان لصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الغربية، والقبول بشروطها وبرامجها وسياساتها التي تُثقل كاهل الناس، وتستنزف موارد الدولة، وتُحكم القبضة الاستعمارية على قرارها السياسي والاقتصادي لعقود قادمة.
التصريحات الأخيرة لمديرة إدارة الاتصال في صندوق النقد الدولي، جولي كوزاك، تكشف بوضوح طبيعة العلاقة بين الصندوق والنظام في مصر. فهي تتحدث عن تحديات هيكلية واحتياجات تمويل ضخمة وديون مرتفعة وهيمنة للدولة على الاقتصاد، لكنها في الوقت نفسه تدفع باتجاه الوصفة نفسها: بيع أصول الدولة، وتوسيع القاعدة الضريبية، ورفع الدعم، وضخ مزيد من الأموال لسداد عوائد الديون، وتقليص دور الدولة لصالح الشركات الأجنبية والقطاع الخاص المرتبط بالقوى الدولية.
هذه ليست نصائح ولا رؤية إصلاحية، بل هي إملاءات استعمارية صارت معروفة في كل دول العالم التي خضعت لهذا الصندوق، وانتهى بها الأمر إلى فقدان سيادتها ووقوعها في شَرَك المديونية الدائمة. وواقع مصر اليوم دليل واضح: عشرات القروض، مليارات الدولارات، بيع أصول، توسّع ضريبي غير مسبوق، وكل ذلك لم يُنتج إلا مزيداً من الغلاء والانكماش وتآكل القدرة الشرائية وهروب الاستثمار الحقيقي.
إن جوهر الأزمة ليس عجزاً عن إدارة الاقتصاد ولا نقصاً في الموارد؛ بل هو غياب السيادة الحقيقية، وغياب النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يُقيم العلاقة بين الحاكم والرعية، ويُحدّد دور الدولة، ويمنع القروض الربوية، ويرفض التبعية للمؤسسات الغربية مهما كان الثمن.
إن الاقتراض الربوي محرّمٌ قطعاً، والارتهان للكافر المستعمر جريمة، وتفويض الهيئات الأجنبية للتحكم في سياسات البلاد يُعدّ تفريطاً في سلطان الأمة. ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، هذه الآية قاعدة مانعة لأي شكل من أشكال التبعية التي تمكّن القوى الكافرة من رقاب المسلمين وتوجيه اقتصادهم وسياساتهم.
وبرامج صندوق النقد ليست مساعدات، بل أدوات نفوذ. والقروض ليست حلولاً، بل قيود سياسية تتشعب في كل تفاصيل قرار الدولة. ومن ينظر في بنود الاتفاقات يرى أنها تتدخل في أسعار الطاقة والضرائب والإنفاق العام وأولويات الموازنة وقوانين الاستثمار وهيكلة القطاع العام وحجم الاحتياطي النقدي، بل وتفرض على الحكومات تسليم جزء من مواردها النقدية للصندوق بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا في ميزان الشرع إعطاء سلطة للكافر على المسلم، وهو أمر محرم، مهما جرى تجميله بمصطلحات السياسات الاقتصادية والإصلاحات الهيكلية.
أبرز ما يصرّ عليه الصندوق بيع أصول الدولة: الموانئ، الشركات الاستراتيجية، قطاعات الطاقة، والبنوك. هذا ليس استثماراً، بل نقل ملكية الأمة إلى شركات أجنبية، ثم تحويل عوائد البيع إلى سداد ديون لا نهاية لها. وهكذا تخسر البلاد أصولها المنتجة الدائمة مقابل إعطاء الغرب أموالاً جديدة يعيد تحصيلها عبر الديون والربا.
إن أموال الدولة ليست ملكاً للحاكم، بل هي ملكية عامة أو ملكية للدولة تُدار وفق أحكام محددة، ولا يجوز بيعها للأجنبي ولا التنازل عنها، ولا تحويلها إلى أدوات بيد الشركات الدولية. والواجب في موارد الأمة أن تُدار بما يحقق مصالح الناس، لا مصالح الدائنين.
المؤسسات الدولية تتحدث دائماً عن فوائد الإصلاحات، وعن النمو المستدام، والتنافسية، لكن الواقع أن هذه البرامج هي التي فجّرت الأزمات المتتابعة: من ارتفاع الضرائب بلا توقف والغلاء المتواصل إلى تآكل العملة مع تراجع الإنتاج وهروب الاستثمارات الحقيقية ومن ثم ارتفاع خدمة الدين حتى استحوذت على أغلب إيرادات الدولة، بينما الناس يدفعون ثمن سياسات لم يختاروها ولم يقبلوها، وبرامج فرضت عليهم دون رضاهم، وقروض لم تُصرف على مصالحهم، بل على سد عجز متضخم وفوائد ديون سابقة.
إن الحل ليس في مزيد من الاقتراض ولا في التنازل عن أصول البلد، بل في قطع التبعية بالكامل وبناء اقتصاد قائم على أحكام الإسلام بدءا بتحريم الربا بجميع صوره وإعادة تنظيم الملكيات إلى عامة، دولة، فردية، دون خلط أو تحويل ملكية الأمة للأجنبي. إلى جانب استخراج الثروات الطبيعية لصالح الرعية وليس لصالح المستثمرين الأجانب، وإلغاء الضرائب الجائرة والاكتفاء بما شرعه الله وفق نظام مضبوط، في ظل توجيه الإنفاق العام إلى الرعاية الحقيقية للناس لا إلى خدمة الديون، تزامنا مع منع هيمنة الشركات الأجنبية على القطاعات السيادية والاستراتيجية وقطع دابرها تماما.
إن الخضوع لصندوق النقد والمؤسسات الغربية ليس مجرد خطأ اقتصادي، بل هو تفريط في حقوق الأمة، وتكريس لواقع التبعية الذي يُسلم مقدرات البلاد للمستعمر، ويُرهق الناس بسياسات لا تمت إلى العدل بصلة.
إن الواجب الحقيقي هو التحرر من هذه التبعية وقطع العلاقة مع المؤسسات التي تُغرق البلاد في الديون، وبناء نظام اقتصادي مستقل ينطلق من عقيدة الأمة وأحكامها، ويعيد للناس حقوقهم، ويضع ثرواتهم في خدمة حياتهم ومستقبلهم، لا في خدمة الدائنين والأجنبي.
وأخيرا، يا أجناد الكنانة: يا أهل القوة والمنعة، ويا أهل السلاح والعزة، أليس فيكم رجل رشيد؟! أما ترون ما يُفعل بالبلاد والعباد؟! أما ترون كيف تُرهن مصر للصندوق الربوي، وتُباع أرضها وشركاتها، وتُرهق أمتها بالضرائب والجوع؟ إنكم اليوم على مفترق طرق: إما أن تبقوا حراساً لنظام فرّط في دينكم ودمّركم ودمّر بلادكم، وإما أن تنهضوا لله نهضة يرضاها عنكم، فتنصروا الإسلام، وتقيموا الخلافة الراشدة، وتعيدوا مصر درة تاج الأمة كما كانت. وإن التاريخ لن يرحم المتخاذلين، وإن الله سائلكم يوم القيامة عمّا مكّنكم فيه، فكونوا كما كان سعد بن معاذ، وأسامة بن زيد، وصلاح الدين… رجالاً لا يخشون في الله لومة لائم، وانصروا دينكم لعل الله يكتب على أيديكم النصر والعزّة، وتكونوا محلّ فخر الأمة في الدنيا، ومحلّ رضوان الله في الآخرة.
﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمود الليثي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر



