- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
التمييز العنصري: سمة بارزة للنظام الرأسمالي
الخبر:
تناقلت وسائل الإعلام والتواصل الإلكتروني مقطع الفيديو الذي أظهر مقتل الأمريكي من أصول أفريقية يوم الاثنين 2020/5/25 خنقا تحت ركبة رجل بوليس في مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا الأمريكية.
التعليق:
لم يكن مقتل جورج فلويد الحالة الأولى في أمريكا والتي تمثل أقسى حالات التمييز العنصري ولن تكون الأخيرة. فقد سبقته بأقل من 3 أشهر حالة مقتل أحمدو أوبري في ولاية نورث كارولينا، وفي أقل من شهر مقتل ريتشارد بروكس في أتلانتا جورجيا، وغيره من قبل كثير. ومثل هذه الجرائم ليست محصورة في أمريكا بل تمتد في العالم الذي تحكمه الرأسمالية البشعة والعنصرية المقيتة، فقد اعتدى البوليس بشكل وحشي في لندن أمام كاميرات المشاهدين على شاب من أصول يمنية أمام أعين زوجه وطفله ذي الأربع سنين قبل عدة أشهر في شهر تشرين الثاني من عام 2019، ومطلع هذا العام قتل جنود الاحتلال في القدس طفلا على باب الأسباط بنفس طريقة مقتل فلويد.
لقد تحرك الشارع في مدن أمريكا الكبرى مثل نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس وغيرها مطالبين بتحقيق العدالة ورفع العنصرية من أمريكا والقضاء عليها. وتضامن كثير من أطياف الشعب في أمريكا مع الحركة العارمة ضد العنصرية والتمييز العنصري. وامتدت الاحتجاجات إلى مدن عالمية مثل لندن وبرلين وباريس. ولا شك أن الحركات التي اجتاحت كبرى المدن في العالم تعبر عن عمق الجريمة التي يتعرض لها كل من يعاني من آلام التمييز العنصري.
والحقيقة التي لا يدركها أو لا يريد مواجهتها كثير من الناس حتى أولئك الأكثر قهرا واضطهادا هي أن مشكلة التمييز العنصري في العالم اليوم وخاصة في أمريكا ليست مشكلة عابرة، ولا هي متعلقة بالعنف البوليسي أو أنظمة تعامل البوليس مع المعتقلين. وإن كانت ظاهرة العنف البوليسي بحد ذاتها تشكل تحديا كبيرا لإنسانية الملونين في أمريكا خاصة من أصول أفريقية.
فالعنصرية والتمييز العنصري في أمريكا خصوصا هي جزء أصيل في صميم النظام الرأسمالي وما أفرزه من ثقافة عنصرية وما بناه من حضارة لا تقيم وزنا لغير القيمة المادية النفعية. فمنذ اللحظة التي بنيت فيها الرأسمالية على فكرة فصل الدين عن الحياة، قد تركت تحديد النظرة التي يحملها الإنسان لنفسه ولغيره، تركها لميول الشخص وأهوائه. وليس خافيا على أحد أن ميول الشخص وأهواءه إذا تركت هكذا بدون ضابط خارجي صحيح، فإنها تتكيف مع الغرائز والشهوات وأهمها غريزة البقاء وما ينتج عنها من تعصب للنفس أولا ثم للعائلة والقبيلة واللون وغيرها من العصبيات. فالتمييز بين الناس إذا ترك للهوى والغرائز والمشاعر فإنه يؤول في النهاية إلى ما رأيناه في مينيسوتا قبل شهر وما رأيناه في جنوب أفريقيا لمدة عقود من أنظمة قامت على التمييز بين السود والبيض.
ثم إن الرأسمالية حين أكدت بشكل قاطع أن القيمة الوحيدة التي تجب مراعاتها حين النظر إلى الأشياء والأعمال هي القمة المادية النفعية، وما عداها فلا قيمة لها في الحياة العملية، فإنها جعلت النظرة إلى الإنسان مرتبطة ارتباطا عضويا بمنفعته وقيمته المادية لا الروحية ولا الإنسانية ولا الأخلاقية. فالرجل الأسود عندهم كان أداة إنتاج ومعول حراثة وزراعة وحمالا يحمل الأمتعة. وما دام ضعيفا وغير قادر على التمرد فإنه عبد مستعبد. وإذا رفع عنه نير العبودية فإنه عامل ليس له أي قيمة غير عضلاته التي يستعملها لإسعاد أو سد حاجة من يملك المال والمصنع.
وحين أقرت الرأسمالية أن الموارد المالية وموارد المنفعة في أي مكان وزمان هي غير كافية وهي أقل من حاجة الناس، فإنها تكون قد دفعت الناس بشكل طبيعي لحيازة أكبر قدر من الموارد والمال على حساب الأضعف والأقل قدرة على حيازتها. ومن هنا كانت النظرة دائما لأفارقة أمريكا بوصفهم الأقل قدرة على التنافس بأن ضعفهم وحالهم هو نتيجة طبيعية للصراع على الموارد الشحيحة. وبالتالي فإن قتل فلويد وأحمدو وغيرهم، وإيداع السجن ولو لمرة واحدة أكثر من 80% من السود الأمريكان هو شكل من أشكال الصراع على الموارد الشحيحة كما يدعون.
لذلك كله لم يكن مستغربا أن يكون نزلاء سجون أمريكا غالبيتهم من السود بالرغم من أن نسبة السود في أمريكا أقل من 15% من السكان. وأن الفقراء غالبيتهم من السود بالرغم من أنهم ليسوا أكثرية. وخلال جائحة كورونا كان المصابون أو الذين ماتوا في مرض كورونا أكثرهم من السود بالرغم من أن نسبة وجودهم في أمريكا أقل بكثير من البيض.
إنه مما لا شك فيه أن العنصرية والتمييز العنصري بأشكاله المختلفة متجذر في أساس النظام في أمريكا. وهو منتشر كالسرطان في الجسد الأمريكي لا ينجو منه إلا النزر اليسير من الناس. كما أن الرد على التمييز العنصري قد حرك عنصرية بالاتجاه المعاكس، فالأسود الذي عانى من قرنين من العبودية والاضطهاد والقهر ليس لسبب إلا لأنه ذو لون آخر، وليس لديه قوة كافية للمواجهة، دفعه للشعور أولا بالاشمئزاز من الطرف الذي استعبده، ثم بالاشمئزاز من لونه وشكله وحياته. فالعنصرية والتمييز تولد لدى الطرف الآخر عنصرية مثلها أو أشد.
وإذا بقي الموضوع متعلقا بمن هو الأفضل، ومن هو الأسمى، وأي جنس هو الأرقى، وأي لون هو الأصفى، فلا شك أن النتيجة دائما واحدة وهي تحيز شكل ضد شكل، ولون ضد لون، وغني ضد فقير، وعرق ضد عرق آخر. فإذا أراد الناس بوصفهم بشرا سواء أكانوا بيضا أم سودا، إذا أرادوا أن يجدوا معيارا ومقياساً للتفاضل والتمايز غير قابل لإشعال الصراع واضطهاد فئة لأخرى، وقتل أسود تحت ركبة أبيض، أو نهب مال الأضعف، وكسر عظام الأهش عظما، إذا أراد الناس أن يجدوا المعيار الأفضل والأصلح عليهم أن يبحثوا عن المعيار والمقياس خارج نطاق الإنسان نفسه. فالإنسان سواء أكان منغمسا بغرائزه وشهواته أو لديه بعض الأفكار عن الحياة كفكرة الرأسمالية لا يمكن أن يرتفع عن واقعه ولونه وشكله وعرقه وتحيزه لكل ذلك.
والحقيقة التي يجب تصورها وإدراكها دائما أن الذي لا يحمل تحيزا مطلقا، وليس له هوى مطلقا، وليس بينه وبين لون أو عرق نسبا هو الله الذي لا إله إلا هو. ولا يمكن أن يكون حكما بين تعنصر الناس وميلهم وهواهم وتحيزهم للون أو عرق أو مال، لا يمكن أن يكون إلا الله والذي هو أحد صمد، وليس له والد ولا ولد، ولا يكافئه أحد.
فحين يطالب اليوم السود أو البيض بالعدل والعدالة، فلا يمكن للعدل أن يوجد مع الهوى والميل الغريزي. ولا تتوفر هذه الصفة في أي من البشر مهما سمت عقولهم، فكلهم بشر تتنازعهم أهواء وميول غريزية. فالعدل لا يمكن أن يوجد في الدائرة نفسها التي يوجد بها الهوى والميل.
والله تعالى حين أراد أن يبين للناس كيف يقومون بالعدل وكيف يكون بينهم بيّن لهم بكل وضوح وجلاء الكيفية التي يتحقق بها العدل حين قال جل شأنه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. محمد جيلاني